أيُّهم أصدق؟ تطمينات المالية المتفائلة تصطدم بآراء خبراء اقتصاد ونواب وكتب رسمية.. ما مصير الرواتب؟

انفوبلس..
بدا واضحاً بشكل كبير أن العراق يواجه أزمة مالية متصاعدة، مع تحذيرات من عدم القدرة على تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين بسبب ارتفاع الدَّين الداخلي يقابله احتمال وجود اتفاق روسي-أوكراني على إنهاء الحرب من شأنه أي يسبب انخفاض أسعار النفط إلى 60 دولاراً، ما يفاقم الأزمة. وفيما تتضارب تصريحات وزارة المالية واللجنة المالية النيابية وخبراء اقتصاد بشأن العجز، يتخوف العراقيون من تأثير ذلك على السيولة والاستثمارات، مطالبين بحلول جذرية لكبح الإنفاق وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
المخاوف العالمية
وحذر الأكاديمي العراقي نبيل المرسومي، من جملة تطورات قد تؤثر على قدرة بغداد في ضمان رواتب ملايين الموظفين والمتقاعدين، على رأسها تصاعد تاريخي في الدَّين الداخلي بلغ 13 ترليون دينار، إلى جانب اقتراب روسيا وأوكرانيا من اتفاق سلام قد يُعيد تدفق البترول الروسي بكميات كبيرة إلى الأسواق ويخفض الأسعار بشكل مقلق، معرباً في الوقت نفسه عن استغرابه من صدور مواقف متناقضة من وزيرة المالية طيف سامي حول القدرة أو العجز عن تأمين الرواتب.
وقال المرسومي: بيان وزارة المالية متناقض فالسّت طيف لم تُنف البيان الموقَّع منها والذي يقول إن هنالك عجزاً في توفير رواتب الموظفين والرعاية الاجتماعية والمتقاعدين، وفي بيان آخر تقول إنه لا يوجد عجز.
وأضاف: هنالك صعوبات كبيرة تعاني منها وزارة المالية في توفير الرواتب، التي تتطلب مبلغ 8 مليارات دولار شهرياً.
وتابع: اليوم يوجد اقتراض داخلي بلغ 13 ترليون دينار، وهو الأكبر في تاريخ العراق، فبسَنة واحدة ارتفع الدين الداخلي بنسبة 17%، وهذا مؤشر خطر جداً ولم يحدث سابقاً، الدين الداخلي له تأثيرات سلبية على السيولة المتاحة وعلى قدرة المصارف لتمويل الرواتب وفي تمويل المشاريع الاقتصادية وعلى العملة العراقية.
وأكد، إن سعر النفط الحالي ليس حقيقياً فقد تصل روسيا وأوكرانيا إلى اتفاق قريب ثم ستتدفق المزيد من براميل النفط الروسية، ومع مؤشرات أخرى ربما سينخفض سعر النفط الخام إلى 60 دولاراً، وستصبح المالية في حرج شديد وقد لا يقتصر الأمر على الاستدانة الداخلية، وإن بقيت الأسعار على الستينيات لعدة أشهر فكل الاحتمالات واردة، حتى مسألة إعادة تسعير الدينار ستكون مطروحة من أجل زيادة الإيرادات.
سند وسامي
ويوم أمس، نشر النائب مصطفى سند وثيقة منسوبة لوزيرة المالية مرسلة إلى رئيس الوزراء تشير فيه الى عجز كبير تعاني منه الخزينة في تمويل الرواتب.
وبعد ساعات من انتشار الوثيقة على مواقع التواصل الاجتماعي، خرجت وزارة المالية، لتنفي بشكلٍ قاطع وجود أي عجز مالي يؤثر على نفقات الرواتب، واستمرار العمل على ضمان استقرار السياسة المالية وتوفير المستحقات وفق الخطط المعتمدة، وذلك خلال الإعلان عن تمويل رواتب موظفي الدولة لشهر شباط، دون أن تتطرق للكتاب ومحتواه وأسبابه.
تناقض المالية النيابية
انقسمت اللجنة المالية النيابية بعد تصريحات الوزيرة إلى قسمين، الأول أيّد ما ذكرته طيف سامي والثاني أقر بوجود عجز تحاول الوزارة إخفاءه بأي شكل ممكن.
عضو اللجنة محمد نوري، قال إنه "منذ فترة طويلة أشرنا لوجود عجز مالي حقيقي لدى وزارة المالية بشأن السيولة النقدية لدفع الرواتب، وقد تأخر صرف الرواتب في أحد الأشهر الماضية لأيام بسبب هذا العجز"، منوّهاً إلى أنه "رغم كل ذلك، تنفي وزارة المالية الامر وقد نفت ذلك اليوم أيضاً، رغم اعترافها بهذا العجز بكتاب رسمي صادر منها".
وأوضح نوري، إن "هذا العجز ليس له أي علاقة بقضية معاقبة المصارف العراقية من قبل أميركا، بل هو متعلق باعتماد العراق بشكل كلي على عائدات بيع نفط"، مردفاً أن "أي خلخلة بهذه الأسعار يؤثر على توفير السيولة كذلك على تأخّر إرسال الأموال للعراق أيضاً، فالعراق لا يملك أموال وسيولة نقدية وإنما يبيع النفط ويسدّد بتلك الأموال بشكل مباشر تلك الدفوعات الواجبة وعلى رأسها الرواتب".
وانتقد البرلماني موقف الوزارة وسط مخاوف من توسّع الأزمة خلال الأشهر المقبلة، قائلاً: "يفترض على وزارة المالية بدل تكرار نفي وجود العجز رغم صدور الاعتراف منها، إيجاد حلول سريعة وحقيقية لهذه الأزمة التي نخشى أن تتوسع خلال الأشهر المقبلة. وأكيد أننا في اللجنة المالية البرلمانية سوف نتابع هذا الأمر مع الجهات المختصة الحكومية".
وعلى الجانب الآخر من اللجنة ذاتها، قال رئيس اللجنة المالية النيابية عطوان العطواني إن "الرواتب مؤمَّنة بشكلٍ كامل، ولا صحَّة للشائعات التي تتحدَّث عن عجز الحكومة وعدم قدرتها على دفع الرواتب"، مشيرا الى ان "هناك صعوباتٍ تتعلّق بتمويل المشاريع الجديدة والمستمرَّة وتلبية الالتزامات العقديَّة مثل توفير التخصيصات للمحافظات، ولا علاقة للرواتب بذلك".
فيما أكد عضو اللجنة جمال كوجر أن "الرواتب مؤمَّنة، ولا توجد مخاوف بشأنها"، معتبرا ان "ما يُشاع في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعيِّ بخصوص عدم قدرة الحكومة على تأمين الرواتب لا صحَّة له، والهدف منه إرباك الشارع فقط".
تحذيرات متكررة
وفي السياق، حذر الخبير الاقتصادي محمود داغر، من وصول الاقتصاد العراقي إلى حالة الحرج، لافتاً إلى أن الوضع المالي لا يسمح بدفع غير الرواتب، ولا توجد مبالغ لأي شيء آخر للمشاريع، مذكراً بوضع العراق أيام التسعينيات في حال فُرضت عقوبات على مصارف مهمة، فيما نصح الحكومة باعتماد سعر 60 دولاراً لبرميل النفط في موازنة 2025، كما دعا النواب الذين يفهمون في الاقتصاد إلى تشكيل لوبي لتغيير الاتجاهات الاقتصادية والضغط للحد من الإنفاق الاستهلاكي.
وقال داغر في حديث متلفز: البنك المركزي نفى موضوع (العقوبات على المصارف الخمسة)، لذا لا أستطيع التأكيد، طالما أن البنك المركزي لم يتخذ أي إجراءات وجميع هذه المصارف تعمل وموجودة الآن. عند صدور عقوبات سيعلنها البنك المركزي مباشرة ويبعث رسالة بذلك.
وحذر من الوصول إلى يوم فيه حرج، السيولة متوفرة لكنها كافية لإعطاء الرواتب فقط، إذ أصبحت الموازنة والحياة هي عبارة عن رواتب، وهذا مأساة وخطأ، ولا توجد سيولة للاستثمار والمشاريع، فإن حدثت عقوبة سيكون هنالك “drop” (نزول) وهنا تكمن الإشكالية، ونتذكر في ذلك سنة 2020، و2015 – 2016، إذ حدث “drop” وعندها “منين نجيب؟”.
وأضاف: لتوضيح ما يجري حسابياً فإن البنك المركزي يبيع أقل من 300 مليون دولار يومياً، أي مليار ونصف خلال أسبوع، أي 6 مليارات شهرياً، لكن وزارة المالية بحاجة إلى 8 ترليون دينار لتدفع الرواتب، وليتم ذلك فعلى البنك المركزي أن يبيع بحدود 7 مليار دولار شهرياً، وما يتبقى هو مبلغ قليل لسد الاستثمار، فأين وضعنا أنفسنا؟ فكيف نبني الصناعة والزراعة؟ نحن نمشي في طريق غير مقبول اقتصادياً، وعندما تذهب أمريكا بالضغوط القصوى على دولة جارة فسيلحق بنا بعض “الطشار” من هذه الضغوط، لأن البعض لا يفهم معادلة الاقتصاد، ويعتقد أنه جيد عندما يعبّر سلعة من منفذ غير رسمي وعندما يلعب لعبة ويعتقد أنه جيد لأنه يخدم الجار، بينما وضعنا حرج بالنسبة لعلاقتنا لجار جغرافي، ويجب أن تكون العلاقة معها حكيمة.
وتابع: (ماذا سيحصل إن انخفض سعر النفط؟) على الحكومة تخفيض سعر برميل النفط في الجداول المقدمة في عام 2025 إلى 60 دولاراً، وهذه نصيحة أن يجعلوا إيراد النفط المحسوب في الموازنة عند الـ60، أما انخفاض النفط فهو وارد جداً وطبيعي، وبالتالي سترون صعوبة لملمة الأوراق.
وأكد: لنا سنتان والنفط فوق ال70 حتى 80، ونحن نتحمل الديون، والدين العام الداخلي ازداد من 69 ترليون دينار إلى 85 ترليونا، أما الخارجي فلو وقع بيدهم لاستدانوا لكنهم لا يستطيعون، لأن العراق مصنف على أنه متوسط الدخل ولا يستحق القرض من صندوق النقد أو البنك الدولي إلا في أوقات الأزمات كهجمات داعش وغيرها.
ونوه إلى أنه إذا فُرضت عقوبات مباشرة على رأس الجهاز المصرفي أو على مصارف مهمة فستؤثر على العراق، وليتذكر الكبار عقد التسعينيات وكيف كنا نتدبر أمرنا، وكيف كانت تصرفاتنا، وعلى الرغم من انتقادي للسياسيين لكن أجد مجموعة من البرلمانيين لديهم جرأة وهم يتكلمون في الجانب الاقتصادي وليس السياسي فقط، وعليهم أن يشكلوا لوبي ضغط لتغيير الاتجاهات الاقتصادية، وكفى إنفاقا استهلاكيا. ما الفائدة أن تعطي لي راتبا وبعد سنتين لن تعطي لي، أو لابني وابنتي، راتباً؟
وفي أيلول الماضي، حذر داغر، من وجود مخاوف جدية تهدد رواتب الموظفين، إذا انخفض النفط تحت 65 دولاراً كما يرجح مراقبون بسبب تباطؤ الاقتصادين الأميركي والصيني، قائلاً إن العراق لن يصمد حينها أكثر من 6 شهور، ولا يوجد حل إلا بإعادة النظر بسقف الرواتب الذي ارتفع إلى 60 تريليون دينار، بعد أن كان 40 فقط حتى قبل عامين.
وقال في لقاء متلفز: أنا ومجموعة من الخبراء كنا نحذر دائما باتجاه عدم التعويل على النفط، لكي لا نواجه سيناريو عدم مجاراة الإيراد العام لحجم الإنفاق العام، لكن لاحظنا وجود رغبة سياسية شديدة باتجاه زيادة الإنفاق العام، فبعض هذا الإنفاق مبرر لحاجتنا للبنى التحتية، لكن الموازنة تحملت مستويات من الإنفاق غير مسبوقة، فالرواتب كانت في سقف 40 ترليون دينار، أما الآن فصار السقف 60 ترليوناً، وحين ننفق مثل هذا المبلغ، ماذا يتبقى للموازنة لخلق فرص في باقي القطاعات؟
وتابع: لم يواجه العراق أي أزمة اقتصادية لغاية 2014، وحينها كانت العلاجات الحكومية سليمة وصحيحة، حيث تم إيقاف التعيينات مع بعض الإجراءات التقشفية، واستطاعت الدولة التنفس بحلول عام 2017 رغم أن الإيرادات لعامي 2015 و2016 هي 26 مليار دولار فقط، لكن الخطأ الكارثي الأول كان في عام 2020 بعد أن تم التوجه إلى الاقتراض، والتركيز على الاقتراض الداخلي الذي ارتفع إلى 70 ترليون دينار بعد أن كان أقل من 40 ترليونا، أما الخطأ الثاني فكان قرار تخفيض قيمة العملة، والذي سبب إرباكاً في الحياة العامة.
وأضاف: إذا انخفضت أسعار النفط إلى 65 دولارا للبرميل واستمرت في هذه المعدلات لمدة ستة أشهر، فسندخل مرحلة الخطر بشأن تأمين الرواتب، والحديث عن النهوض بالزراعة والصناعة وزيادة الضرائب، هو بلا جدوى حالياً، والمجدي هو أن نخفف من سرعتنا باتجاه الإنفاق.
وأكد، إن دول الخليج ستواجه انخفاض الإيرادات وهبوط أسعار النفط أيضاً، لكن لن تهتز لأنها تمتلك صناديق سيادية، على عكس العراق الذي قررت حكوماته زيادة الإنفاق دائماً، وأحذر من الاقتراب من الاحتياطي النقدي، لأنه مغطى بـ “دنانير الناس”، ولا يمكن فنياً المساس به أصلاً، ولكن بالإمكان تخفيض النفقات وتحمل الألم.
تراجع الاحتياط
وشهد العراق خلال عام 2024 تراجعًا ملحوظًا في احتياطياته الرسمية الاجنبية، حيث انخفضت إلى 130 تريليون دينار عراقي بحلول نهاية العام، مسجلة خسارة بلغت 6 تريليونات دينار عراقي خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر وحده، وهو ما يمثل 4% من إجمالي الاحتياطات، بحسب ما ذكره رئيس مؤسسة عراق المستقبل للبحوث والاستشارة الاقتصادية منار العبيدي.
ويضيف العبيدي في تدوينته، إنه على مدار العام، خسر العراق ما مجموعه 15 تريليون دينار عراقي، أي ما يعادل 10% من احتياطياته الرسمية، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من عامين، حيث كانت الاحتياطيات عند هذا المستوى في نهاية عام 2022، قبل أن ترتفع إلى 147 تريليون دينار عراقي في نوفمبر 2023، ومن ثم تعاود الانخفاض مجددًا مع نهاية 2024.
ويعود هذا التراجع إلى عدة عوامل رئيسية، في مقدمتها ارتفاع النفقات الحكومية، حيث لم تتمكن الإيرادات من تحقيق مستويات كافية لتغطية المصاريف المتزايدة، مما استدعى اللجوء إلى الاحتياطيات لسد العجز المالي وتمويل النفقات التشغيلية والاستثمارية التي لا تزال في تصاعد مستمر. إلى جانب ذلك، هناك عوامل أخرى ساهمت في هذا الانخفاض، مما يفرض تحديات اقتصادية تستوجب مراجعة السياسات المالية لضمان استقرار الاحتياطات النقدية في المستقبل، بحسب العبيدي.