ترامب والأزمات المتكررة.. من لوس أنجلس إلى واشنطن، كيف تدفع أمريكا ثمن سياسات رئيسها؟

انفوبلس..
منذ لحظة دخوله البيت الأبيض، بنى دونالد ترامب زعامته السياسية على الانقسام، لا على التوافق، وعلى القوة المفرطة بدلًا من الدبلوماسية، وعلى الشعبوية بدلًا من المؤسسات. واليوم، تتجلى تداعيات هذا النهج في أحداث لوس أنجلس، المدينة التي تحوّلت إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين الحكومة الفيدرالية وسلطة محلية رافضة لسياسات يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها قمعية ومثيرة للانقسام.
منذ السادس من يونيو/ حزيران، تتسارع الأحداث وتتلاحق في لوس أنجلس أكبر مدن ولاية كاليفورنيا الأمريكية والقوة الاقتصادية للبلاد. والسبب، استمرار المواجهات في هذه المدينة الحيوية بين قوات النظام والمتظاهرين المناهضين لسياسة دونالد ترامب بشأن الهجرة، فضلا عن ارتفاع منسوب التوتر بين حاكم الولاية الديمقراطي الطموح غافن نيوسوم ودونالد ترامب.
تعيش مدينة لوس أنجلس أكبر وأهم مدينة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية يوما جديدا من المواجهات العنيفة التي بدأت الجمعة الماضي، بين السلطات الفدرالية الأمريكية ومتظاهرين يحتجون على عمليات مداهمة وإيقاف واسعة ضد مهاجرين غير قانونين في هذه المدينة الكبيرة التي تضم جالية أمريكية -لاتينية هامة للغاية.
ساحة مواجهة واسعة
ملامح "مدينة الملائكة" كما توصف، بدأت اليوم تتغير بشكل هائل، منذ أن انتشرت في شوارعها سيارات الشرطة وعناصر من الحرس الوطني وحتى من قوات المارينز.
لوس أنجلس التي عاشت يوما خامسا من المظاهرات والاحتجاجات العنيفة ضد إدارة دونالد ترامب تشهد أيضا تصعيدا غير مسبوق بين الحكومة الفدرالية وهذه الولاية الديمقراطية التي لا ترضخ لمشيئة دونالد ترامب. وبدأت أولى عناصر الحرس الوطني بالانتشار فيها يوم الأحد لحفظ النظام وصدّ المتظاهرين.
وأمر الرئيس الأمريكي بنشر الحرس الوطني في لوس أنجلس ضاربا عرض الحائط موقف حاكم الولاية الديمقراطي غافين نيوسوم، الذي ندّد بـ" وهم مجنون لرئيس ديكتاتوري".
انتشار المارينز
ترامب يكون بقرار نشر الحرس الوطني قد دفع الحكومة الفدرالية الأمريكية في صراع ضدّ الولاية التي توصف من قبل معسكر ترامب على أنها "ملاذاً" يحمي المهاجرين غير القانونين.
كما تعهد الأحد بفرض "القانون والنظام" مع انتشار عناصر من الحرس الوطني في المدينة. وقال إنهم "يتولون حماية الممتلكات والطواقم الفدرالية".
هذا، وأعلن أيضا الإثنين 9 يونيو/حزيران عن وصول 700 جندي من المارينز للحفاظ على النظام في لوس أنجلس، في تحدٍّ جديد لسلطات الحاكم الديمقراطي الشعبي في ولايته غافين نيوسوم.
وصعَّد دونالد ترامب من إجراءاته للرد على المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في لوس أنجلس من خلال نشر قوات المارينز واستدعاء 2000 جندي احتياطي.
كما أمر أيضا بنشر قوة إضافية متكونة من 2000 عنصر من الحرس الوطني يضافون إلى نحو 2100 فرد أُعلن نشرهم سابقا ليصل إجمالي القوات المنتشرة إلى 4100 عنصر . لكن على الميدان نشر فعليا 1700 من الحرس الوطني حتى مساء الإثنين، بحسب القيادة الشمالية للجيش الأمريكي.
وعادة ما تنتشر قوات الحرس الوطني الذي يعتبر جيشا احتياطيا للتدخل في حال حدوث كوارث طبيعية على غرار الحرائق والفيضانات والأعاصير ونادرا ما يستنجد به في حالات الاضطرابات المدنية، لكن غالبا ما يتم ذلك بموافقة السلطات المحلية.
جنود المارينز الذين كُلفوا بحماية الموظفين الاتحاديين والممتلكات الحكومية في انتظار وصول الـ4000 جندي من الحرس الوطني إلى لوس أنجلس، انتشروا هم أيضا في المدينة في سابقة هي الأولى من نوعها. ويعتبر هذا القرار استخداما غير عادي لقوة عسكرية لدعم الشرطة، رغم اعتراض قادة الولايات والحكومات المحلية الذين لم يطلبوا المساعدة.
تداعيات سياسية تعمّق الأزمة
ونشر حاكم كاليفورنيا الديمقراطي غافين نيوسوم على منصة أكس الأحد تغريدة قال فيها إن "ترامب أرسل ألفين من عناصر الحرس الوطني إلى لوس أنجلس، ليس لتلبية احتياجات لم تلبَّ، بل لفبركة أزمة".
وتابع قائلا إنه "يأمل بحصول فوضى لتبرير مزيد من حملات القمع ومزيد من بث الخوف ومزيد من السيطرة. واصلوا التحلي بالهدوء ولا تستخدموا العنف أبدا. ابقوا سلميين".
كما انتقد نيوسوم إجراء نشر ألفي جندي احتياطي إضافيين. وقال إن "الدفعات الأولى منهم لم تتلقَّ لا ماءً ولا طعاماً".
ويوم الإثنين، هدد مستشار دونالد ترامب للهجرة ومهندس سياسات الطرد الجماعي للمهاجرين غير الشرعيين توم هومان، باعتقال حاكم كاليفورنيا نيوسوم إذا تدخل في السياسة الفدرالية.
وأشاد الرئيس الأمريكي ترامب بهذه الفكرة التي وصفها "بالرائعة" كما وصف غافين نيوسوم بأنه مسؤول يُعرف بأنه "غير متمكن".
ورد نيوسوم على قناة "أم أس أن بي سي" على توم هومان بلهجة تحدٍّ: "تعالوا واعتقلوني...لنُنهي هذا الأمر نهائيًا".
وأضاف بأن "الحزب الجمهوري يُرسل طفلة في الرابعة إلى الموت "وهو أمر مُقزز"، في إشارة إلى قضية الطفلة المكسيكية صوفيا التي تعيش في لوس أنجلس، والتي تعاني من مرض نادر وتواجه الترحيل، قبل أن يتم إلغاء هذا الأمر.
ويذكر أن الديمقراطي غافن نيوسوم حاكم كاليفورنيا منذ 2019، أكثر الولايات الأمريكية تعدادا للسكان ، يحاول اليوم بحسب عدة مراقبين وضع نفسه كخصم رئيسي لدونالد ترامب.
وقد تكون أحداث لوس أنجلس الحالية فرصة ملائمة لذلك. خصوصا في ظل غياب شخصية ديمقراطية جديدة من شأنها الوقوف في مواجهة الجمهوريين في 2028، وربما في مواجهة ترامب نفسه إذا قرر بشكل أو بآخر خوض هذه الانتخابات.
ترامب يواجه نتائج سياساته
ما يحصل في كاليفورنيا ليس معزولًا عن السياق الوطني؛ إنه ببساطة أحدث فصل في سجل طويل من الأزمات التي فجّرها ترامب أو عمّقها، لأسباب تتعلّق بسوء الفهم البنيوي لطبيعة النظام الفيدرالي الأمريكي، ولرؤية أحادية تربط الأمن الداخلي بالقوة العسكرية، وتتجاهل التعددية السياسية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية.
شيطنة الداخل بدل إصلاحه
لطالما استخدم ترامب ملف الهجرة كورقة سياسية رابحة، محولًا معاناة ملايين البشر إلى ساحة معركة انتخابية. ومنذ قراره الأول بحظر دخول مواطني دول إسلامية، وصولًا إلى ممارساته على الحدود مع المكسيك، لم يكن هناك سوى خيط واحد يربط كل هذه السياسات: التطرف الشعبوي.
لكن في حالة لوس أنجلس، تجاوز ترامب حدود اللعب السياسي، وراح يختبر أدوات الدولة القمعية ضد ولاية بأكملها، فقط لأنها لم تنصع لرؤيته. لم يعد المهاجرون وحدهم مستهدفين، بل الحاكم، وسلطته المحلية، بل وحتى المواطنين الذين خرجوا للاحتجاج. وقد أدرك كثيرون أن الأمر لم يعد يتعلق بالهجرة، بل بتجريب أدوات "الدولة العميقة" لفرض السيطرة الفيدرالية، حتى لو كانت على حساب الدستور الأمريكي ذاته.
تسييس المؤسسة العسكرية
في سابقة خطيرة، أمر ترامب بنشر قوات المارينز والحرس الوطني في شوارع مدينة أمريكية لم تطلب سلطتها المحلية تدخّلًا عسكريًا. استخدام الجيش في مواجهة المدنيين، تحت ذريعة حفظ النظام، يُعد من الخطوط الحمراء في الفيدرالية الأمريكية. وقد دفع هذا القرار مراقبين للتحذير من تحويل الجيش إلى أداة حزبية تعمل لصالح البيت الأبيض، لا لصالح البلاد.
قادة عسكريون سابقون وجّهوا انتقادات حادة لهذا التوجّه، مشيرين إلى أن استخدام قوات مسلحة ضد المواطنين يُفقد الجيش حياده، ويقوّض علاقة الثقة مع المجتمع المدني، ويزيد من احتمالات التصعيد بدل التهدئة.
انقسام وطني عميق
أزمة لوس أنجلس أبرزت ما وصفه كثير من المحللين بـ"الخطر الفيدرالي"، أي احتمالية تفكك النظام الاتحادي من الداخل بسبب تصادم سياسات البيت الأبيض مع سياسات حكومات الولايات.
فولاية مثل كاليفورنيا، بأكثر من 39 مليون نسمة، واقتصاد يُصنّف ضمن العشرة الكبار عالميًا، ترفض علنًا الانصياع لإملاءات ترامب. هذا الصراع يطرح سؤالًا خطيرًا: هل تتحول الولايات المتحدة من اتحاد اختياري إلى ساحة تنازع سلطات؟
التلويح الفيدرالي باعتقال حاكم ولاية منتخب – كما فعل مستشار ترامب للهجرة توم هومان – يُنذر بخطر مؤسسي. فهو لا يمس فقط بعلاقة الولايات بالحكومة الفدرالية، بل يؤسس لسلوك ديكتاتوري خطير قد يفتح باب استخدام السلطة الفيدرالية ضد كل من يعارض سياسات الرئيس، مهما كانت شرعيته.
ترامب وصناعة الأزمات
أزمة لوس أنجلس ليست معزولة، بل هي استمرار لنمط إدارة قائم على خلق الأزمات واستغلالها سياسيًا.
في أزمة كوفيد-19، قلّل ترامب من شأن الجائحة، وهاجم حكام الولايات بدل تنسيق الجهود معهم.
في أحداث اقتحام الكونغرس (يناير 2021)، لم يكن مجرد متفرج، بل أحد محرّكي الخطاب الذي قاد إلى العنف.
وفي ملف العدالة العِرقية، ردّ على احتجاجات السود ضد عنف الشرطة بدعوات للقمع ونشر الجيش.
كل هذه الأزمات تكشف عن إدارة تبحث في كل فرصة عن خلق "عدو داخلي" لإعادة توحيد أنصارها، بدل مواجهة جذور المشكلة.
3
ملامح معركة 2028
الاشتباك بين ترامب وحاكم كاليفورنيا غافن نيوسوم يأخذ طابعًا انتخابيًا متزايدًا. نيوسوم، ذو الشخصية الكاريزمية والطموح السياسي، يقدم نفسه كوجه ديمقراطي مغاير، قادر على تحدي أطروحات ترامب اليمينية.
ففي حين يلوّح ترامب بالقوة والردع، يرد نيوسوم بخطاب الحقوق المدنية والدستور والمؤسسات. وهذه الثنائية قد تتحول خلال السنوات القادمة إلى معركة انتخابية حقيقية، خصوصًا مع ترنّح الحزب الديمقراطي في إنتاج شخصية وطنية موحدة بعد بايدن.
وفي مشهد تراجيدي يصفه البعض بـ"أمريكا ما قبل الانقسام"، يجد المواطن الأمريكي نفسه بين رئيس يسعى لفرض رؤيته على الجميع، وحكام ولايات يقاومون ما يصفونه بـ"ديكتاتورية مقنّعة".
أمريكا نحو اختبار وجودي
ما يحدث في لوس أنجلس اليوم هو أكثر من مجرد احتجاجات. إنها علامة على تصدع داخلي كبير في تركيبة الحكم الأمريكي، بفعل إدارة اختارت مرارًا الانحراف عن الأعراف الدستورية والسياسية، واستخدام أدوات السلطة لا لإدارة البلاد، بل لإخضاعها.
ومع استمرار ترامب في سياسته التصادمية، فإن أمريكا لا تواجه أزمة واحدة، بل سلسلة أزمات مترابطة في السياسة، والاقتصاد، والعدالة، والحريات، والمجتمع المدني.