بالتفصيل.. خفايا وأسرار قضية التحكيم بين العراق وتركيا على مدى 9 أعوام

انفوبلس/..
خلفَ قرار محكمة التحكيم الدولية ـ التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس حول عدم شرعية تصدير النفط الخام من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي ـ خفايا وأسرار على مدى تسعة أعوام يُفصّلها خبير النفط أحمد موسى جياد، ويستعرض حقائق هذا الملف بالكامل وبصورة مفصّلة.
في مايو/ أيار 2014، قامت شركة تسويق النفط العراقية على رفع دعوى خاضعة لتحكيم "غرفة التجارة الدولية" نيابةً عن وزارة النفط، والمدّعى عليه هو الحكومة التركية، التي تمثّلها شركة "بوتاش" المشغّلة لخط الأنابيب والمملوكة من الدولة، بسبب تصدير النفط عبر كردستان - جيهان دون الرجوع إلى بغداد.
وفي آذار الماضي، قضت محكمة التحكيم الدولية، التابعة لغرفة التجارة الدولية، في باريس، بعدم شرعية تصدير النفط الخام من إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي.
*موضوعان أساسيان
يرى الخبير النفطي أحمد موسى جياد، أن التقييمات والتعليقات المنشورة بشأن قرارات التحكيم بشكل أساسي ركزت على موضوعين هما "المبلغ والعدد"؛ الأول هو مبلغ التعويض مقارنة بما طلبه الجانب العراقي، والثاني عدد القرارات لصالح الجانب العراقي مقارنة بعدد ما طلبه الجانب العراقي من جهة وعدد القرارات لصالح الجانب التركي من جهة ثانية.
ولا غرابة في أن أغلب ردود الأفعال تلك قد قلّلت من أهمية وتأثير قرار التحكيم وبعضهم وصفه بأنه "انتصار أجوف" للعراق. التقييم الذي يركز على النتائج فقط شيء، والتقييم الذي يستند على استعراض وتحليل وتدقيق وثائق مسيرة التحكيم ومراحلها وكيفية الوصول إلى قرار التحكيم شيء مختلف تماما. فالتقييم الأول (تقييم النتيجة) يستند على مقولة أو منهجية "العبرة بالنتائج"، بينما يكون التقييم الثاني (الأسباب والسياقات والنتائج) ذو طبيعة معرفية أوسع وهادفة يستند على أسلوب أو منهجية "ماذا ولماذا وكيف وهل وما هي وما يجب عمله"، التي تتضمن أيضا تقييم نتيجة التحكيم، وهذا ما تعتمده هذه المداخلة.
يقول جياد، إنه "بعد الاطلاع ودراسة وثيقة قرار التحكيم يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
ـ إن وثيقة التحكيم طويلة ومعقدة وصعبة، ولكنها مهمة للغاية وتتضمن تفاصيل كثيرة لابد من فهمها وأخذها بنظر الاعتبار جديا.
ـ استمرت قضية التحكيم حوالي تسع سنوات وكان هناك ثلاث جلسات استماع فقط.
ـ كان التمثيل الحكومي العراقي قليلا عدديا ومحدودا تخصصيا واقتصر استمرارية التمثيل على شخص واحد فقط، مقارنة بعشرة أشخاص للتمثيل الحكومي التركي.
ـ اعتمد الجانب العراقي وبشكل تام على مجموعة كبيرة من المحامين الأجانب مقارنة بالجانب التركي.
ـ لم يوفَّق الجانب العراقي في أسلوب تحضيره لقضية التحكيم حيث خلط، مخطئاً، بين "المفاوضات الدولية" و"التحكيم الدولي"؛ فهذان الموضوعان مختلفان تماما من حيث المنهجية والأسلوب والتحضير.
ـ إن مبلغ التعويض الذي حصل عليه العراق يتعلق بمخالفات تتعلق بنفط الإقليم في حين أن التعويضات التي حصلت عليها تركيا تتعلق بقضايا إجرائية يرتبط معظمها بالحدود الدنيا المضمونة لمعدلات الضخ في الأنبوب وفق الاتفاقية المعدلة في 2010. وهذا بنظري مهم بالنسبة للعراق في تعزيز عدم مشروعية تصدير نفط الإقليم بدون شركة سومو، حيث تكتمل ثلاث ولايات قانونية؛ Jurisdiction سيادية: عراقية/ المحكمة الاتحادية العليا، وولاية سيادية أمريكية تتعلق بالناقلات اليونانية التي حملت نفط الإقليم الى الولايات المتحدة الامريكية في عام 2014 ثم هذه السيادة الدولية المتمثلة بقرار محكمة التحكيم لغرفة التجارة الدولية - باريس.
ـ ساهمت تصريحات الجانب العراقي وتقديراته المقدَّمة إلى هيئة التحكيم بشأن مبلغ التعويض المطلوب إلى خلق توقعات عالية غير واقعية مما سبب خيبة مالية كبيرة عند مقارنتها بمبلغ التعويض الذي حصل عليه العراق.
ـ حاول الجانب التركي، من خلال الشهود الخبراء، زجّ موضوع "ملكية النفط" والتشكيك في قرار المحكمة الاتحادية العراقية العليا، وقد ردت هيئة التحكيم هذا الطلب واعتبرته خارج ولايتها القانونية في هذه القضية.
وبناءً على ذلك، يقترح الخبير النفطي، الآتي:
ـ كأمر مستعجل جدا، تعديل المادة المتعلقة بتصدير نفط الإقليم في مشروع قانون الموازنة الثلاثية 2023-2025 لتنفيذ قرار محكمة التحكيم الدولية (القرارين رقم 2 و3).
ـ على وزارة النفط التهيئة لإنجاز مهمة احتساب الفوائد على رصيد التعويضات وذلك بالتعاون مع الجهاز المصرفي العراقي (ويفضَّل البنك المركزي العراقي أو مصرف الرافدين).
ـ امتناع الحكومة العراقية الحالية والحكومات المستقبلية عن اتخاذ أي إجراءات أو اتفاقات مع كل من حكومة الإقليم أو الحكومة التركية يكون من شأنها التقليل من الالتزام بالقرارين المذكورين أعلاه او الالتفاف على هذين القرارين.
ـ التهيئة لتعديل تعديل اتفاقية النقل عبر منظومة الخط العراقي- التركي الموقعة في 19 أيلول 2010، حيث تشير المادة (11) من التعديل المذكور أنه نافذاً لمدة 15 سنة من تاريخ دخوله حيز التنفيذ. تبدأ المفاوضات بين الجانبين حول شروط العقد عند الطلب من أي من الجانبين قبل سنتين من تاريخ النفاذية.
وعليه اقترحُ - يقول جياد - على وزارة النفط تشكيل فريق عمل متكامل التخصصات ويضم شركة سومو بهدف دراسة وتقييم وثيقة قرار التحكيم بشكل جدّي ومعمق والمبادرة في اقتراح التعديلات المطلوبة على اتفاقية الأنبوب ولتجاوز الإشكالات التي أبرزتها تجربة التحكيم الحالية.
ويدعو، المحكمة الاتحادية العليا إلى الإسراع في إكمال إجراءاتها بشأن عقود حكومة الإقليم مع شركات النفط الأجنبية، والاسترشاد بما ورد في وثيقة التحكيم في هذا الخصوص.
قيام وزارة النفط بتوفير كامل وثيقة قرار التحكيم (بضمنها الهوامش وتقارير الخبراء الشهود والآراء القانونية وقواعد التحكيم) وإرسالها الجهات العراقية المعنية ومنها: مجلس النواب، المحكمة الاتحادية العليا، مجلس القضاء الأعلى، مجلس شورى الدولة، الأمانة العامة لمجلس الوزراء- الدائرة القانونية.
عقد ندوة (أو ندوات) حوارية نقدية تقييمية حول تجربة التحكيم هذه وتوسيع نطاق المعلومات والشفافية والمناقشات من أجل استخلاص العبر والدروس واقتراح ما يمكن ويجب عمله.
فيما يلي ملخص للقراءة الأولية لوثيقة قرار الحكم النهائي، بحسب جياد:
أولا: منهجية وثيقة القرار النهائي:
تعتبر وثيقة القرار النهائي لمحكمة التحكيم الدولية لغرفة التجارة الدولية في باريس مهمة للغاية، وهي في نفس الوقت طويلة ومعقدة وصياغتها القانونية صعبة وتتضمن مصطلحات ومفاهيم قانونية معظمها ذات أصول لاتينية، وفيها إشارات عديدة الى قضايا وسوابق قانونية ومناقشة العديد من الآراء والمبادئ القانونية ومدى ملائمتها للقضية قيد التحكيم.
بلغ عدد صفحات الوثيقة 189، وتتضمن 826 فقرة (مرقمة تسلسليا بطريقة معهودة عند إعداد الوثائق القانونية للمحاكم)، وفيها عدد كبير من الهوامش بلغت 779 هامشا (لم يُدرج نصها في صفحات الوثيقة، مما يضخم حجم الوثيقة الى أكثر من 189 صفحة)، لم أتمكن من الحصول عليها في الوقت الحاضر.
في الوثيقة تفاصيل كثيرة جدا لتغطية جميع ما اتُخذ من إجراءات وما قُدم من لوائح ودفوعات ووفق تسلسل زمني منذ طلب الجانب العراقي البدء في إجراءات التحكيم هذه في 23 ايار/ مايو 2014 ولغاية إصدار قرار التحكيم النهائي في 13 شباط 2023.
تتلخص منهجية التحكيم في قيام كل من الطرفين المتحاكمين (العراق وتركيا) بعرض مواقفهما بشأن كل من القضايا المطروحة على حدة، يتبع ذلك "تحليل هيئة التحكيم Tribunal’s Analysis وقد استمعت هيئة التحكيم لمجموعة من "الشهود الخبراء expert witnesses واستعراض آراء قانونية legal opinions.
لقد وجدتُ تحليل هيئة التحكيم ثريّا ًومفيداً ومهماً، وأرى من الضروري اهتمام الجهات العراقية المعنية، وخاصة المحكمة الاتحادية العليا، ومجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة والأمانة العامة لمجلس الوزراء ووزارة النفط، والاستفادة منه؛ لأنه يشكل مصدرا مهما في مجال القانون الدولي للاتفاقيات والعقود والتحكيم.
ثانيا: مدة التحكيم:
استغرقت فترة التحكيم حوالي تسع سنوات، وقد يكون مدى تعقد الموضوع سبباً لذلك.
ولكن وفاة اثنين من أعضاء هيئة التحكيم قد يكون له سبب في ذلك حيث توفى الأول في شباط 2018 والثاني في نيسان 2021؛ ومن الطبيعي أن يسبب ذلك تأخير مؤثّر لإيجاد البديل ثم الوقت الضروري للاطلاع على أوليات القضية والإلمام بها.
إضافة إلى ذلك فإن التسلسل الزمني لمجريات التحكيم يشير الى انقطاع في تواصل الجانب العراقي في الفترة بين 26 كانون ثاني 2018 و9 نيسان 2019 ثم في الفترة بين 2 آب 2019 و1 نيسان 2022. لم يتضح من وثيقة القرار النهائي سبب تأخر الجانب العراقي لهاتين الفترتين الطويلتين نسبيا. فهل لرئاسة الحكومة العراقية ووزير النفط في حينها دور في ذلك!
ثالثا: المكونات التنفيذية للقرار النهائي:
تضمنت الوثيقة 22 قرارا يمكن تصنيفها، تحليليا، في المجموعات التالية: (مع ملاحظة أن الوثيقة اعتمدت التسلسل حسب الأحرف الانكليزية من a إلى v، ولكنني اعتمدتُ التسلسل الرقمي من 1 إلى 22).
القرارات التي لا تتضمن قيم أو مبالغ نقدية، وعددها 6 قرارات وهي 1 و2 و3 و4 و6 و7.
القرارات التي تلزم دفع تعويضات محددة من وإلى كل من الطرفين المتحاكمين: وهذه تتضمن 9 قرارات وهي 5 ومن 8 إلى 15.
القرارات المتعلقة بدفع الفوائد على مبالغ التعويضات، وهذه تتضمن 4 قرارات وهي 16 و17 و18 و19.
القرارات المتعلقة بدفع تكاليف التحكيم وتتضمن قرارا واحدا برقم 20.
قرارات رد جميع المطالب التي لم يصدر قرار تحكيم بشأنها، وهذه تتضمن قرارين هما، 21 و22.
رابعا: الجوانب المالية لقرار التحكيم:
التعويضات المالية التي يحصل عليها كل طرف من الطرف الآخر.
يوضح الجدول التالي مبلغ (بالدولار الأمريكي) كل تعويض ومضمونه، حيث تدفع تركيا إلى العراق مبلغ قدره حوالي 1.998 بليون دولار ويدفع العراق إلى تركيا مبلغ قدره حوالي 526.6 مليون دولار، وبالمحصلة يحصل العراق على تعويض صافي قدره 1.471 بليون دولار.
احتساب الفوائد على المبالغ المذكورة بالجدول أعلاه
تأمر القرارات 16 و 17 و18 و19 احتساب ودفع الفوائد على المبالغ أعلاه وفق تواريخ محددة على أساس أسعار الفائدة السنوية المركّبة للسندات التركية المقوّمة بالدولار الامريكي.
ولكن لم تحدد تلك القرارات متى وكيفية ومن يقوم باحتساب تلك الفوائد ومتى يتم تسديدها وغير ذلك من الجوانب التنفيذية والإجرائية. وهذا يحتّم على وزارة النفط التهيئة لإنجاز هذه المهمة بالتعاون مع الجهاز المصرفي العراقي (ويفضّل البنك المركزي العراقي أو مصرف الرافدين).
*كُلفة محكمة التحكيم
بموجب القرار 20 تُدفع كُلفة المحكمة البالغة 1.810 مليون دولار مناصفة بين العراق وتركيا، ويتحمل كل منهما تكاليفه المتعلقة بالخدمات القانونية وغيرها من النفقات.
*كُلفة التحكيم على الجانب العراقي
في ضوء ما ورد في وثيقة التحكيم فقد بلغت كلفة الجانب العراقي أكثر من 15 مليون دولار وكما يلي:
أجور المحامي Vinson & Elkins : 4,166,695.50 دولارا
أجور المحامي Cleary Gottlieb : 8,886,313.66 دولارا
تكاليف الخبير الشاهد: 324,567.96 دولارا
تكاليف أخرى: 798,243.95 دولارا
كلفة محكمة التحكيم: 905000 دولار
وللمقارنة، فقد كانت كلفة الجانب التركي حوالي 9 مليون دولار منها حوالي 5.4 مليون دولار أجور المحامي، في حين دفع العراق أكثر من 13 مليون دولار كأجور خدمات المحامين الأجانب.
خامسا: جلسات التحكيم وحضور الممثلين الحكوميين
تضمنت وثيقة القرار الإشارة إلى ثلاث جلسات فقط، وجدتُ من المهم تلخيص المعلومات عنها في الجدول التالي. علما أن مجموعة المحامين الدوليين لكلا الطرفين قد حضرت جميع تلك الجلسات.
مكن تسجيل الملاحظات التالية على ما ورد في الجدول أعلاه وعلى ما ورد في الوثيقة من تفاصيل بشأن الوفود الرسمية الحكومية من كلا الجانبين.
لم تذكر الوثيقة تفاصيل الجلسات السابقة لعقد جلسة الحقائق والأدلة قبل 24 نيسان 2019، علما أن الوثيقة أدرجت التسلسل الزمني للأحداث (تقديم اللوائح والدفوعات والردود) والأوامر الإجرائية وغيرها والتي تم تداولها بواسطة البريد الإلكتروني أو الاتصالات عن بُعد.
على الرغم من أن قضية التحكيم امتدت إلى حوالي تسع سنوات، فإن عدد أيام جلسات الاستماع الفعلية كان خمسة أيام فقط، وقد فصّلت الوثيقة التسلسل الزمني للأحداث والإجراءات طيلة تلك الفترة.
من المهم الإشارة إلى قرار جزئي نهائي Partial Final Award لهيئة التحكيم في 16 حزيران 2016 يتعلق بعدم ولايتها القانونية قدر تعلق الأمر بطلب العراق شمول مخالفة تركيا لاتفاقية 1946 بين البلدين، وشمول شركة أنابيب النفط التركية (بوتاش) كطرف في قضية التحكيم هذه. من الواضح أن هذا القرار الجزئي جاء بعد أكثر من سنتين من تاريخ طلب العراق التحكيم الدولي؛ وبذلك يشكل أحد العوامل التي ساهمت في إطالة فترة التحكيم.
كما وكرّرت هيئة التحكيم أنها لا تمتلك الولاية القانونية لمناقشة أو إقرار "ملكية النفط"، وذلك في الفقرات: 374 و393 و529. حيث حاول الجانب التركي من خلال الشهود الخبراء ترديد مواقف وطروحات حكومة إقليم كردستان وخاصة ما يتعلق بادعائها ركاكة وعدم دستورية وتسييس قرارات المحكمة الاتحادية العليا العراقية (الفقرة 248).
كان عدد أعضاء الوفد الحكومي العراقي أقل بكثير من عدد أعضاء الوفد الحكومي التركي، كما يُلاحظ أن استمرارية المشاركة في الوفد الحكومي العراقي قد اقتصرت على شخص واحد فقط في الجلسات الثلاثة، مقارنة باستمرارية مشاركة عشرة أعضاء ضمن الوفد الحكومي التركي في نفس الجلسات، وهذا بنظري المتواضع، يشكل خللا مؤثرا للغاية لأن تنوّع اختصاص وعدد الأعضاء المستمرين في المشاركة مهم جدا في توفير الدعم المطلوب لفريق المحامين الدوليين قدر تعلق الأمر بالتفاصيل العراقية المتعلقة بمواضع القضية. كما يشير إلى اعتماد الجانب العراقي بشكل تام على فريق المحامين الأجانب، وهذا ربما يفسر سبب ارتفاع كلفة المحامين الأجانب ضمن الجانب العراقي مقارنة بالجانب التركي (كما ذُكِر أعلاه). كذلك يلاحظ على حضور الوفدين في الجلسة الثالثة الخاصة بالأدلة الجديدة حضور وزير النفط العراقي في حينها، إحسان عبد الجبار والسفير العراقي في باريس، ولم يحضر ما يقابلهما في الجانب التركي، وأنني أرى أن حضور هذين المسؤولين في هذه الجلسة المهمة ليس له ما يبرره بل وليست حتى بروتوكولية؛ لأنها غير مطلوبة بالمطلق. وفي الحقيقة، وكما أشارت الأنباء في حينها، أن وزير النفط العراقي استغلّ هذه الزيارة إلى باريس لمناقشة ومتابعة الاتفاقيات مع رئيس شركة توتال انرجي الفرنسية! يُضاف إلى ذلك أن قلّة عدد ومحدودية تخصص الوفد الحكومي العراقي ربما يكون السبب في قول هيئة التحكيم أن الجانب العراق "فشل في إثبات" ادعائه بشأن مبلغ يزيد على 1.554 بليون دولار (الفقرة 636).
اعتمدت هيئة التحكيم في قراراتها لصالح العراق على ما قدّمه أحد الشهود الخبراء في تقريرين: الأول بتاريخ 18 تشرين ثاني 2016 والثاني في 6 تشرين أول 2017 (الفقرات رقم 41 و66 ورقم 604 الى 614)، الذي استخدم بدوره معلومات وبيانات من شركة سومو. في هذا الخصوص تمت مناقشة موضوعين الأول يتعلق برسوم المرور المفروضة على نفط الإقليم وهي أعلى بكثير من الرسوم المحددة في اتفاقية الأنبوب بين الحكومة العراقية والحكومة التركية، والثاني، هو قيام حكومة الإقليم ببيع النفط بواقع 5.77 دولارا/ برميل أقل من السعر الذي بإمكان سومو تحقيقه.
وبالرغم من ذلك ومن الغريب جدا لم تشارك شركة سومو في أي من الجلسات الثلاثة المذكورة في الجدول أعلاه، في حين تم إشراك سالم الجلبي (وكان في حينها ضمن الأمانة العامة لمجلس الوزراء وليست لديه أية خبرة في القطاع النفطي العراقي، على ما أظن!!) في جلسة الاستماع الأساسية الأولى. وهذا بنظري المتواضع خلل مؤثر آخر في تركيبة التمثيل الحكومي العراقي، ويفسّر فشله في إثبات بعض الادعاءات، كما اُشير إليه أعلا، علما أن شركة سومو وشركة نفط الشمال هما الطرفان اللذان وقّعا على البروتوكولات التي تضمنتها اتفاقية تعديل اتفاقية الأنبوب.
سادسا: تقييم الموقف التركي ما بعد قرارات التحكيم والتهيئة المبكرة للتعامل معه
على الرغم من محاولة بعض الجهات التركية التقليل من أهمية قرارات التحكيم وتركيزها على الرصيد المالي فقط، فإنني أعتقد أن الحكومة التركية ستنفذ قرارات التحكيم لثلاثة أسباب أساسية، ولكن ربما مع بعض العرقلة ومحاولة الحصول على تنازلات مقابلة بشكل أو بآخر. السبب الأول أن قرارات التحكيم نهائية وملزمة التنفيذ من قبل طرفي التحكيم، والثاني يعود إلى سعي وحرص الحكومة التركية لأن تكون تركيا ممر آمن وموثوق به لخطوط أنابيب النفط والغاز، ويمثل امتثالها لقرارات التحكيم وتنفيذها مهما في هذا الاتجاه، والثالث أن تركيا من الموقّعين على اتفاقية لائحة الطاقة-Energy Charter Treaty التي يشكل موضوع مرور أنابيب النفط والغاز من أهم مكوناتها والتحكيم بشأنها.
ستعمل الجهات التركية على استخدام اتفاقياتها السابقة السرّيّة مع حكومة الإقليم/ وقيادة البارزاني لتحميلهم جميع أو أغلب مبلغ التحكيم، حيث تشير بعض المعلومات إلى وجود فقرات في تلك الاتفاقيات مما يعزز هذه الاحتمالية.
العمل على الحصول على تنازلات من العراق مثلا: تقليل حجم الفوائد على رصيد التعويضات المقررة للعراق، استمرار رسوم المرور العالية على نفط الإقليم على ما هي عليه رغم أن قرار التحكيم جاء ضد تلك الرسوم، واستمرار رسوم المرور على نفط "وزارة النفط الاتحادية" حسب اتفاقية الأنبوب المعدلة، الاتفاق على أنبوب جديد "بصرة-كركوك-جيهان" (والذي سبق وأن اقتُرِح عام 2012 )، أو الدعوة لمدّ أنبوب آخر في الأراضي التركية يخصَّص لنفط الإقليم لا يخضع لاتفاقية الأنبوب مع العراق، الإصرار على اختيار بنك تركي لإيداع عوائد تصدير الإقليم (المُشار إليه في مشروع قانون موازنة 2023)، الضغط باتجاه عدم صيانة أو مدّ أنابيب نفط أو غاز من خلال سوريا، استخدام موضوع المياه والإطلاقات المائية أو غيرها من مواضيع وأساليب الضغط الجيوسياسية.
وسيكون لنتيجة الانتخابات التركية (يوم 28 أيار الحالي) تأثيرا على خيارات وتحركات الجانب التركي بهذا الاتجاه أو ذاك!
أرى على الجهات الرسمية العراقية التهيئة المبكرة لدراسة احتمالات السلوك التركي وخياراته المذكورة أعلاه، وتحديد كيفية التعامل مع أي موقف تركي حفاظا على المصلحة الوطنية العراقية.
سابعا: ملاحظات ختامية
لم يكن الجانب العراقي موفّقاً في تحديد مبلغ التعويض وأُسس تقديره؛ وهذا يعني مزج الجانب العراقي وعدم تمييزه بين منهجيات وأسلوب وممارسات "المفاوضات الدولية" من جهة و"التحكيم الدولي" من جهة ثانية، والافتقار الى الفهم الدقيق لكيفية ومراحل ومتطلبات التحكيم الدولي: قوة الحجة ورصانة الأدلة والسابقة المماثلة والتفسير الواضح ودلالة "النص" وغير ذلك. وأنني أستغرب والى حد كبير كيف يمكن لفرق الاستشارة القانونية الدولية التي تعاقد العراق معها على عدم جلب انتباه الجانب العراقي لهذا الخلل المعني المعرفي الكبير والواضح في طلب التحكيم الذي قدّمته وزارة النفط.
لقد كان أمام الجانب العراقي الوقت الأكثر من الكافي (حوالي خمس سنوات) لإعداد فريق متكامل التخصصات يقوم بدراسة وتقييم وتحضير المعلومات والحالات والحجج كافة بل وحتى النصوص قبل بدء الجلسة الأساسية الأولى، لكن وزارة النفط فرّطت بهذه الفرصة وبذلك ساهمت في تواضع نتائج التحكيم.
على كردستان أخذ هذا القرار والموضوع بجديّة كاملة وتفهّم عقلاني وقناعة قوية، علما أن معظم قرارات التحكيم الدولي الأخرى السابقة (المتَّخذة من قبل محكمة التحكيم الدولي في لندن) كانت ضد حكومة الإقليم، إضافة الى القرارات القضائية الامريكية في عام 2014 المتعلقة بناقلتي النفط اليونانيتين المحمّلتين بنفط الإقليم United Leadership،United Emblem وقرارات المحكمة الاتحادية العليا العراقية عام 2022.
وختم الخبير النفطي، أحمد موسى جياد، بالقول: "تُشكِّل هذه المُداخلة قراءة أولية لوثيقة قرار التحكيم، ولكنني أُؤكّد أن تجربة التحكيم هذه والوثائق الكاملة المتعلقة بها تستحق، بل يجب، دراستها بشكل معمق ومتخصص ومهني لاستخلاص العبر والدروس منها وأخذها بنظر الاعتبار لأن قرار التحكيم هذا يشكّل سابقة قانونية دولية مهمة جدا، وسيكون لها تأثير كبير وفاعل على مشاريع تصدير النفط العراقي بالأنابيب مستقبلا".