تفجير السفارة العراقية في بيروت.. تحليل جديد يكشف الحقيقة وراء الاتهامات الموجهة للشهيد المهندس وزيف الإعلام السعودي
انفوبلس/..
في عام 1981، شهدت بيروت واحدة من أعنف الحوادث في تاريخها، عندما تعرضت السفارة العراقية لتفجير مدمّر. مرّت أربعة عقود ونصف على هذا الحدث الذي لا يزال يثير التساؤلات والجدل حول هوية منفذيه ودوافعهم. في الآونة الأخيرة، ظهرت اتهامات من وسائل إعلام سعودية وبعثية تُشير إلى دور مفترض للشهيد أبو مهدي المهندس في هذا التفجير. ولكن، عند العودة إلى الوثائق الرسمية والتقارير الصادرة عن القضاء اللبناني والدفاع المدني وخبراء المتفجرات من مختلف دول العالم، يتضح غياب أي دليل ملموس يربط المهندس بهذا الحادث.
وتشير التحقيقات المستقلة وردود الأفعال الرسمية من إيران والعراق والسعودية آنذاك إلى هوية الأطراف المتورطة في التفجير، مع غياب أي إشارة إلى تورط المهندس أو المحيطين به. ورغم ذلك، تستمر قنوات مثل "العربية" و"إم بي سي" في طرح هذه الاتهامات دون تقديم أدلة قاطعة، مما يثير تساؤلات حول دوافع هذه الاتهامات المستمرة والطبيعة الحقيقية للجهات المتورطة في التفجير.
من روّج للتهمة؟
وتستمر بعض الجهات الإعلامية، مثل قنوات "العربية" و"إم بي سي" بالإضافة إلى وسائل الإعلام الأمريكية والصهيونية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي المرتبطة بالتشرينيين والبعثيين، في اتهام الشهيد أبو مهدي المهندس بالمشاركة في تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981، وفي كل مرة يتم فيها التطرق إلى الحادث، يُعاد التركيز على اسم المهندس، رغم غياب أي دليل يثبت علاقته بما حصل.
الأساس الوحيد لهذه الاتهامات هو تصريح قديم أدلى به وزير التعليم الأسبق علي الأديب، حيث نسب التفجير إلى حزب الدعوة الإسلامية، مشيراً إلى أن منفذ العملية هو أبو مريم الكرادي، الذي قاد سيارة مفخخة وفجرها قرب السفارة وفقاً للرواية المتداولة، وبخلاف هذا التصريح، لا توجد أدلة أخرى تربط أي جهة شيعية بالحادث، ناهيك عن عدم وجود ما يشير لعلاقة المهندس به، ما يجعل الاتهامات الموجهة إليه مبهمة ومحكوم عليها بالكذب والتزييف.
هذه الادعاءات استندت لأول مرة إلى وثائق بثتها قناة "إم بي سي"، التي وجهت التهمة دون تقديم أي دليل قاطع، مما يثير التساؤلات حول دوافع هذه الاتهامات وتكرارها المستمر.
أثر التفجير من الداخل
وفقاً لمراقبين وخبراء في مجال المتفجرات، فإن تحليل الصور والفيديوهات التي توثق حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت يكشف أن الدمار الذي أصاب المبنى المكون من ستة طوابق كان شاملاً، حيث انهار المبنى بالكامل ووصل سقف الطابق السادس إلى الأرض. هذا النوع من الدمار يشير إلى أن التفجير كان من الداخل وليس من الخارج.
الخبراء يؤكدون أن تفجيراً يؤدي إلى انهيار مبنى من هذا الحجم يتطلب وجود متفجرات داخل المبنى نفسه. أي سيارة مفخخة، مهما بلغت قوة حمولتها، لا يمكنها إحداث هذا المستوى من الدمار من الخارج. التفجيرات الخارجية تؤدي عادةً إلى تآكل المبنى باتجاه الخلف وليس إلى انهياره بالكامل من الأسفل إلى الأعلى، مما يعزز فرضية أن التفجير نُفّذ باستخدام مخزن متفجرات داخلي.
توثيق الصحافة
تتعارض فرضية تفجير السفارة العراقية في بيروت بواسطة سيارة مفخخة مع ما نشرته جريدة الأنباء الفلسطينية في 16 كانون الأول 1981، بعد يوم واحد من الحادث. أشارت الجريدة إلى أن إرهابيين تسللوا إلى المبنى وزرعوا أربع عبوات ناسفة عبر نفق، ولم تذكر أي رواية عن سيارة مفخخة. ووصفت الجريدة التفجير بأنه "أكبر انفجار شهدته لبنان منذ سبع سنوات"، وأكدت أن الانفجار أدى إلى سقوط المبنى بالكامل وسُمع دويه في جميع أنحاء بيروت.
وذكرت الصحيفة، أن الشرطة اللبنانية أعلنت أن التحقيقات جارية، مشيرة إلى أن إرهابيين مجهولي الهوية تمكنوا من التسلل إلى فناء السفارة عبر نفق وزرعوا المتفجرات تحت المبنى، رغم الحراسة المشددة. في الوقت نفسه، نفت إيران تورطها في التفجير، وفقاً لما نقلته جريدة الأنباء.
وصرح رئيس الوزراء الإيراني آنذاك، مير حسين موسوي، نافياً الاتهامات العراقية بأن وكلاء من إيران وسوريا هم المسؤولون عن تفجير السفارة. وقال موسوي: "لسنا بحاجة إلى مثل هذه الأعمال الإرهابية"، ما يؤكد نفي إيران لأي تورط في الحادث.
جيش التحرير العراقي
وفي عام 1982، نشرت صحيفة "المسائية" السعودية تقريراً يناقض الرواية العراقية آنذاك حول تفجير السفارة العراقية في بيروت، والتي أشارت إلى أنه تم بواسطة سيارة مفخخة، وكذلك الرواية اللبنانية التي تحدثت عن عبوات ناسفة، وذكرت الصحيفة أن منظمة غير معروفة تبنّت التفجير عبر اتصال هاتفي من قوة تدعى "جيش التحرير العراقي".
وأوضحت الصحيفة، أن الادعاء الوحيد بالمسؤولية جاء من متحدث مجهول اتصل بمكتب وكالة أنباء غربية في بيروت، مدّعياً تمثيله لمنظمة لم تكن معروفة من قبل تُسمى "جيش التحرير العراقي/القيادة العامة".
من ناحية أخرى، نشرت صحيفة "السفير" اللبنانية تقريراً بعد 12 يوماً من الانفجار، أشارت فيه إلى أن سيارة مفخخة تحمل 100 كيلوغرام من مادة TNT انفجرت في موقع الحادث. غير أن خبراء المتفجرات أكدوا أن حجم الدمار الناتج عن الانفجار يفوق ما يمكن أن تحدثه 100 كيلوغرام من مادة TNT فقط، مما يثير الشكوك حول الرواية الرسمية.
التفجير من داخل السفارة
قاضي التحقيق اللبناني أكد أن الانفجار وقع من داخل السفارة العراقية، وليس نتيجة فعل خارجي. في تقرير نُشر في الصحف اللبنانية، واحتل صفحتين كاملتين في جريدة "السفير" آنذاك، خلص القاضي إلى أن التفجير تم من داخل المبنى.
وأشار القاضي إلى احتمالين لا ثالث لهما: إما وجود متفجرات في قبو السفارة أدت إلى الانفجار، أو أن نفقاً قد حُفر تحت المبنى، ووضعت فيه عبوات ناسفة في مواقع محددة، مما تسبب في انهيار السفارة، واستبعد القاضي فرضية التفجير بسيارة مفخخة يقودها انتحاري، والتي روج لها بعض السياسيين ومصادر في المعارضة العراقية.
القبض على الجناة
في اليوم التالي للتفجير، نشرت صحيفة لبنانية تقريراً يفيد بأن سيارة مازدا محمّلة بـ 100 كيلوغرام من المتفجرات انفجرت في موقع الحادث. أعلنت ثلاث منظمات مسؤوليتها عن التفجير، وهي "جيش التحرير العراقية"، "جيش تحرير كردستان"، و"قوات المعارضة العراقية".
وثيقة صادرة عام 1993 أشارت إلى أن الجناة اعتُقلوا واعترفوا بارتكاب العملية، وتم شمولهم بقانون العفو العام الصادر بعد الحرب، والذي أسقط دعاوى الحق العام عنهم. ومع ذلك، نقضت محكمة التمييز قرار العفو، حيث أوضحت أن قانون العفو العام لا يشمل جرائم اغتيال الدبلوماسيين.
وثيقة أخرى تضمنت نسخة من الحكم النهائي بحق المتهمين، مؤكدةً عدم وجود أي شيعي أو عراقي بينهم، حيث اعترافات المتهمين أشارت إلى أنهم نفذوا التفجير، مما يعزز الشكوك حول الروايات التي تربط التفجير بأطراف عراقية.
المفجّر الحقيقي.. أحمد خميس البيومي
وفي اعترافات منشورة للعميل الإسرائيلي أحمد خميس البيومي، تثبت تورطه بالتفجير الذي نفذه عبر حقيبة داخل السفارة، لعلم الإسرائيليين بوجود أصلًا مخزن متفجرات ضخم جدًا داخل قبو السفارة، وتم تفجير المخزن عبر تفجير الحقيبة المفخخة داخله.
وورد في الاعترافات، أنه "في إحدى الشقق ببيروت، أقام خميس أحمد بيومي، وهو ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهد به ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه "روبرتو"، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط ميقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات".
وذكرت وثيقة مكتوبة فيها الاعترافات، أن "المواد شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريبًا طويلًا، خاصة أنه كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة "تي إن تي" حيث إن خميس البيومي، لم يسبق له الالتحاق بالجيش، ولا يملك أي خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب. وفي أولى عملياته التخريبية، صدرت إليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية ببيروت. سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود، وحمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط ميقاتها، وتوجه إلى مبنى السفارة في هدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى بدون حقيبته التي تركها بالصالة الرئيسية خلف فازة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة. نصف الساعة وملأ الحي دوي الانفجار، وقتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين".
وبحسب الوثيقة، فإنه "كانت إسرائيل تقصد من تفجير السفارة العراقية ببيروت إشعال الشقاق بين الدولتين، وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة لتقوية أواصر العلاقة بين لبنان والاتحاد السوفييتي، ويؤيد لبنان في خطواتها نحو الاتجاه إلى "الشرق"، وكانت إسرائيل تقصد أيضًا توجيه الاتهام إلى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني".
نيويورك تايمز "متمردون أكراد خلف الحادث"
في تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بتاريخ 16 كانون الأول 1981، أفادت بأن تفجير مبنى السفارة العراقية في بيروت أسفر عن مقتل 20 شخصاً وإصابة 100 آخرين. وأشارت الصحيفة إلى اتصال مجهول أجراه شخص مع محطة إذاعية في بيروت، زعم فيه أن التفجير نُفذ لصالح المتمردين الأكراد في العراق.
كما ذكرت التقارير أن السفير العراقي آنذاك، عبد الرزاق لفتة، أُصيب في ساقه جراء الانفجار. تأتي هذه التصريحات لتضيف بُعداً آخر إلى الروايات المتضاربة حول دوافع التفجير والجهات المسؤولة عنه، مما يعقّد محاولات تحديد الجهة الفعلية التي تقف وراء هذا الهجوم الدموي.
- وتكشف هذه الوقائع والوثائق التي تم تناولها في التقرير عن دلائل قاطعة تنفي تماماً الاتهامات الموجهة إلى الشهيد أبو مهدي المهندس بشأن ضلوعه في تفجير السفارة العراقية في بيروت. فالمراجعة الدقيقة للتقارير الصحفية، بما في ذلك ما نشرته الصحف اللبنانية والأمريكية، إلى جانب نتائج التحقيقات الرسمية، تؤكد أن التفجير كان ناتجاً عن تفجير داخلي أو عبوات ناسفة زرعها إرهابيون مجهولون وليس كما زعمت بعض الروايات، كما أن التقارير الرسمية وأقوال الخبراء تنفي أي علاقة للشهيد المهندس بهذه الحادثة، وبالتالي، فإن ما تروّج له قنوات "العربية" و"إم بي سي" من اتهامات لا تعدو كونها محض افتراءات بلا أدلة أو أساس حقيقي.