عندما يتكلم (قائد الظل) بلغة الدولة
الجملة الفاصلة في البيان – الشيعة لم يحكموا سوى ثلاث سنوات – وهي ليست تبرير تاريخي، بل تأسيسٌ لرؤيةٍ جديدة تدفع الحكم الشيعي ليكون أكثر نجاحاً.
كتب / سلام عادل
لم يكن البيان الأخير للأمين العام لكتائب حزب الله الحاج أبو حسين الحميداوي مجرّد إعلان انتخابي، بل اعترافٌ نادر بأن السلطة في العراق لا تُحسم بالسلاح فقط، بل تُستعاد بالشرعية، والذين قاتلوا دفاعاً عن البلاد، قرروا هذه المرة أن يقاتلوا دفاعاً عن الدولة، وهو مؤشر على انتقال “المقاومة” من فوهة البندقية إلى ورقة الاقتراع، دون أن تتخلى عن رائحتها الأولى.
ومنذ عام 2003 والعراق يعيش بين احتلالين، الأول أمريكيٌّ صريح، والثاني إداريٌّ مموّه، ولهذا قدّم البيان تلخيصاً لتلك الحقبة بذكاء، من بريمر إلى داعش إلى تشرين، وهي ثلاث مراحل شكّلت معجم الحكم الشيعي الحديث، كلٌّ منها ولدت من رحم المؤامرة.
ولعل دعوة قائد ميداني كبير إلى صناديق الاقتراع، أمر لا يعني التحول إلى ديمقراطية ليبرالية، بل إلى مقاومة ديمقراطية ترى في الانتخابات شكلًا من أشكال البيعة الحديثة، ولهذا جاء النداء إلى العلماء، وإلى العشائر، وإلى الأمهات، وإلى الحشد، كأن البيان يُعيد تركيب المجتمع العراقي وفق خطوط الولاء القديمة، ولكن بأداةٍ حديثة تعتمد “الصندوق لا السلاح”.
ومن هنا تبدو هذه الانتخابات ليست عادية، لكونها تمثل تحولاً من الدولة العميقة إلى الدولة الواعية، وكل ما فيها من تعبئة دينية–سياسية هدفها تثبيت شرعية الحكم الشيعي في جغرافيا تتنازعها الطوائف والنوايا، ولهذا يدعو بيان الحميداوي إلى “عدم التجريح والتخوين” بين الأشقاء المتنافسين، لكنه في الوقت نفسه يُلمّح إلى “خطر الآخر” بأدواته التكفيرية، ذاك الذي يحمل نزعة انتقامية تاريخية وذاكرة عدائية متجذّرة.
وعلى أي حال، من يقرأ بين سطور البيان يدرك أن المقاومة لا تزال ترى نفسها “الضامن الأخير”، لا الحزب الحاكم، ويظهر هذا التصور بوضوح في عبارات حاسمة، “الحكومة القادمة ستتشكل على طاولة الإطار التنسيقي”، وهي جملة فيها يقين المنتصر لا حذر المنافس، وفيها أيضاً رسالةٌ مزدوجة إلى الداخل بأن القرار محسوم، وإلى الخارج بأن زمن الوصاية انتهى.
وربما أراد الحميداوي أن يقول بلغةٍ هادئة ولكن حديدية “لقد قاتلنا لتحرير الأرض، والآن نقاتل لتحرير القرار”، وهو ما يحول البيان إلى نصٍّ سيادي بامتياز، ويُعيد تعريف الديمقراطية العراقية بأنها “ديمقراطية المقاومة”، ويضعها في مواجهة “ديمقراطية السفارات”، وما بينهما ستُحسم ملامح الجمهورية العراقية الجديدة، وهي جمهوريةٌ تُدار بالانتخاب المحروس بالعقيدة وليس بالاحتلال او المقاطعة.
وفي الختام .. المقاومة لن تقتصر على الخنادق، بل ستدير الدولة، وما دام الوعي في الميدان، فالصندوق لن يُترك للفراغ، وهكذا يتكلم العراق الجديد، ببندقية تُمسك قلماً يكتب بخط السيادة وليس بالحبر الغربي، وهو المختصر في بيان الأمين العام للكتائب بعد مرحلة تحرير الأرض وصولاً إلى تحرير القرار، والتحول من حالة إدارة الدولة من الظل إلى عقلٍ وطنيٍّ يرى في الانتخابات ساحة جديدة للدفاع عن السيادة، وهو تعريف لمفهوم (المقاومة السياسية).