عبر الاستيراد والسفر.. 70 مليار دولار تغادر العراق سنوياً والحكومة تراقب دون معالجة!

انفوبلس/ تقرير
يُعد خروج العملة الصعبة (الدولار) من العراق مشكلة اقتصادية مزمنة ومعقدة، إذ تشير التقديرات إلى خروج قرابة 70 مليار دولار سنويا من البلاد عبر السفر الخارجي واستيراد السلع والخدمات فقط، وسط دعوات اقتصادية لمعالجة هذه الملف عبر إرادة سياسية قوية وإصلاحات جذرية.
وقصة خروج العملة الصعبة (الدولار) من العراق، وخصوصاً عبر بوابة السفر الخارجي والاستيراد، هي جزء معقد من التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد.
استيراد السلع والخدمات: 400 تريليون دينار والاستفادة 2% فقط!
عند مراجعة بيانات البنك المركزي العراقي للفترة الممتدة من 2019 إلى 2024، نجد أن إجمالي التحويلات المالية الرسمية المخصصة للاستيراد بلغ نحو 311 مليار دولار، أي ما يعادل 415 تريليون دينار عراقي. وهذا الرقم الهائل يمثل حجم الأموال التي غادرت العراق رسميًا لاستيراد السلع والخدمات، بحسب الخبير الاقتصادي منار العبيدي.
ويقول العبيدي، لكن المفارقة الصادمة، بحسب بيانات وزارة المالية، أن إجمالي ما تم تحصيله من ضرائب كمركية خلال نفس الفترة لم يتجاوز (8.5 تريليون دينار فقط!)، بمعنى آخر، ان العراق لم يستفد كمركيًا إلا بنسبة 2% من قيمة الأموال المحوَّلة، وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنةً بما يُفترض تحصيله.
ويضيف، فإذا افترضنا معدل تعرفة كمركية متوسطة تبلغ 7% (وهو تقدير منطقي يأخذ بعين الاعتبار وجود إعفاءات ورسوم مرتفعة على سلع معينة)، فإن المبلغ الذي كان يجب أن يستحصل يتجاوز 29 تريليون دينار. أي أننا أمام فاقد مالي يزيد عن 21 تريليون دينار عراقي – وهو رقم محافظ، وقد يكون في الواقع أكبر بكثير.
لماذا هذه الفجوة الكبيرة في كمرك العراق؟
هذه الفجوة الضخمة في الإيرادات – بحسب العبيدي - لا يمكن تفسيرها فقط بالإعفاءات أو انخفاض الرسوم، بل هي نتيجة ثغرات عميقة في النظام الكمركي العراقي، أبرزها:
- تحويل مسارات الاستيراد إلى منافذ إقليم كردستان، حيث تُستوفى الرسوم داخل الإقليم ولا تُحوَّل إلى الخزينة الاتحادية.
- استيرادات وهمية لا وجود لبضائعها على أرض الواقع – مجرد تحويلات مالية لا تقابلها سلع.
-تزوير الفواتير وتقليل قيم الشحنات وعددها للتحايل على الرسوم.
-تهريب واستيراد عبر منافذ غير رسمية لا تخضع للرقابة المركزية.
ويبين أنه ما لا يقل عن 20 تريليون دينار عراقي – ربما أكثر – ضاعت من الدولة العراقية خلال ست سنوات، وذهبت إلى جهات متنفذة تموّل نفسها من هذه الفجوة، وتعمل بكل قوتها لمنع أي إصلاح حقيقي في النظام الكمركي.
ويتابع الخبير الاقتصادي، كيف نفسر إذًا أن 415 تريليون دينار خرجت من البلد للاستيراد، لكن الدولة لم تحصل سوى على 8 تريليونات فقط كعوائد كمركية؟ حقيقة لم يعد هناك مجال للترقيع. النظام الكمركي الحالي أثبت فشله واستنزف الدولة. والحل لا يكمن في تعديل بسيط هنا أو هناك، بل في إلغاء الكمارك بصيغته الحالية كليًا، واستبداله بفرض ضريبة مضافة مباشرة على كل تحويل مالي يُجرى لغرض الاستيراد.
ويطرح حلول بالقول، "بهذا نضمن:
-تحصيل مالي فعلي وشفاف دون تهرب.
-حرمان الجهات الفاسدة- من استغلال المنافذ.
-توجيه الإيرادات إلى خزينة الدولة- لسد العجز وتلبية احتياجات المواطنين.
ويشير الى أنه مع كل تريليون يُهدر، تُهدَر معه فرصة لبناء مدرسة أو مستشفى أو شبكة كهرباء كم كان لهذه التريليونات العشرين ان تغير من واقع مدن ومحافظات موجودة لدى العراق.
السفر الخارجي: 6 مليارات دولار سنويا
أظهرت بيانات وزارة السياحة التركية أن عدد العراقيين الذين زاروا تركيا خلال عام 2024 تجاوز 968 ألف شخص، مسجّلًا انخفاضًا بنسبة 8% مقارنةً بعام 2023 الذي شهد أكثر من مليون زائر عراقي. وفي المقابل، أعلنت الهند عن إصدار أكثر من 35 ألف تأشيرة لمواطنين عراقيين خلال العام نفسه، معظمها لأغراض طبية وتعليمية.
ورغم غياب إحصاءات دقيقة من الجهات الرسمية العراقية مثل وزارة النقل أو مديرية الجوازات، تُقدّر أعداد العراقيين الذين سافروا إلى خارج البلاد خلال عام 2024 بأكثر من 2 مليون شخص.
وبالاستناد إلى تقديرات إنفاق الفرد العراقي في السفر الخارجي، والذي يبلغ وسطيًا نحو 3,000 دولار للشخص الواحد (شاملةً تذاكر السفر، الإقامة، التنقل، والمصاريف الترفيهية)، فإن إجمالي الإنفاق الخارجي للعراقيين يُقدّر بما يزيد على 6 مليارات دولار سنويًا.
وقد كشف البنك المركزي العراقي في تقاريره الرسمية أنه باع ما يزيد عن 3 مليارات دولار نقدًا للمسافرين خلال عام 2024، ما يشير إلى أن ما لا يقل عن مليون مسافر حصل على العملة الصعبة مباشرةً من نافذة البنك، بالإضافة الى ان حجم السحوبات من بطاقات الدفع الالكتروني خارجيا تجاوزت حاجز ال 15 مليار دولار في سنة 2024 بالرغم من ان جزء كبير منها لم يستخدم بشكل تام لأغراض السفر الا ان المتوقع ان 3 مليارات دولار اخرى تم انفاقها بواسطة بطاقات الدفع الالكتروني خارج العراق من قبل المسافرين العراقيين.
في المقابل، تشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد الزوار الأجانب إلى العراق في عام 2024 بلغ: 1.5 مليون زائر من غير إقليم كردستان، وأكثر من 3.4 مليون زائر في مناسبة زيارة الأربعين فقط، بالإضافة إلى 1.7 مليون زائر أجنبي لإقليم كردستان خلال العام، حسب مجلس السياحة الإقليمي. أي أن إجمالي عدد الزوار الأجانب إلى العراق تجاوز 6.6 مليون زائر في عام واحد، وهو رقم مرتفع نسبيًا مقارنةً بالعديد من الدول السياحية في المنطقة،
لكن المفارقة أن معدل إنفاق الزائر الأجنبي إلى العراق لا يتجاوز 200 دولار للفرد، نتيجة انخفاض كلفة الإقامة والتنقل، اذ يشير تقرير صادر عن هيئة الاحصاء العراقية الى ان معدل الانفاق للزوار في الزيارات الدينية لا يتجاوز الـ 100 دولار، وعدم الاعتماد على خطوط الطيران المحلية العراقية في التنقل اذ تشير تقارير عالمية بأن حصة شركات الطيران العراقية من مجمل الرحلات الى العراق لا تتجاوز حاجز الـ 40% وبالتالي جزء من تكاليف شراء بطاقات السفر للقادمين الى العراق تذهب الى شركات اجنبية وليست عراقية.
الخلل في ميزان مدفوعات السفر
الفارق الصارخ بين حجم الإنفاق الخارجي للعراقيين وحجم العائدات من السياحة الوافدة يؤدي إلى عجز كبير في ميزان مدفوعات الخدمات، ويتسبب في استنزاف العملة الصعبة من الداخل نحو الخارج، دون وجود تعويض مكافئ عبر الإيرادات السياحية، بحسب خبراء اقتصاد.
ولمعالجة هذا الخلل – بحسب خبراء - هناك مساران واضحان:
رفع معدلات إنفاق الزائر الأجنبي إلى العراق لتصل إلى نحو 1,000 دولار للفرد، ما يعني إمكانية تحقيق 6 مليارات دولار سنويًا من العائدات السياحية – وهو رقم يعادل ما ينفقه العراقيون في الخارج ويتم ذلك من خلال توفير خدمات مدفوعة التكاليف للزوار لزيادة انفاقهم في العراق وتحسين الخدمات المختلفة في العراق لضمان بقائهم لفترة اطول وبالتالي زيادة حجم الانفاق.
أو زيادة عدد الزوار الأجانب إلى نحو 12 مليون زائر سنويًا بمعدل إنفاق حالي (200-300 دولار)، وهو ما يكفي لتحقيق التوازن في ميزان مدفوعات السفر.
والوصول إلى هذه الأرقام ليس مستحيلًا. فالعراق يمتلك مقومات سياحية استثنائية، خصوصًا في مجال السياحة الدينية التي يمكن أن تستقطب الملايين من دول مثل الهند، باكستان، بنغلاديش، إيران، الصين، وبلدان إفريقيا، لما تمثّله الأماكن المقدسة من قيمة روحية لسكان هذه الدول. إلى جانب ذلك، يتمتع العراق بثروة هائلة من المواقع الأثرية والتاريخية، ما يؤهله ليكون بلدًا سياحيًا عالميًا بامتياز، لا مجرد دولة نفطية.
ويقول خبراء اقتصاد إن العراق بلد سياحي قبل أن يكون نفطيًا وقد آن الأوان لأن تتبنى الحكومة العراقية استراتيجية واضحة تعتبر السياحة قطاعًا وطنيًا استراتيجيًا، وتعمل على تطويره بوصفه ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي، ورافدًا قويًا لتوفير فرص العمل وتعديل ميزان المدفوعات لصالح العراق، مشيرين الى ان السياحة هي المفتاح لخفض الاعتماد على العملة الصعبة من الخارج، وتحقيق التوازن المالي بعيدًا عن حلول الدعم النقدي المستنزف من البنك المركزي.
والخلاصة، فإنه بحسب الأرقام التي ذُكرت في التقرير فإن قرابة 70 مليار دولار (عملة صعبة) تخرج سنويا من العراق، في المقابل لم تدخل الى الدولة العراقية غير 5% من الأموال التي خرجت، ما يعني أن هناك خللاً اقتصاديا واضحا يجب إصالحه عبر خطوات حكومية جادة.