أسباب طي الكتمان.. حبوب الإجهاض في العراق وتجارتها السرية.. كيف تصل إلى النساء رغم الحظر والعقوبات؟

انفوبلس..
على الرغم من الحظر القانوني الصارم والعقوبات المشددة في العراق، تستمر حبوب الإجهاض في الوصول إلى النساء عبر قنوات سرية ومسارات معقدة ومحفوفة بالمخاطر، لتشكل تجارة خفية تثير الكثير من الجدل والمخاوف الصحية والاجتماعية، ويسلط تقرير شبكة "انفوبلس" الضوء على هذا الملف والأسباب التي تؤدي إلى ذلك.
ورغم أن القانون العراقي يجرّم الإجهاض، إلا في حالات ضيّقة ترتبط بالخطر على حياة الأم، إلا أن ضعف الرقابة الصحية، وغياب خدمات الصحة الإنجابية، يدفعان العديد من النساء إلى هذه الطرق السرية، غير الآمنة.
في الخلفية، تقف الدولة بسياج قانوني صارم وإجراءات معقدة تحول دون تداول هذه الأدوية، بينما تبقى النساء، والسيدات الشابات على وجه الخصوص، وحدهن في مواجهة الألم، والنزيف، والخوف... وربما حتى الملاحقة القانونية.
وسط هذا الواقع، تبرز أسئلة لا مفر منها: كيف تصل النساء إلى هذه الحبوب رغم الحظر؟ ما الذي يجري داخل تلك الأجساد المجهدة وتلك البيوت المغلقة؟ وماذا تقول من خضن هذه التجربة في عزلة، دون طبيب أو رعاية، ودون حتى من يسمع صوتهن؟
الحصول على الحبة
في ظل تصاعد حالات الانفصال الزوجي وتعقيد الإجراءات القانونية، تجد بعض النساء المتزوجات أنفسهن أمام معضلة الإجهاض دون علم الزوج. فالمستشفيات الحكومية ترفض التعامل مع هذه الحالات أو حتى إجراء الفحص المبكر من دون حضور الزوج أو موافقته الخطية، ما يدفع بعضهن إلى البحث عن بدائل غير نظامية، غالبًا عبر الإنترنت.
في بعض الحالات، تصل الحبة عبر صديقة مقرّبة، أو تشترى سرًا من صيدليات تخالف التعليمات. وأحيانا، تباع بوصفات طبية مشكوك في مصدرها، يتم تداولها داخل تطبيقات الدردشة أو عبر صفحات إلكترونية تمارس نشاطها العلني في ما يشبه "سوقا سوداء" احتكارية، تشكلت خلال السنوات الأخيرة، مستغلة الفراغ القانوني، وغياب التوعية، والطلب المرتفع.
تقول سيدة فضّلت عدم الكشف عن هويتها: "لم أتمكن من الحصول على استشارة طبية بسبب اشتراط وجود الزوج، ولأن علاقتنا كانت في طريقها إلى الانفصال، لجأت إلى وسائل التواصل الاجتماعي بحثًاً عن حبوب الإجهاض".
وتتابع: "بدأتُ بالبحث عبر الإنترنت. كتبت: حبوب تُنزل الحمل. ظهرت لي أسماء مبعثرة وروابط غير موثوقة. سألت سؤالاً بسيطًا: هل هناك دواء يُنهي الحمل؟ وخلال دقائق، تلقيت ردًا من حساب باسم مستعار، قال إنه يمتلك الدواء، وإنه مجرّب، وسعره 200 ألف دينار. لم يُطلب مني وصف حالتي أو عمر الحمل، فقط العنوان وطريقة الدفع. شعرت أني أشتري شيئًا محظورًا لا يُفترض بي حتى أن ألفظه بصوت عالٍ".
وتؤكد أنها لم تتلقَّ أي إرشادات بشأن الجرعة أو الاستخدام أو حتى المخاطر المحتملة. "قال لي فقط: خذي الحبوب، وابقِ وحدك. وقد فعلت".
لكن قصتها ليست استثناءً، بل تمثل جزءًا من ظاهرة تتنامى بصمت، بعيدًا عن أعين القانون والطب. في سوق غير منظم، تغيب الرقابة، ويُترك القرار لجسد مرعوب، وامرأة وحيدة، و"حبة" تختصر كل هذا الغياب في صمتها القاسي.
وبحسب نساء، فإن مجتمعنا لا يغفر للمرأة التي تعرضت للاغتصاب، بالتالي فهو يسهم بدفع النساء اللواتي تعرضن لتعدٍّ جنسي أو من كانت لديها علاقة خارج إطار الزواج، لإجراء عملية إجهاض، وتماشياً مع أعراف المجتمع، عاقب القانون العراقي الإجهاض الأم أو الأقارب ومن لهم سلطة على المرأة، في حالة عدم الزواج والحمل غير القانوني بعقوبات مخففة، لكنه في الوقت ذاته أبقى على العقوبة المشددة للفريق الطبي.
ماذا يقول المختصون؟
تُحذّر الدكتورة زينة التميمي، إخصائية أمراض النساء والتوليد، من مخاطر استخدام حبوب الإجهاض دون إشراف طبي، مشيرة إلى أن المضاعفات قد تبدأ بنزيف حاد ولا تنتهي عند الالتهابات الرحمية الخطيرة.
وتؤكد أن العديد من النساء يصلن إلى المستشفيات بعد محاولات إجهاض منزلية فاشلة، غالبًا بسبب فقدان دم شديد أو بقاء أجزاء من الأنسجة داخل الرحم، ما قد يؤدي إلى التهابات خطيرة، تصل في بعض الحالات إلى تعفن دموي في حال إهمال العلاج.
وتضيف التميمي أن بعض النساء يُصبن باضطرابات في الدورة الشهرية أو يواجهن صعوبات في الحمل لاحقًا، نتيجة استخدام أدوية غير مناسبة لمرحلة الحمل، أو بسبب عدم اكتمال الإجهاض. وتشدد على أن إجراء السونار قبل تناول أي دواء هو خطوة أساسية لتحديد عمر الحمل بدقة، إضافة إلى أهمية المتابعة المختبرية بعد الإجهاض، لمراقبة هرمون الحمل والتأكد من زواله تمامًا.
وتقول: "بعض النساء يمرنّ بتجربة صادمة نفسيًا وجسديًا، خاصة عندما يخضنها بمفردهن. فالجسد يتألم، والعقل يظل في حالة خوف دائم، في ظل غياب التوجيه والرعاية". وتعتبر أن انعدام إطار قانوني وآمن للرعاية الصحية في هذه الحالات يدفع بالنساء نحو قرارات فردية محفوفة بالخطر.
حالات استثناء
وتوضح اختصاصية الأمراض النسائية والتوليد بشرى جواد الموسوي، أنه "لا يحق للطبيب العراقي أن يقوم بالإجهاض المتعمد مهما كانت الظروف، وهناك حالات استثناء يحق للطبيب أن يجري فيها عملية مماثلة، ذلك في حال كان الطفل يعاني من تشوهات خلقية وتم إثبات ذلك عبر جهاز السونار، وهناك لجنة خاصة من ثلاثة أطباء تقرر السماح بإجراء عملية الإجهاض، كما أن الموافقة على هذا القرار لا تشمل كل حالات التشوهات الخلقية".
كما تشير الاختصاصية النسائية والتوليد ومديرة أحد مراكز الخصوبة وأطفال الأنابيب بشرى رشيد العزاوي، إلى أن السماح بالإجهاض يتم في حالات استثنائية، "تشوهات خلقية في الرأس وتشوه الجهاز العصبي، وفي حال تعرض الأم للإشعاع في الأسابيع الأولى للحمل أو في حال إصابة الأم بأمراض سرطانية وخضوعها للعلاج الإشعاعي".
كما يقف عامل التلوث البيئي كأحد الأسباب التي أدت لزيادة حالات الإجهاض، كما هي الحال في محافظة كركوك، فبسبب الغاز السائل المنبعث من حقول النفط، فتكثر حالات "الإجهاض المنسي" (هي حالة يموت فيها الجنين داخل الرحم أو تفشل فيها البويضة المخصبة من تكوين جنين بنجاح).
كما توضح العزاوي أن حالات الإجهاض زادت بسبب الحمل غير القانوني والعلاقات خارج إطار الزواج، كما زادت أيضاً رغبة النساء المتزوجات في إجراء مثل هذه العمليات بدوافع اقتصادية وعدم القدرة على تحمل صعوبات المعيشة، وتقول "لأن القانون يحاسب الطبيب على إنزال جنين من دون وجود دوافع وأسباب صحية تسمح بذلك، تلجأ المرأة لتناول أدوية معينة، وبالغالب تذهب إلى القابلة المأذونة لإجراء عملية الإجهاض".
وتذكر العزاوي أن الإجهاض القسري غالباً ما يعرض المرأة لمخاطر قد تؤدي إلى الموت أو رفع الرحم بعد تضرره"، ومن الحالات التي عالجتها العزاوي وتذكرها كأحد أخطر مضاعفات الإجهاض القسري، كانت لامرأة لجأت إلى قابلة مأذونة، ووصلت للمستشفى بعد حدوث مضاعفات شديدة تتمثل بحصول ثقب بالرحم والأمعاء، ما اضطر الفريق الطبي المعالج لها للاستعانة بمختص بالجراحة الباطنية لمعالجتها.
مع تصاعد ظاهرة بيع الأدوية عبر الإنترنت، تحذّر نقابة الصيادلة من تفشّي أدوية غير مفحوصة أو محظورة، يجري الترويج لها في صفحات ومجموعات مغلقة، بعضها يتضمن أدوية إجهاض ممنوعة التداول.
نقيب الصيادلة، الدكتور مصطفى الهيتي، أكد في بيانات رسمية سابقة أن النقابة تتعاون مع وزارة الصحة والجهات الأمنية لغلق المنافذ غير الرسمية، وتعزيز الرقابة على الصيدليات والمخازن. وقال: "النقابة تسعى لاتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الصحة العامة، وتؤكد أن إنتاج الأدوية يجب أن يتم فقط من خلال شركات عراقية خاضعة لقوانين صارمة، بما يضمن فحصها وسلامتها".
تُصنَّف أدوية الإجهاض ضمن قائمة الأدوية الحساسة، التي لا يُسمح بتداولها إلا وفق شروط صارمة وتحت رقابة مباشرة من الجهات الصحية. وتخضع الصيدليات الأهلية والحكومية لمتابعة دقيقة من قبل نقابة الصيادلة ودوائر الرقابة الدوائية، لضمان عدم تسرب هذه الأدوية إلى السوق السوداء.
توضح الصيدلانية دعاء نعمة، التي تدير صيدلية أهلية في بغداد، أن النقابة "تقوم بجولات تفتيش دورية، وتدقق في كل عبوة يتم استلامها من المخازن، حيث تُطابق الكميات مع عدد الوصفات الطبية الموثقة لدينا".
وتضيف: "استلام أدوية مثل ميزوبروستول أو ميفيبريستون لا يتم إلا عبر مخازن مجازة، وبكميات محدودة ومسجلة، ولا يجوز صرفها من دون وصفة طبية معتمدة".
وتؤكد نعمة أن الصيدليات ملزمة بتقديم إثبات صرف لكل عبوة، مشيرة إلى أن "أي خلل في التوثيق يُعرض الصيدلي للمساءلة القانونية"، ما يعكس — برأيها — جدية الدولة في منع التداول العشوائي للأدوية، وخاصة تلك التي قد تُستخدم بطرق غير آمنة.
وتختم بالقول: "رغم أن هذه الإجراءات صارمة، لكنها ضرورية لحماية الصحة العامة، وتمنع الكثير من التجاوزات التي قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة للنساء".
من جهتها، أعلنت وزارة الصحة عن بدء تطبيق إجراءات أكثر صرامة للحد من تسرب الأدوية غير المرخّصة إلى السوق المحلية، من بينها تكثيف الحملات التفتيشية، والتشديد على منع بيع أدوية الإجهاض دون وصفة طبية أو إشراف طبي مباشر، في مسعى لضبط الفوضى الدوائية وردم الفجوة بين الحاجة الطبية والضوابط القانونية.
هذا التوجه نحو رقابة صارمة يعكس التزام الدولة بحماية صحة المواطنين من مخاطر الأدوية مجهولة المصدر. وفي هذا السياق، بات من الضروري تعزيز التعاون بين الجهات الرقابية، والنقابات الطبية، والمجتمع، لضمان بيئة دوائية آمنة، ومواجهة السوق السوداء التي تنشط في ظل الحاجة والسكوت.
وتقول منظمة الصحة العالمية في تقرير لها، إن 25 مليون حالة إجهاض غير آمن تحدث عالمياً كل عام، و97% من هذه الحالات تحصل في البلدان النامية. وتشير إلى أن الإجهاض هو "إجراء بسيط وآمن للغاية"، عندما يتم باستخدام طريقة موصى بها من قبل منظمة الصحة العالمية، وتتناسب مع مدة الحمل وبمساعدة شخص لديه المعلومات أو المهارات اللازمة.
ولكن تبيّن المنظمة أن نحو نصف حالات الإجهاض فقط، يتم إجراؤها في ظل هذه الظروف المُوصى بها، وتتسبب حالات الإجهاض غير الآمن في نحو 39 ألف حالة وفاة كل عام، وتؤدي إلى إدخال ملايين النساء إلى المستشفى بسبب المضاعفات.
وتتركز معظم هذه الوفيات في البلدان المنخفضة الدخل (أكثر من 60 في المئة في إفريقيا و30 في المئة في آسيا) وبين أولئك الذين يعيشون في أكثر الأوضاع ضعفاً.
العقوبات
تُجرّم المادتان (417–419) من قانون العقوبات العراقي الإجهاض، وتعدّه من الأفعال المعاقب عليها قانونًا، سواء تم بموافقة المرأة أو دونها، باستثناء ضيّق يسمح به فقط إذا كانت حياة الأم مهددة بالخطر.
لكن هذه النصوص، التي تعود إلى أكثر من خمسة عقود، أصبحت محلّ نقاش قانوني وأخلاقي متصاعد، في ظل تزايد الحالات التي تُجرى خارج الإطار الرسمي، وغياب مساحات آمنة للرعاية.
يقول المحامي كرار سلمان، إن "النصوص الحالية لا تزال ترتكز على منطق التجريم أكثر من التنظيم، وهو ما يدفع العديد من النساء إلى خيارات غير آمنة"، مشيرًا إلى أن هناك إدراكًا حكوميًا متناميًا بضرورة مقاربة هذا الملف من زاوية أكثر توازنًا.
ويضيف: "الدولة بدأت تتحرك، لا لإباحة الإجهاض، بل لضبط ممارساته العشوائية، والتصدي لبيع الأدوية المهربة، وبناء تشريعات صحية تراعي الضرورات الإنسانية والطبية".
ويؤكد سلمان، إن "وزارة الصحة، بالتعاون مع نقابة الصيادلة، شرعت في تطبيق قوانين واضحة لتقنين تداول الأدوية وتعزيز الرقابة على ما يُسوّق إلكترونيًا"، معتبراً أن هذا التحرك يعكس نضجًا في فهم التحديات الواقعية التي تواجه النساء، لا سيما في حالات الحمل غير المرغوب فيه أو المرتبطة بمشاكل أسرية معقدة.
وفي المقابل، يدعو سلمان إلى ضرورة تحديث النص القانوني، بما يضمن وجود مساحة قانونية منظمة، تحفظ حياة النساء، وتُلزم المؤسسات الطبية بمسؤولياتها في تقديم الرعاية، تحت سقف القانون لا خارجه.