المخلوقات الفضائية في المنطقة الخضراء ومأساة العراق
انفوبلس/..
رعد القادري
في رحلة مشتركة إلى العراق في مايو 2003، بعد سقوط نظام صدام حسين مباشرة، لاحظ المحلل اللامع للعراق توبي دودج أن المنطقة الخضراء، التي ضمت سلطة التحالف المؤقتة (حكومة الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة)، كانت أشبه بسفينة فضاء هبطت وسط بغداد: كان المسافرون محبوسين في كبسولتهم الواقية، خائفين من الزيادة في سمية الهواء خارجها، وكانوا متفاجئين من عداء السكان الذين لم يكونوا يعرفونهم أو يفهمونهم، وكان من هم خارج سفينة الفضاء مفتونين بها، وكانوا حريصين على إيجاد طريقة للدخول، وهم على يقين من أن هذا كان يمثل طريقًا للحصول على المكافأة.
عندما وجدت نفسي مقيمًا في سفينة المنطقة الخضراء الفضائية بعد بضعة أشهر، كجزء من مكتب الممثل الخاص للمملكة المتحدة، كنت أفكر كثيرًا في مدى صحة هذا التشبيه.
من نواحٍ عديدة، صمدت المنطقة الخضراء أمام اختبار الزمن، حتى عندما تم استبدال القادة الأمريكيين بقادة عراقيين.
لم يقتصر الأمر على انفصال سلطة التحالف المؤقتة التي تقودها الولايات المتحدة، وبالتالي سفارة الولايات المتحدة القوية، عن العراق والعراقيين بشكل عام، بل وفرت سفينة المنطقة الخضراء الفضائية العزلة والحماية التي يتمتع بها القادة السياسيون العراقيون اليوم، والذين جعلوا سفينة الفضاء هذه خاصة بهم، بعيدًا عن القوى خارج جدرانها.
يمكن إرجاع الكثير من الفوضى التي تسببت فيها السياسة العراقية في عام 2022 إلى هذه العزلة، ونوع الحكومات التي استمرت فيها.
بينما كُتب الكثير عن هدف وشرعية ومميزات إسقاط نظام صدام حسين، الا ان الخطيئة الأصلية لم تكن الغزو نفسه، بل بالأحرى كيف كان مسؤولو الاحتلال الأمريكي غير مستعدين لما سيأتي بعد الاحتلال، وكيف بقوا منفصلين عن العراق نفسه.
الحديث عن قلة عدد القوات الأمريكية، المدنية والعسكرية، وعدم تجهيزها بشكل جيد لالتقاط أجزاء دولة محطمة وإعادة تجميعها هو شيء مألوف.
قلة من المحتلين كان لديهم اكثر من المعرفة السطحية بشأن طبيعة العراق وما يتطلبه الأمر لإعادة بناء قشرته الممزقة.
في بعض الأحيان، بدا أن سلطة الاحتلال تتعامل مع البلاد على أنها مجموعة أيديولوجية؛ هدية تم تسليمها إلى مسؤولي الولايات المتحدة والتحالف لتجربة نظرياتهم السياسية والاقتصادية عن الحكومة المحدودة، واللامركزية في السلطة، والاقتصاد النيوليبرالي، والشفافية، والديمقراطية وغيرها من النظريات.
كان أحد الأصدقاء العراقيين، وهو من أشد المنتقدين لصدام حسين والذي لم يغادر العراق أبدًا، يمازح ذات مرة بالقول إنه يمكن إدخال هذه الكلمات الطنانة في أي بيان بشأن أي سياسة أو توجيه من أجل تبريرها.
داخليا، غالبا ما استخدمت سلطة التحالف مصطلح "الجانب الصحيح من التاريخ" لوضع مقترحاتها وسياساتها، كما لو أن مد الأحداث سيؤدي حتما الى اتجاه واحد فقط.
ما كان مفقودًا هو أي فهم حقيقي للحاجة إلى إعادة بناء المؤسسات وكيفية إرساء سيادة القانون لتأمين طريق العراق إلى حكومة تمثيلية حقيقية.
غالبًا ما بدا بناء المؤسسات بمثابة لعنة لمسؤولي سلطة الائتلاف المؤقتة، ليس فقط لأنه كان يتعارض مع مفهوم الحكومة الصغيرة السائدة والعقيدة النيوليبرالية، ولكن لأن إنشاء أسس دائمة للحكم الفعال كان سيتطلب بصمة احتلال أكبر بكثير، وأكثر قوة.. ووجود احتلال طويل الأمد كان شيء لا تريد ادارة بوش النظر فيه.
لن يتطلب الأمر المزيد من القوات فحسب، بل سيتطلب جيشًا من الإداريين الفعالين الذين يمكنهم فهم البلد وإدارته بفعالية لسنوات.
كان يمكن لسلطة التحالف المؤقتة أن تتواصل مع صفوف العراقيين خارج سفينة المنطقة الخضراء الفضائية للمساعدة في تحقيق المهمة، لكن ذلك كان سيقوض التحركات نحو تفكيك جميع بقايا النظام السابق، كما قال معظم الجمهوريين المتعصبين والقادة السياسيين الجدد في العراق.
والأهم من ذلك، أنه كان سيفرض مواجهة مع كادر من الشركاء العراقيين المختارين - إلى حد كبير من أعضاء المعارضة المنفيين سابقًا والآن زملائهم من سكان المنطقة الخضراء - الذين اختارت الولايات المتحدة العمل معهم لإعادة بناء "العراق الجديد"، كما كان يُطلق عليه دائمًا.
التناقض الذي واجهته سلطة الائتلاف المؤقتة والمتمثل في الموازنة بين الحاجة إلى احتلال أطول وأكبر من أجل تغيير البلاد، مع مطالب بنقل سريع للسلطة من القادة العراقيين الذين نصبتهم سلطة التحالف المؤقتة، تسببت في غرق هذه السلطة.
كانت المخاطر واضحة، والحلول الفعالة معقدة سياسياً، وفي نهاية المطاف، حلت واشنطن هذه المعضلة من خلال صيغة تسوية أثبتت أنها عديمة الجدوى سياسياً تتمثل في تسليم سريع للسلطة لكن مع وجود أميركي كبير.
لم يكن هذا الخطأ الفادح مجرد مسألة جهل وغطرسة أمريكية.
في حين أن إدارة بوش وخلفائها أظهروا مستوى كاف من الجهل والغطرسة، إلا أنهم لم يشرعوا بوعي في تقويض نسيج الدولة العراقية أو خلق وحش فرانكشتاين الذي خلفه غزو واحتلال عام 2003.
كما قال لي جنرال سابق قبل الحرب، لقد غزت الولايات المتحدة العراق لانها استطاعت ذلك.
لقد كان، إلى حد ما على الأقل، عملاً من أعمال الانتقام الإمبراطوري واستعراضًا للقوة في أعقاب صدمة ومأساة 11 سبتمبر، وهو الحدث الذي شوه الولايات المتحدة بطريقة لم يفهمها سوى القليل من غير الأمريكيين.
كانت واشنطن مصممة على إعادة تشكيل الشرق الأوسط في أعقاب انهيار البرجين التوأمين، لبدء تأثير الدومينو الذي من شأنه أن يرسخ ما اعتقدت أنه سيكون نظامًا نيوليبراليًا متحالفًا معها في منطقة لم تعد تشكل تهديدًا.
ودائمًا ما بدا أن هناك اعتقادًا حقيقيًا بأنه، إذا عرض "الاجانب" هدية، فإن الشعب العراقي والقادة العراقيين، الذين كانت الولايات المتحدة تعمل معهم، سيقبلونها بامتنان.
كان من الممكن أن يقبل الشعب العراقي بهذه الهدية لو حصل على بوادر فوائد مادية بعد زوال صدام، لكن هذا كان سيستغرق وقتًا، وهو ما افتقرت إليه واشنطن.
من الخارج، لم يكن العراق مجرد سياسة خارجية أو مشاركة عسكرية.. بل كان قضية سياسية داخلية لإدارة بوش وخلفائها.
ولهذا السبب، كانت القرارات مبنية على الجداول الزمنية السياسية المحلية للولايات المتحدة والرأي العام الأمريكي، وليس من واقع واحتياجات الوضع في العراق.
مع تضاؤل الدعم الشعبي الأمريكي للحرب التي بدأت لا تحظى بشعبية على نحو متزايد، ازداد الضغط على البيت الأبيض لإظهار تقدم سريع، وأصبح مقياس هذا التقدم أضيق وأكثر سطحية.
اجريت الانتخابات بصورة سريعة، وتم اختصار النقاشات بشأن التشريعات الرئيسية، واقتصر اتخاذ القرار على مجموعة صغيرة بشكل متزايد من المحاورين العراقيين - الأكراد والشيعة الإسلاميين المختارين - الذين وثقت بهم واشنطن لرعاية أجندتها.
تم اختصار عملية بناء الدولة، وهي عملية كان من الطبيعي أن تستغرق سنوات إن لم يكن عقودًا بالنظر إلى تاريخ العراق المدمر - إلى شهور معدودة.
تم تقديم إصلاحات قصيرة المدى من اجل اخفاء الاختلافات بشأن القضايا الدستورية والقانونية الأساسية، مما حد من المناقشات أو التسويات المحلية التي اشتدت الحاجة إليها.
وكما اعترف لي أحد السفراء الأمريكيين لاحقًا، فقد فرضت الولايات المتحدة سياسة غير مكتملة أو غامضة في مجالات مثل الدستور أو الترتيبات المتعلقة بالثروات النفطية لأنها اضطرت إلى ذلك، معتقدة أن القادة العراقيين سوف يملأون الفجوات في وقت لاحق.
وبالتالي، استرشدت قرارات واشنطن بشكل متزايد بالمصالح السياسية الأمريكية، وليس المصالح العراقية.
علاوة على ذلك، بعيدا عن أن تكون سيدا إمبراطوريا منفصلا - إذا كان ذلك ممكنا - أصبحت الولايات المتحدة لاعبا حزبيا في المشهد السياسي العراقي، فقد وجهت المصالح الأمريكية صنع السياسات والمشاركة مع العراق.
أتذكر أن أحد كبار المسؤولين الأمريكيين أخبرني في عام 2007، عندما بدأت الولايات المتحدة "زيادة قواتها" في العراق أن تمكين ميليشيا شيعية كبرى من إدارة الأمن في محافظة جنوبية بصورة مستقلة عن قوات الأمن العراقية كان ضرورة تكتيكية للولايات المتحدة، وان النظر في الآثار السلبية المحتملة على المدى الطويل لمثل هذا التحرك على السياسة والأمن العراقيين سيتعين عليه الانتظار حتى يتم معالجة الحتمية الأمنية الفورية.
وبالمثل، كانت قرارات زيادة القوات والانسحاب العسكري الأمريكي، والكثير من القرارات التي اتخذت بينهما، مدفوعة ونفذت في المقام الأول من خلال الاحتياجات السياسية لواشنطن، وليس احتياجات العراق: ما كان جيدا للولايات المتحدة يجب أن يكون جيدا بما فيه الكفاية للعراق؛ إذا لم يكن كذلك، فليكن، طالما أن أي إجراءات لم تهدد الاجندة السياسية المحلية للإدارات الأمريكية.
ولكن سرعان ما أصبحت واشنطن جزءا من اللعبة، بدلا من أن تكون فوق السياسة، ما ادى الى افساد النظام السياسي العراقي الجديد.
لم يبدو أن كبار القادة الأمريكيين - باستثناء محتمل لرئيس سلطة الائتلاف المؤقتة بول بريمر - يقدرون أبدا أن المعارضة العراقية لم تكن حليفا او صديقًا، بل متلاعبين ساخرين رأوا القوة العسكرية الأمريكية كوسيلة لتحقيق غاياتهم السياسية التي لم تتماشى أبدا مع مثالية واشنطن.
كان بعض مسؤولي سلطة الائتلاف المؤقتة الأكثر نفوذا مذنبين بشكل خاص بطمس الخطوط الفاصلة بين ماهو سياسي وماهو شخصي، تاركين أنفسهم فريسة للتلاعب.
علاوة على ذلك، فإن الوصول المحدود للغاية الذي كان لدى معظم العراقيين إلى لسفينة المنطقة الخضراء الفضائية، خاصة بالمقارنة مع المعارضة العراقية السابقة التي كانت في داخل السفينة منذ البداية، ودافعت عن هذه الميزة بكل قوتها، خلقت غرفة صدى سياسية، حيث تم رفض أو تجاهل الآراء المتنافسة أو المتناقضة لمن لم يوصف بانه قريب من النظام.
كانت هذه الاطراف العراقية قد تسلمت ما حلمت به منذ فترة طويلة (الوصول الى السلطة) عبر مجلس الحكم العراقي، ولم يكونوا مستعدين بالمخاطرة بجائزتهم بالسماح للمنافسين العراقيين الذين لا يثق بهم المسؤولون الأمريكيون غريزيا على أي حال بتحدي أجنداتهم - ومطالباتهم.. وهنا يكمن الرابط الحقيقي بين ذلك الحين والآن.
بشرت واشنطن بالديمقراطية والحرية، لكنها لم تنظر أبدا عن كثب في مدى خلاف وضيق أجندات حلفائها العراقيين الذين اختارتهم.
كان هناك جهل متعمد بحقيقة أن هذه الأحزاب العراقية (العديد منها يتصرف بالتنسيق مع القوى الإقليمية) لم تكن مهتمة بالديمقراطية أو بالحرية، ولكن بالاستيلاء على السلطة وتوطيدها، والانتقام، وثني النظام لصالح تحقيق اهدافها.
لقد كانت معركة على الكعكة السياسية، أو "الحصص"، في المصطلح العراقي.
بالاضافة الى ذلك كان يمكن لهذا الاحزاب، وخاصة أقوى الأحزاب الكردية والإسلامية الشيعية من بينها باعتبارها قناة مرور للولايات المتحدة إلى العراق الأوسع، تشكيل ما كانوا يوصلونه للادارة لتعزيز أجنداتهم.
بسرعة كبيرة، أصبحت الولايات المتحدة وهذه الأحزاب ملتصقين ببعضهم البعض، مع واشنطن الاكثر مرونة بين الطرفين.
احتاجت الإدارات الأمريكية إلى إظهار نتائج سياسية كان لها صدى لدى الجماهير المحلية الأمريكية على مدى أطر زمنية أقصر بكثير؛ وعلى هذا النحو، حكمت واشنطن على النتائج في العراق على أساس المصالح الأمريكية في المقام الأول.
أعطى هذا حلفائهم السياسيين العراقيين ميزة واضحة، مما سمح لهم بالتلاعب بالنتائج لصالحهم تحت ستار "النجاح" أو في وقت لاحق "مكافحة النفوذ الإيراني"، وهي لعبة تم دعمها بشكل أكبر من خلال الدعم المتحمس وأصوات "الخبراء" المؤثرين في الولايات المتحدة والغرب.
الحزبان الكرديان الرئيسيان، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، كانا سادة لعبة حشد الدعم السياسي الأمريكي حتى قبل بدء الحرب، لكن الشيعة، وخاصة تحت ستار عادل عبد المهدي وحزبه المجلس الإسلامي الاعلى في العراق، سرعان ما أصبحوا كبار اساتذة اللعبة أنفسهم، وتعلم الآخرون الدرس، وابرزهم رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، الذي أتقن فن تغيير جلده كالحرباء في خدمة مصلحته السياسية والمالية.
بالإضافة إلى التسهيلات، قامت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أيضًا بحماية النخبة السياسية العراقية من المساءلة، مما سمح لها بالاستيلاء على الدولة دون تحدي داخلي.
إذا أنقذ الجيش الأمريكي الشعب العراقي من أسوأ غرائز قادة العراق من خلال العمل كحاجز بين الخصوم في مراحل حرجة (وهو دور لا يُنسب إليه الفضل الكافي)، فقد لعبت القيادة المدنية الأمريكية دورًا أكثر مكراً، حيث أعطت هؤلاء القادة العراقيين أنفسهم حماية شبه كاملة من العواقب المحلية لسوء إدارتهم ودمارهم وفسادهم.
بحلول الوقت الذي اكتمل فيه الانسحاب العسكري الأمريكي في عام 2011، وتضاءل النفوذ السياسي للولايات المتحدة، عززت النخبة السياسية العراقية بعد عام 2003 قبضتها على الدوائر السياسية والمالية والأمنية للسلطة لدرجة أن السياسة اصبحت لعبة قتال على الغنائم - أو تقسيمها - بينما ذبلت الدولة، وعانى السكان من النهب وانعدام الأمن المتزايد، وازداد نفوذ إيران.
لسنا اليوم امام ديكتاتورية عرقية طائفية تمامًا لكنها بالتأكيد ليست حكومة تمثيلية أو ديمقراطية.
كانت هناك تركات إيجابية من الغزو الأمريكي.
من المفارقات في السياسة العراقية أن الأحزاب القيادية، المنقسمة والمصممة على الحفاظ على مصادرها المالية وصلاحياتها، تشعر بأنها مضطرة للجوء إلى السياسات الانتخابية لتحديد توازن القوى الداخلي فيما بينها.
نظرًا لأن النخبة السياسية أصبحت أكثر تشتتًا على مدار العشرين عامًا الماضية، حيث تحولت من كتل عرقية طائفية كبيرة إلى مجموعة من المنافسين الأصغر، أصبحت الانتخابات ذات مغزى أكبر في تشكيل الوصول إلى السلطة.
البيانات الحزبية ليس لها قيمة، ويتم التلاعب بالقوانين الانتخابية، لكن عدد المقاعد التي يشغلها حزب ما في مجلس النواب يحدد جزئياً قوة يده التفاوضية في مفاوضات تشكيل الحكومة، ومدى فعالية جهوده للسيطرة على الدولة.
من الجدير بالذكر أنه بعد 12 شهرًا من المواجهة السياسية التي سبقت الحكومة الأخيرة، استندت التسوية النهائية جزئيًا إلى الاتفاق على إجراء جولة أخرى من الانتخابات المبكرة في محاولة لتغيير الأوراق.
لا تزال الأحزاب ترى أن نتيجة التصويت مؤشر على قوتها النسبية، وبمعنى خاطئ، على شرعيتها الشعبية.
هذه العملية، والخوف من فقدان الوصول إلى السلطة التي قدمتها الولايات المتحدة في الأصل، تخلق قوة للنظام الحالي، حيث تتعاون النخبة السياسية غريزيًا لحماية مصالحها.
يعتبر العراق دولة فاشلة بالعديد من المقاييس، حيثُ تتسم بالفساد وسوء الإدارة وانعدام الشفافية والحرية السياسية.
إن الحصول على الأسلحة، ومكافآت تصدير النفط المستمرة، يرجح ميزان القوى لصالح النخبة الحالية بقوة على الرغم من الاحتجاجات الشعبية المستمرة، وبالتالي، فإن النخبة مصممة على الحفاظ على وصولها غير المتنازع عليه إلى مقاليد سلطة الدولة.
لقد تحدثت الحكومات ورؤساء الوزراء المتعاقبون عن الحاجة إلى الإصلاح، خاصة الاقتصادي والمالي، ومع ذلك، لا أحد يرغب في القيام بذلك على حساب مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة.
هذا التصميم هو الذي كتب نهاية التظاهرات الشعبية 2019 في بغداد ومحافظات العراق الجنوبية، وحركة المعارضة التي أنشأتها.
تماسكت النخبة السياسية معًا - حتى الصدريون الذين احتشدوا في الشارع للاحتجاج - بدلاً من الانقسام عند مواجهتها المطالب الشعبية بالتغيير، لان حماية ما كانوا سيخسرونه كان ولايزال أولوية.
في الواقع، كان مخطط التسوية السياسية النهائية الذي ادى الى ولادة حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الحالية، يقوم على العودة إلى صيغة ما بعد الحرب الأصلية عام 2003، مع التركيز على الانقسام العرقي والطائفي والسيطرة الحزبية، وليس خروجًا عنها.
لا يزال هناك دائمًا خطر أن تتفتت هذه النخبة، المدفوعة بالطموح أو التنافس على الموارد، في نهاية المطاف، ولكن كما أوضحت أحدث صفقة لتشكيل الحكومة التي جلبت السوداني إلى السلطة، فإن النخبة السياسية في العراق لا تزال تعطي الأولوية للوصول إلى "الحصص" بدلاً من المخاطرة بكل شيء من خلال هدم السقف على رؤوسهم جميعًا.
على الرغم من كل حديث السوداني عن الإصلاح وإصلاح الأضرار التي لحقت بالعراق خلال العقدين الماضيين، فإن النخبة السياسية العراقية ستظل تركز على حماية مصالحها على حساب أي شيء يقربهم من الحكم الرشيد.
سيناقش المعارضون مزايا مختلف المرشحين لرئاسة الوزراء وقربهم النسبي من طهران أو واشنطن، لكن النظام - إرث عام 2003 - مصمم لحماية الوضع الراهن، بينما يقضي تدريجياً على نسيج الدولة العراقية.
ربما كان هذا هو كل ما يمكن أن نأمله عندما يتم الإطاحة بنظام راسخ بعنف وبسرعة دون إيلاء الاهتمام الكافي لـ "اليوم التالي".
المُثل العليا وحدها لا تصنع دولة أو إمبراطورية، والديمقراطية لا تنبت لوحدها، والحرية لا تسود بمفردها؛ والمؤسسات لا تبني نفسها لكن في اللحظة التي يتم فيها المساومة على المُثل العليا المبكرة من أجل المصلحة السياسية، كما فعلت واشنطن مرارًا وتكرارًا عندما حاولت الاحتلال بثمن بخس وعلى الطاير، تحطمت قيمتها.
يحكم الناس على المحتلين والحكومات التي يفرزونها على أساس الفوائد الملموسة، مثل الرفاهية وتحسين سبل العيش، وليس وعود الحرية والأمن والحكم الرشيد التي لم تتحقق أبدًا.
في نهاية المطاف، ربما كان الإطاحة بصدام كافيًا لمن وضع خطة حرب العراق من الأجانب والمحليين، خاصة أنه لم يكن هناك أي حلول سهلة لدولة كانت تعاني من الجروح والاضطراب كما كان العراق بحلول عام 2003.
الغزو والاحتلال ليسا اعمالا خيرية بل امتداد للسياسة.
قامت الولايات المتحدة بالإجراءات القانونية الأولية، مسترشدة بمقتضياتها السياسية، سواء في الداخل أو في الشرق الأوسط.
إن الدولة الفاشلة التي هي العراق الآن تقع على عاتق الورثة العراقيين لسفينة الفضاء الخضراء، الذين نهبوا البلاد لخدمة مصالحهم الضيقة، وخانوا أي أمل للعراقيين في أن مستقبلهم سيبدو أفضل من الماضي.
لقد ذهبت الولايات المتحدة، وركزت الآن على الصراعات والفرص الأخرى.
سيكتب تاريخ العراق على مدى العقدين المقبلين من قبل قادته، ولا تقدم النظرة المستقبلية الكثير من أسباب الراحة.
+ شغل رعد القادري منصب السكرتير الخاص المساعد للممثل الخاص للمملكة المتحدة في العراق من 2003 إلى 2004.