من المخاض إلى المشرط.. الولادة على طاولة الجراحة.. تصاعد العمليات القيصرية وتراجع الطبيعية في العراق.. كيف ستواجه هذه الأزمة الصامتة؟

انفوبلس/..
في مستشفى صغير على أطراف بغداد، جلست سيدة ثلاثينية تنتظر موعد ولادتها المحدد مسبقًا. لم تكن هناك علامات مخاض، ولا ألم، ولا حتى قلق على الجنين. الطبيبة حددت لها موعدًا دقيقًا لولادتها القيصرية، وطمأنتها بأن “الولادة الطبيعية باتت من الماضي”، كما قالت بابتسامة واثقة.
هذا المشهد لم يعد غريبًا في العراق. بل أصبح مألوفًا ومتكررًا في عيادات النساء والولادة. شيئًا فشيئًا، صارت الولادة الطبيعية تتراجع، تحل محلها العملية القيصرية بوصفها الخيار الأسهل والأكثر راحة من وجهة نظر كثير من الأطباء والأمهات على حد سواء. لكن خلف هذا التحول “المريح”، تتوارى أزمة صحية واجتماعية متنامية.
في السنوات القليلة الماضية، ارتفعت نسبة الولادات القيصرية في العراق بشكل لافت، حتى باتت تتجاوز في بعض المستشفيات، خاصة الخاصة منها، نصف عدد الولادات. هذا الرقم لا يبدو عابرًا، خصوصًا حين نضعه بجانب توصيات منظمة الصحة العالمية، التي تشدد على أن النسبة المثالية للولادة القيصرية يجب ألا تتجاوز 15%، إلا في الحالات التي تستدعي ذلك طبيًا.
*لماذا يلجأ العراقيون لهذا النوع من الولادة؟
الواقع أن الإجابة لا تتعلق بالجانب الطبي فقط، بل تتشابك فيها دوافع متعددة. هناك من الأطباء من يرى أن الولادة الطبيعية باتت مخاطرة غير ضرورية في ظل توفر خيار جراحي يمكن التحكم فيه بدقة وسرعة. وهناك من النساء من بات الخوف من ألم المخاض يدفعهن للقيصرية، خاصة في ظل غياب التثقيف الصحي والدعم النفسي الكافي. وفي المستشفيات الخاصة، أصبحت الولادة القيصرية خيارًا مفضلًا لأنها تدرّ دخلًا أعلى، وتقلل من الوقت والجهد المبذولين من قبل الكادر الطبي.
الطبيبات الجدد، في كثير من الحالات، يفضلن تحديد مواعيد دقيقة للولادة، بعيدًا عن صعوبات المراقبة الطويلة للمخاض الطبيعي. أما الأمهات، فكثير منهن يخترن “الراحة” الموعودة، ويتأثرن بأحاديث الصديقات والتجارب السابقة، التي غالبًا ما تُضخّم ألم الولادة الطبيعية وتُظهر القيصرية كخيار سهل ومضمون.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة. فالولادة القيصرية، كما يشير كثير من الأطباء، عملية جراحية معقّدة، لها مضاعفاتها المحتملة على المدى القريب والبعيد. تبدأ هذه المضاعفات من طول فترة التعافي، وتمر بخطر الإصابة بالتهابات أو نزيف، ولا تنتهي عند آثارها النفسية والجسدية التي قد تلاحق الأم في كل حمل لاحق. كما تشير بعض الدراسات إلى أن الأطفال المولودين بهذه الطريقة قد يكونون أكثر عرضة لبعض المشاكل التنفسية، نتيجة عدم مرورهم بقناة الولادة الطبيعية.
*الجانب المظلم
يوم الثلاثاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 خضعت ماريا يوسف، التي كانت تبلغ من العمر 18 سنة لعملية قيصرية في مستشفى النسائية والتوليد الحكومية في محافظة دهوك بإقليم كردستان، وبدلاً من عودتها والسعادة تغمرها بإنجاب طفلها الثاني، دخلت في غيبوبة لم تفق منها لغاية الآن.
يروي ذلك بحزن، زوجها محمود موسى إسماعيل (39 سنة) ويضيف: ”خلال العملية أُصيبت ماريا بتسمم حمل كان يمكن أن يودي بحياتها، لكن إجراءات طبية ناجحة جعلتها تنجو هي وطفلها”.
ويستدرك: ”لكن بعد خروجها من العملية مباشرة تدهورت حالتها في صالة المستشفى واحتاجت سريعا إلى جهاز الأوكسجين ولعدم وجود غرفة الإنعاش وجهاز oxygen concentrator عدا المتوفر في غرفة العمليات، نقلناها إلى مستشفى آزادي الحكومي”.
ومرة أخرى، وبسبب “عدم إعطائها الأوكسجين داخل سيارة الإسعاف وافتقار الكادر الطبي المرافق لمهارة التعامل مع هذه الحالات الحرجة، دخلت زوجتي في غيبوبة مستمرة لحد الآن” يقول الزوج بينما يسرح بذهنه للحظات وكأنه يستذكر ما حصل.
بقيت ماريا في مستشفى آزادي نحو أربع سنوات غائبة عن الوعي، وخرجت في شهر أيلول/سبتمبر2020 بسبب جائحة كورونا، لينفق الزوج كل مدخراته من أجل معالجتها وإعادتها الى حياتها السابقة لكن كل المحاولات الطبية لم تنجح.
يقول بنبرة صوت متقطعة: ”بدلا من أن نكون سعداء بولادة طفلنا أصبحنا نعيش هذه المأساة وحُرم الطفل من حنان والدته، ليس لدينا أمل في الشفاء سوى أن نوفر لها الرعاية الطبية في مركز متخصص”.
يتناوب الزوج مع والدة ماريا العناية بها في منزلهم، ويتم الاعتماد على الأدوية التي تقدمها المستشفى مجانا لمعالجتها، في حين تعتني عمة الطفلين بهما، والجميع ينتظر حدوث معجزة ما لتفيق ماريا مجددا.
هذه واحدة من قصص ضحايا العمليات الجراحية القيصرية التي أخذت بالازدياد خلال السنوات الفائتة، لأسباب عديدة وفقاً لمتخصصين، منها خوف النساء من الولادة الطبيعية وآلامها، وإمكانية تحديد تأريخ الولادة، ورغبتهن في الحفاظ على جمال أجسادهن، في ظل جانب تجاري يسوّق لهذه العمليات لتحقيق أرباح أكبر، لكن العواقب أحيانا تكون خطيرة.
*تزايد مستمر
يقول مدير عام صحة دهوك، الدكتور أفراسياب موسى بأن أعداد العمليات القيصرية مقارنة بالولادات الطبيعية في المحافظة تتزايد عاما بعد آخر. وعبر عن قلقه حيال ذلك، معتقداً بأنها “تشكل تهديدا خطيرا على حياة النساء” اذا لم تتوفر متطلباتها الأساسية.
وأكد بان الكوادر الطبية تبذل قصارى جهدها في سبيل “تشجيع النساء على الولادات الطبيعية وجعلهن يفهمن أضرار الولادة القيصرية”.
ويضيف: ”وفقا لبيانات مديريتنا، كان معدل العمليات القيصرية يبلغ (18.1%) في عام 2010 لكنه ارتفع إلى ( %43.3) بحلول عام 2022″. ويبين بأن الولادات القيصرية معدلاتها في المشافي الأهلية اعلى بكثير من الولادات الطبيعية.
وتشير إحصائية صادرة عن قسم التخطيط في المديرية العامة لصحة دهوك، أن نسبة العمليات القيصرية في المستشفيات الخاصة بالمحافظة خلال عام 2022 بلغت (93.5%) مقارنة بـالولادات الطبيعية التي بلغت(6.5%)، بينما بلغت النسبة في المستشفيات الحكومية (31.7٪) مقابل (68.3٪) للولادة الطبيعية.
*تخطّي النسبة المحددة
وبات اللجوء للعمليات القيصرية هو الشائع، في دول كثيرة، ففي نحو 100 دولة، تجاوزت معدلات الولادة القيصرية تلك الموصى بها من منظمة الصحة العالمية، والتي تتراوح بين 10% و15% وفق معدلات النساء اللاتي تتطلب اوضاعهن الصحية الولادة من خلال عملية قيصرية.
ووفقاً لبحث لمنظمة الصحة العالمية (WHO) نشر في العام 2021، تصاعدت معدلات العمليات القيصرية على مستوى العالم، لتصبح أكثر من حالة واحدة لكل خمس حالات ولادة، اي ما يتجاوز 20% من جميع الولادات. وسيستمر الارتفاع وفق ما هو مرجح لتتم نحو 30% من جميع الولادات عن طريق العملية القيصرية بحلول العام 2030.
*مخاطر
الأستاذة المساعدة في أمراض النساء والتوليد بكلية طب د. جنان نوري، تتحدث عن مخاطر يمكن ان تكتنف العمليات القيصرية: ”مثلها مثل أي عملية جراحية أخرى، قد يحدث فيها نزيف حاد أو عدوى، الى جانب مشكلة بطء التعافي بعد الولادة”.
وتزيد على ذلك: ”حقن التخدير ضارة، وغالبا ما يتم حقنها في الظهر ونتيجة لذلك تعاني الأم من الصداع وآلام الظهر بشكل دائم، وفي بعض الأحيان وخلال العملية عند استعمال أدوات القطع الجراحية الحادة يتم قطع أحشاء الأم ومثانتها وتتعرض إلى النزف”.
وتشير إلى أن “الدم الذي يسيل أثناء الولادة الطبيعية إذا كان 500 سم مكعب، فأن كميتها أثناء العملية القيصرية يكون 1000 سم مكعب أو أكثر، مما يسبب أحيانا إصابة الأم بالنزيف”.
عن مخاطر الولادة القيصرية، تقول طبيبة أمراض النساء، الدكتورة ديلفين عبد العزيز، أنها تشكل “خطرا على حياة الأم”. وتضرب مثالاً على ذلك: ”قد تعاني النساء اللواتي خضعن لأكثر من عمليتين جراحيتين، من ولادة مبكرة عن المعتاد”.
وتشدد، على ضرورة الالتزام بعدم اجراء العملية القيصرية الا في الحالات التي تستدعي ذلك مثل: ”تعثر الولادة الطبيعية، أو في حال ازدادت الخطورة على الأم والجنين”.
وبناءً على ذلك فهي ترى بأن العملية القيصرية: ”حل أمثل وأسلم للجنين والأم في حال وجود موانع للولادة الطبيعية”.
وتستدرك: ”لا يمكننا القول إن إنجاب طفل عن طريق الجراحة هو أمر محفوف بالخطر وغير جيد على الدوام، فالمرأة غير المستعدة نفسيا للولادة بشكل طبيعي، تكون الجراحة القيصرية أفضل لها، ولكن مع ذلك من الأفضل أن يولد الطفل بشكل طبيعي، ويجب توعية الأمهات على الخضوع لعملية جراحية في حالات قليلة فقط”.
*إحصاءات
بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية (WHO) تتصاعد معدلات الولادة الجراحية (القيصرية) في مختلف مناطق العالم بشكل سريع، وتذكر المنظمة، أن معدل تلك الولادات في جميع أنحاء العالم كانت تشكل ما نسبته (7٪) في العام 1997، مقارنة بـ(21٪) في عام 2021، وهو ما دفعها الى دعوة الأطباء لتشجيع الأمهات على الولادة الطبيعية.
ووفقا لدراسة أجرتها جامعة إدنبرة في اسكتلندا فإنه في عام 2016 خضعت (24.5%) من النساء في أوروبا الغربية لعملية جراحة قيصرية، بينما ارتفع المعدل في أمريكا الشمالية والجنوبية إلى (41%).
وتأتي تلك الأرقام المرتفعة، مدفوعة برغبة أعداد متزايدة من النساء في تجنب آلام الولادة، الى جانب الخوف من مشاكل تصيب الطفل عند الولادة الطبيعية.