نموذج حي لخسارات التطبيع.. مصر بين الديكتاتوريات والديون والغليان الشعبي بعد 45 عاما على كامب ديفيد
انفوبلس..
بالحديث عن تطبيع العلاقات من الكيان الإسرائيلي، وتأثير الماكنة الإعلامية الغربية على عقول ووجهات نظر بعض المواطنين العرب من الدول التي لم تطبّع علاقاتها، والخيالات الوردية التي تزرعها تلك الماكنات عن مستقبل مزدهر يمكن أن يتحقق بمجرد التطبيع وغيرها من السيناريوهات المأجورة، يمكن تسليط الضوء على نموذج حي وقائم حتى يومنا هذا لأول دولة عربية طبعت علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي ومصيرها وما هي عليه بعد مرور 45 عاماً على هذه الخطوة.
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وفي عام 1978، إثر 12 يوما من المفاوضات السرية، وقّع -برعاية أميركية- "اتفاقية للسلام" مع الكيان الإسرائيلي عُرفت باتفاقية كامب ديفيد، لإنهاء سنوات من الحروب بين الطرفين، بيد أنها لا تزال تواجَه برفض شعبي مصري واسع حتى بعد مرور أكثر من 4 عقود ونصف على توقيعها.
في 26 مارس/آذار 1979 وُقِّعت معاهدة السلام في البيت الأبيض الأميركي بحضور الرئيس جيمي كارتر، والمصري محمد أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن، وكانت مكمّلة لإطار سلام الشرق الأوسط، والذي صدر عن مفاوضات منتجع كامب ديفيد الأميركي في 17 سبتمبر/أيلول 1978.
أسفرت الاتفاقية عن تبعات دراماتيكية على عدة مستويات، كان أبرزها استرداد مصر لشبه جزيرة سيناء، واغتيال السادات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981 يوم الاحتفال بالذكرى الثامنة لحرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، وقطيعة العرب للقاهرة، ونقل مقر الجامعة العربية منها وتعليق عضويتها، قبل التراجع عن تلك الخطوات، ثم تسابق بعض الدول العربية، السنوات الأخيرة، نحو قطار التطبيع.
وكما كان الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981-2011) بعيدا عن معاداة تل أبيب، وسار في ركبه السيسي وربما بوتيرة أكبر، وهو ما دفع قادة إسرائيليين للتعبير في أكثر من مناسبة عن ارتياحهم للتقارب المتسارع بين قيادات الجانبين خلال السنوات الأخيرة.
بين خيانة القضية و"السلام الدافئ"
مهّدت حرب 1973 الطريق للسلام المصري الإسرائيلي، وعززتها مساعي السادات للتقارب مع الإدارة الأميركية آنذاك، والذي ألقى خطابا عاطفيا بالكنيست في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، مبشرا فيه بأن ما مضى هو آخر الحروب ونهاية الآلام، فكان أول رئيس عربي يزور الكيان الاسرائيلي ويعقد صفقة معه.
لم يمر الكثير حتى وقعت القاهرة وتل أبيب الاتفاق الإطاري للسلام في كامب ديفيد، وبعدها بنحو 6 أشهر، وتحديدا في 26 مارس/آذار 1979، دُشنت رسميا معاهدة السلام.
ومن أبرز ما نصّت عليه المعاهدة إنهاء حالة الحرب وانسحاب الكيان الاسرائيلي من سيناء بالكامل، وإنشاء منطقة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع ضمان عبور السفن الإسرائيلية في قناة السويس.
وتجني مصر من وراء التطبيع مساعدات عسكرية أميركية سنوية تقدر بـ 1.3 مليار دولار، إضافة إلى مساعدات اقتصادية أخرى، وإن كانت تواجه حتى الآن بانتقادات لأسباب ترتبط بتأكيد التفوق النوعي عسكريا لصالح تل أبيب على حساب الدول العربية.
أما على المستوى التجاري، فقد وقعت مصر والكيان الإسرائيلي في ديسمبر/كانون الأول 2004 اتفاقية "الكويز" وهي تسمح للشركات المصرية التي تستخدم مدخلات إسرائيلية بتصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة بإعفاء جمركي.
ومن المفارقات أن مصر التي وقعت عام 2005 اتفاقية لتصدير الغاز إلى الكيان الإسرائيلي لمدة 20 عاما، باتت تستورد منذ مطلع 2020 الغاز من تل أبيب عبر صفقة مداها 15 عاما.
كما أن سيناء التي شهدت الحروب المصرية الإسرائيلية، تحولت إلى محطة تعاون أمني واستخباراتي بين القاهرة وتل أبيب، حسبما أشار السيسي إلى ذلك في مقابلة مع فضائية أميركية مطلع 2019 بالقول إن الجيش المصري يعمل مع الكيان الإسرائيلي ضد "الإرهابيين" شمال سيناء.
وفي أكثر من مناسبة، أشاد السيسي بالسلام مع إسرائيل، ودعا قادة المنطقة مرارا إلى الاقتداء بالسادات في "تجاوز الأدبيات والمفاهيم المستقرة" في إشارة إلى الرفض العربي للتطبيع.
وفي مايو/أيار 2016، استخدم السيسي لأول مرة مصطلح السلام الدافئ لوصف العلاقات المرجوّة مع إسرائيل، حيث قال "البعض يقول إن السلام مع الكيان الإسرائيلي ليس دافئا، لكنني أقول إن سلاما أكثر دفئا سيتحقق لو قدرنا (استطعنا أن) نحل المسألة الخاصة بأشقائنا الفلسطينيين".
عقبات يخلقها التناقض بين رغبة السلطة وإرادة الشعب
ورغم مسيرة السلام الرسمية بين الطرفين، لا تزال الأحلام الإسرائيلية في وجود علاقات مثالية بعيدة المنال لأسباب عدة، أبرزها أن النظام المصري لا يزال حريصا على عدم حدوث تغيير شامل في العلاقات الثنائية، وهو ما تفصح عنه التغطية الإعلامية المحلية السلبية حتى الآن للدور الإسرائيلي في المنطقة.
وفي ظل تحديات دولية وإقليمية ومصالح باتت مشتركة وتزايد حمّى التطبيع العربي، مقابل تهديدات لمصالح استراتيجية مصرية، يبقى السؤال مطروحا: هل أصبح ما يجمع مصر والكيان الإسرائيلي أكبر مما يفرقهما؟
بحسب مراقبين، لا يزال معظم الشعب المصري معاديا لإسرائيل، كما أن النقابات المهنية التي تضم ملايين العاملين تبقى في طليعة المعارضين للتطبيع، إلى جانب المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف.
وفي مقابل البحث عن مصالح مشتركة، ثمة مخاوف مصرية من آثار التطبيع العربي مع إسرائيل، إذ تواجه قناة السويس تداعيات سلبية محتملة إزاء مشاريع النقل البديلة، والتي من بينها ما تسعى إليه تل أبيب وأبو ظبي.
إضافة إلى تهديد الاختراق الإسرائيلي للعمق المصري عربيا وأفريقيا في مجالات وملفات كانت القاهرة اللاعب الرئيسي فيها، سواء في فلسطين أو السودان أو ليبيا أو دول حوض النيل، خاصة أزمة سد النهضة الإثيوبي الذي تعتبره القاهرة مهددا لأمنها القومي ومستقبلها المائي.
وحول تقييمه لتجربة التطبيع، رأى أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية الأسبق عبد الله الأشعل أن مصر تضررت كثيرا لـ 3 أسباب بارزة: أولها حدوث تغلغل إسرائيلي في أجهزة الدولة باعتراف الموساد نفسه، وفق قوله.
ثاني الأسباب يتمثل في إضعاف الدور المصري عربيا، بعد اختراق الدول العربية أيضا باتفاقيات التطبيع (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) وبالتالي لم تعد مصر البوابة التي تصل الكيان الإسرائيلي بالعرب، كما كان يطمح السادات في أن يكون وسيطا أو سمسارا للسلام.
ثالثا: هناك سلام دافئ ليس بين الوطن وإنما بين النظام الحالي وإسرائيل، وتبقى المصالح بينهما أكبر مما يفرقهما، حسب قوله.
وشدد الدبلوماسي الأسبق على أن بلاده لم تستفد مطلقا من التطبيع، معتبرا إياه صفقة عُقدت بين بيغن والسادات فحسب، وليس هناك قضايا تجمع الكيان الإسرائيلي بالعرب سوى مصالح الأنظمة الحاكمة.
وعن مستقبل العلاقات الثنائية، توقع الأشعل تعرضها لهزات كبيرة لأسباب ترتبط بتطورات محلية في مصر (لم يحددها) وتراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة العربية، حيث يعتمد الكيان الإسرائيلي في المطلق على واشنطن، إضافة إلى وعي الشعوب بأن الأنظمة الحالية ضد مصالحها.
وحول ما أُثير إعلاميا عن دوافع استضافة السيسي لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي وولي عهد أبو ظبي الأسبوع الماضي، وربط اللقاء بمحادثات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، استبعد الأشعل مشاركة القاهرة أو تورطها مع دول خليجية والكيان الإسرائيلي في الملف الإيراني.
لكنه رأى أن مصالح الطاقة واكتشافات الغاز من الممكن أن تكون مدخلا لمزيد من التطبيع، مشيرا إلى أنها من القطاعات الكثيرة التي تغيب عنها الشفافية، مؤكدا أن الأمل يبقى في مواجهة الشعوب لمساعي التطبيع، ووقف الآثار السلبية لاختراق الكيان الإسرائيلي المصالح المصرية الحقيقية.
فوائد إسرائيلية وتخاذل مصري
ووفق تحليل سابق لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، تخدم معاهدة السلام مصالح الطرفين وقد تجاوزت نقطة اللاعودة، لكن التحليل طالب في الوقت ذاته بالاستمرار في مراقبة تعزيزات الجيش المصري بعناية.
وأشار المعهد إلى أن السلام مع مصر ذو أهمية استراتيجية للكيان الإسرائيلي من المنظور السياسي (التوسط مع الفلسطينيين) ومن المنظور العسكري (إبقاء مصر خارج دائرة الحرب) وكذلك المنظور الاقتصادي (تقليص ميزانية الدفاع).
أما عن جهود القاهرة الدبلوماسية ضد القدرات النووية لتل أبيب، فقد عزاها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إلى كونها لا تنبع من الشعور بالتهديد، بل من تصورها الذاتي على اعتبار أن مصر زعيمة للعالم العربي.
خلاصة التطبيع المصري بعد 45 عاماً
ضمت اتفاقية "كامب ديفيد" ضماناً لكل من مصر والكيان الاسرائيلي بالأمن والسلام، مع تطبيع العلاقات بينهما، بالإضافة لبنود تدير العلاقات الحدودية، ومنها تحديد المناطق المسلحة في سيناء، وعديد الضباط والعناصر المسموح تواجدهم في كل منطقة وتحديد عدد ونوع الآليات.
مع مرور الزمن وفي السنوات الـ 20 الماضية، خرقت "إسرائيل" معاهدة كامب ديفيد بعد سلسلة من الاعتداءات على مواطنين مصريين وضباط وجنود من الجيش المصري تحت حجة "الاشتباه بتسلل" تارة أو بانتماء الضحايا إلى مجموعات إرهابية تارة اخرى، مع العلم أن الاتفاقية تنص على "وجود ألفي جندي من القوات المتعددة الجنسيات المولجة بحفظ الأمن وحل النزاعات بين الطرفين".
كما أن بعض المحللين والناشطين الحقوقيين المصريين يتهمون الاحتلال الإسرائيلي بالتغاضي عن تنفيذ بعض البنود، حيث يتهمون الجانب الإسرائيلي بعدم إعادة الأموال المنهوبة التي سرقتها "إسرائيل" من استخراج النفط في سيناء إبان الاحتلال طيلة 6 سنوات.
كذلك، تقدمت المحكمة العليا في مصر بالادعاء على الحكومة الإسرائيلية لتقاعسها عن محاكمة مجرمي الحرب لقتلهم أسرى من الجيش المصري خلال معارك 6 أكتوبر والتعويض لعائلاتهم عن الخسارة.
وهنا لا بد أن نذكر أنه وبعد تولي أنور السادات الحُكم في 1970، ارتفع الدَّين الخارجي لمصر إلى 2.6 مليار دولار بسبب خوض حرب أكتوبر، وبعد ذلك بسنوات تضاعفت ديون مصر الخارجية أكثر من 8 أضعاف.
أزمات مصر في 2023
بلغة الأرقام، تشهد 2023 زيادات جديدة في معدلات التضخم قد تتجاوز 24% خلال 3 أشهر الأولى، بعد أن وصلت وفقاً لآخر الأرقام إلى 18.7%، وفي نفس الوقت من السنة الماضية 7.3%.
التضخم هو تآكل في القدرة الشرائية لدى المواطن العادي، وكلما ارتفعت الأسعار تقلصت قيمة الأموال التي يمتلكها، والنتيجة أنه بنفس الرواتب التي يتقاضاها المواطن أول كل شهر لا يستطيع تلبية كل احتياجاته التي كان يوفرها في السابق.
أما زيادة معدلات التضخم بنسب غير معقولة ومتتالية كالتي تتعرض لها مصر فهي عملية في غاية السلبية على حياة المواطنين، لأن لها أبعاداً اجتماعية أخرى مثل زيادة معدلات الفقر ومضاعفة حاجات العوز للمحتاجين الذين ليس لديهم غطاء اجتماعي.
وكلما تآكلت قدرة المواطنين وهجروا شراء بعض السلع غير الأساسية، تسبب ذلك في حدوث حالة من الكساد العام، وهو ما يُطلق عليه "الكساد التضخمي"، الذي يعد من أخطر العوامل السلبية المؤثرة على الاقتصاد الكلي بوجه عام.
ويشير آخر إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى ارتفاع معدل البطالة في مصر إلى 7.4% من إجمالي قوة العمل في الربع الثالث من 2022، بعد أن سجل 7.2 خلال الربعين السابقين "الربع الأول والثاني" من العام الجاري، وسط توقعات بأن تتزايد المعدلات خلال العام المقبل.
خبيرة مصرفية مصرية تحدثت مُفضلة عدم الكشف عن اسمها خوفاً من ملاحقة السلطة، إن معدلات التضخم من المتوقع أن تستقر في مستويات مرتفعة في مصر كباقي دول العالم، مشيرة إلى أن عوامل ضعف الاقتصاد الداخلي وغياب الرقابة على الأسواق تُضاعف نسب الزيادات في الأسعار.
وتنتقد المتحدثة عدم وجود إحصاءات دقيقة لمعدلات الفقر بعد التعويم الأخير للجنيه، لكنها تعود إلى أرقام حكومية بعد تعويم 2016، والذي يشير إلى أنه لولا دعم الحكومة للخبز والكهرباء والسلع التموينية لكانت معدلات الفقر قد ارتفعت إلى 40% بدل 29.7%.
وتؤكد الخبيرة ذاتها أن هناك علاقة ارتباط مباشرة بين زيادات الأسعار الناتجة عن التضخم وزيادة معدلات الفقر، وأن أصحاب الدخل الثابت هم الأكثر تضرراً، ووفقاً للمعدلات الحالية فإن الطبقة المتوسطة ستتعرض لمزيد من التآكل وسوف تنضم للفقراء.
وهناك قناعة بأن المواطنين سيكون عليهم دفع فواتير حتمية مثل الأقساط أو إيجار المسكن أو الخدمات العامة مثل الكهرباء والغاز والمياه، مُقابل ذلك فإنهم سيخفضون مستوى معيشتهم من إنفاق على التعليم أو العلاج أو أنواع الطعام الذي يتناولونه إلا للضرورة القصوى.
وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن التضخم السنوي في المدن المصرية ارتفع إلى 2.3% في نوفمبر/تشرين الثاني على أساس سنوي مقابل 0.1 للشهر نفسه من العام الماضي.
من جهتها، قررت لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي المصري في اجتماعها الأخير المنعقد في الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي رفع أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 300 نقطة أساس.