أمراض "مميتة" وخسائر تقدر بمليارات الدولارات سنوياً.. أضرار لا يعلمها العراقي عن المولدات المحلية
انفوبلس/ تقرير
يعتمد العراقيون في كل عام مع بدء فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، بشكل كبير على المولدات الأهلية التي تتسبب بتداعيات "خطيرة" على صحة السكان، على الرغم من الوعود المستمرة التي تطلقها وزارة الكهرباء، بتحسين الطاقة وزيادات ساعات التجهيز.
ويسلط تقرير شبكة "انفوبلس"، الضوء على اضرار المولدات المحلية "الجسيمة" في العراق والخسائر المادية "الهائلة"
المواطن محمد حسين، اضطر إلى إخلاء منزله جنوبي بغداد بعد انهيار الجدران الخارجية لمنزله بسبب الاهتزازات الناجمة عن مولدات الكهرباء القريبة، ويقول، "تعكس محنتي محنة الأغلبية في الحي الذين يعانون من الآثار الضارة للمولدات المحلية، فهذه الآلات تنتهك الآداب العامة، وتنتشر عبر الأماكن العامة بشبكة أسلاك متشابكة تهيمن على كل زاوية، مما يؤدي إلى التلوث البصري".
ويضيف: "أنا وعائلتي المكونة من خمسة أفراد نعاني من الحساسية المستمرة والانزعاج بسبب الروائح الكريهة وتسربات الزيت وبرك المياه الملوثة التي تخرجها المولدات".
ووسط الانبعاثات الخانقة والدخان الأسود المتصاعد في الحي نفسه، يتوقف كرار عباس - صاحب مولد كهربائي محلي - ويقول، "لم يكن لدي خيار سوى دخول هذا المجال نظرا لقلة فرص العمل، فالعمل مليء بالمشاكل المستمرة، خاصة عندما يحدث عطل مفاجئ في المولد أو التعامل مع الأفراد الذين يعانون من الحساسية، وهناك من لا يتحمل ضجيج المولد العالي، وأجد نفسي عاجزاً عن إيجاد الحلول لها، وهي مشكلة منتشرة لم تتمكن الحكومة من معالجتها منذ عقود".
يعاني العراق من نقص حاد في إمدادات الطاقة الكهربائية على مدى العقود القليلة الماضية، بسبب الحروب المتعاقبة وتدهور البنية التحتية، وقد أدى السعي إلى إيجاد طرق بديلة لتأمين الكهرباء، باستثناء محطات توليد الطاقة، إلى نشوء وضع محفوف بالمخاطر بيئياً في جميع المدن العراقية.
وعند اللجوء إلى طرق بديلة لتأمين الكهرباء، بعيداً عن محطات توليد الطاقة التقليدية، ظهرت مولدات الديزل الخاصة كحل بديل لأزمة الكهرباء، حيث تم تصنيع الكثير منها منذ أكثر من عقدين من الزمن. وتطلق هذه المولدات كميات كبيرة من الدخان الأسود (جزيئات الكربون) وتولد أصواتًا عالية ومزعجة.
وتخصص الأسر العراقية مجتمعة ميزانية سنوية تتراوح بين 6 إلى 10 مليارات دولار، وهو مبلغ كبير يستفيد منه أصحاب المولدات الخاصة بشكل مباشر. وهذا الإنفاق المالي يتساوى مع كامل ميزانية الدول التي تعتمد فقط على نفقات الكهرباء في العراق، بحسب الاحصائيات التي اطلعت عليها شبكة "انفوبلس".
في حين تلعب المولدات الخاصة دورا حاسما في تلبية احتياجات المواطنين من الكهرباء، إلا أنها ليست معفاة من القضايا الضارة بالبيئة، بالإضافة الى الصراعات المستمرة بين أصحاب المولدات والسكان.
بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتلاعب أصحاب المولدات بالأسعار الرسمية، على الرغم من تحديدها من قبل مجالس المحافظات. ومن المؤكد أن عددًا كبيرًا من أصحاب المولدات يفشلون في الالتزام بلوائح التسعير هذه.
علي جابر، مدير إدارة مراقبة جودة الهواء بوزارة البيئة، يقول إن "النقص في إمدادات الكهرباء الوطنية يتم تعويضه بواسطة المولدات الخاصة، وهذه المولدات تصدر منها انبعاثات تنتشر في مناطق أوسع داخل المدينة، بالإضافة الى تداعيات بيئية متنوعة، تشمل التلوث الضوضائي، وتصريف الزيوت المستعملة في شبكة الصرف الصحي، والإهدار في استهلاك المياه الصالحة للشرب لتبريد مولدات الكهرباء خلال فصل الصيف".
وبحسب جابر، أدى ذلك لزيادة معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي في العراق، حيث يوضح إن "استنشاق الهواء الملوث يشكل خطراً على صحة الإنسان على المدى القصير والمتوسط والطويل، وان الارتفاع الملحوظ في معدلات الإصابة بالسرطان والأمراض المرتبطة بالجهاز التنفسي هو نتيجة مباشرة للتلوث".
"إن معالجة الملوثات والتخفيف من آثارها يمثل تحديًا معقدًا يتطلب موارد وجهودًا متضافرة ودراسات متعمقة"، بحسب جابر.
*دور شرطة البيئة في العراق
تأسست شرطة البيئة في العراق بموجب النظام الداخلي رقم (1) لسنة 2015، وتتبع إدارياً لوزارة الداخلية، بينما تتبع فنياً لوزارة البيئة. وتضطلع الشرطة البيئية بمسؤولياتها في حماية البيئة وتعزيزها بكل جدية من خلال أجهزتها الإشرافية والتنفيذية المتنوعة، وتتعاون بشكل وثيق مع الجهات الحكومية الأخرى.
وتشمل هذه المسؤوليات المراقبة البيئية، حيث تمارس شرطة البيئة سلطة الاعتقال القضائي الممنوحة قانونًا والتي تنطبق على ضباط الشرطة بسبب الجرائم البيئية، بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يتلقون الشكاوى والتقارير المتعلقة بالانتهاكات البيئية ويحققون فيها بشكل نشط، مما يضمن اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة ومتابعة النتائج بجدية.
وفي هذا السياق، يكشف فراس سليم، مدير شرطة البيئة في العراق، أن البلاد تستضيف حاليًا عددًا مذهلاً من المولدات يبلغ 49 ألفًا، فيما يشير الى إن العدد الإجمالي للمستفيدين يبلغ 6,700,665 مشتركاً، حيث وصلت الأمبيرات المخصصة إلى 25,875,722 أمبير خلال شهر واحد.
ويقول سليم: "إلى جانب تلوث الهواء، لاحظنا تقلبات في مستويات الملوثات المنسوبة إلى مولدات البنزين والديزل. ومن الجدير بالذكر أن تركيزات أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكبريت تسجل أعلى في مولدات البنزين مقارنة بنظيراتها التي تعمل بالديزل".
"تشكل الانبعاثات الصادرة عن مولدات الديزل ما يقرب من 10 بالمائة مما تنبعث منه مولدات البنزين من أول أكسيد الكربون، وهو ما يتجاوز في كثير من الأحيان الحدود الوطنية الموصى بها للمولدات التي تعمل بالبنزين. في حين أن مولدات الديزل لا تنتج مركبات الرصاص، إلا أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في مستويات الرصاص متجاوزة الحدود الوطنية المقترحة عند استخدام مولدات البنزين"، وفقاً لسليم.
وبحسب سليم، فإن القلق السائد بشأن محركات الديزل يكمن في الروائح والدخان المصاحب لها.
ويتابع: "إن تحديد كمية الانبعاثات الصادرة عن المولدات يشكل تحديا لأنها تميل إلى الانتشار في الهواء، مما يجعلها متقلبة ويصعب قياسها، ومع ذلك، يمكن للأجهزة المتخصصة قياس التلوث على مقربة من المولد، والكشف في الغالب عن أول أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين، وأكاسيد الكبريت".
*تلوث سمعي
يوضح مدير شرطة البيئة في الكرخ مصطفى الطائي، أنه "استجابة لشكاوى عديدة من مجمع سكني معاصر في بغداد بخصوص الضجيج المزعج الصادر من مولد كهربائي، تم تشكيل لجان لتقييم مدى التلوث الضوضائي باستخدام ديسيبل (جهاز قياس)".
ويكشف أنه "على الرغم من محاولاتنا المستمرة لقياس مستويات التلوث الضوضائي، إلا أن الجهاز يتوقف عن العمل في كل مرة بسبب تجاوز الصوت الحد المسموح به بعدة أضعاف".
ونقلاً عن معلومات من منظمة الصحة العالمية، ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، ووكالة حماية البيئة، فان التلوث الضوضائي يمثل مصدر قلق صحي متزايد.
والتلوث الضوضائي، يدل على وجود أصوات غير مرغوب فيها في المناطق المحيطة، وتعريض الأفراد لضعف السمع والصداع والإجهاد، مما يؤثر بالتالي على الإنتاجية العامة ونوعية الحياة.
وبحسب الطائي، تنتج هذه المولدات موجات صوتية تنتشر عبر الهواء، ويمكن قياسها باستخدام تقييمات مستوى الصوت. وحدة قياس الضوضاء هي الديسيبل، حيث أن الضوضاء التي تتجاوز 30 ديسيبل قادرة على التسبب في اضطرابات نفسية، فإن المستويات التي تتراوح بين 60 إلى 90 ديسيبل يمكن أن تسبب مشاكل نفسية وعصبية وتضعف السمع، في حين أن الضوضاء التي تتجاوز 120 ديسيبل تؤثر بشكل مباشر على الخلايا العصبية داخل الأذن.
"لقد لاحظ تحقيقنا انخفاضًا في مستويات ضغط الصوت بحوالي 6 إلى 7 ديسيبل مع مضاعفة المسافة بين المصدر والمستمع. ومع ذلك، فإن انتشار المولدات الخاصة على مقربة من المناطق السكنية يمكن أن يؤدي إلى ضرر كبير وجدير بالملاحظة"، وفقا للطائي.
كما يربط حسين اللامي، الخبير في علم النفس والفلسفة، التلوث الضوضائي بتراجع الصحة العقلية، حيث يقول إن "التلوث الضوضائي يؤدي إلى أعراض صحية ليس فقط عند البشر ولكن أيضًا عند الحيوانات والنباتات. فهو يؤدي إلى انخفاض إنتاج البيض للدجاج وحليب الأبقار. علاوة على ذلك، فإنه يؤثر على نمو النبات، وعملية التمثيل الضوئي، وهجرة الطيور بسبب لنفورهم من الأصوات العالية".
اللامي يفيد بأن "أعراض التأثيرات النفسية تشمل التعب السريع والإرهاق العصبي والشعور بالانقباض وزيادة التهيج والشكاوى المتكررة والتأثيرات العصبية الفسيولوجية، مشيرا الى ان ذلك يؤدي إلى زيادة الأخطاء، وتراجع القدرة على التركيز، وضعف الأداء العقلي والمعرفي، وفي بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي الضوضاء إلى فقدان السمع بشكل مؤقت أو دائم".
وتشير دراسات محددة إلى أن الضوضاء تؤثر على القدرة الإدراكية للفرد، مما يسبب الإجهاد العقلي وعدم القدرة على الفهم والتعلم.
*حقوق الانسان
سلطت رغد ودود الرفاعي، أخصائية الأمن البيئي في المفوضية العليا لحقوق الإنسان، الضوء على التأثير المقلق للمولدات الخاصة على حقوق الإنسان.
وتوضح أنه "في ظل النقص الكبير في الكهرباء في البلاد، يعتمد الكثير من المواطنين على المولدات الخاصة لتعويض النقص، ومع ذلك، فإن هذا الاعتماد يثير مجموعة من القضايا الإنسانية والبيئية. وقد حددت فرقنا العاملة في بغداد والمحافظات العديد من المشاكل، بما في ذلك الآثار السلبية على الصحة والسلامة النفسية".
وتشير الرفاعي إلى أن "عدم وجود عازل للصوت في معظم المولدات يؤدي إلى التلوث الضوضائي، في حين أن التخلص غير السليم من النفايات في شبكة الصرف الصحي يشكل مخاطر بيئية إضافية"، لافتة الى أن وضع هذه المولدات بشكل عشوائي، دون التقيد بالمعايير المكانية، يزيد من تفاقم تأثيرها السلبي، ويفوق أي فوائد قد تقدمها.
وتشدد الرفاعي على أن "وجود هذه المولدات البالغ عددها 49 ألفاً في القطاع الخاص، يستوجب الالتزام بالأنظمة البيئية الوطنية، بما في ذلك القانون رقم (27) لسنة 2009 بشأن حماية البيئة وتعزيزها".
علاوة على ذلك، فإن الالتزام بالمعايير البيئية التي حددتها منظمة الصحة العالمية لمستويات الصوت أمر بالغ الأهمية للتخفيف من المخاطر الصحية المرتبطة بالضوضاء في المناطق السكنية، حيث ينبغي أن تتراوح المستويات بشكل مثالي بين 50 و55 ديسيبل، وتجاوز هذه الحدود يمكن أن يؤدي إلى إعاقات سمعية مثل فقدان السمع الدائم والمؤقت، فضلا عن الأذى الجسدي.
بالإضافة إلى ذلك، سلطت الرفاعي، الضوء على التأثير النفسي ومشاكل الجهاز التنفسي والحساسية المرتبطة بانبعاثات المولدات، إلى جانب الآثار السلبية على البيئة المحلية التي لا تتماشى مع الجهود العالمية لمكافحة أزمة تغير المناخ وتعزيز التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة.
تقول الرفاعي، "تتلقى المفوضية بموجب القانون رقم (53) لسنة 2008 العديد من الشكاوى من الأفراد والجماعات ومنظمات المجتمع المدني بشأن انتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن الانبعاثات الضارة والتلوث الضوضائي، وتدعو إلى إنفاذ حقوقهم بما يتماشى مع القوانين الوطنية السائدة والجهات المؤسسية ذات الصلة المكلفة بدعم هذه الحقوق".
*إهدار المياه العذبة
في ظل أزمة المياه العالمية المستمرة، فإن الاستخدام الكبير وإهدار المياه العذبة من قبل المولدات الخاصة يشكل مخاطر ملحوظة على البيئة والمجتمع، في وقت يصنف برنامج الأمم المتحدة للبيئة العراق في المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر تأثرا بتغير المناخ والجفاف على مستوى العالم.
وعلى المستوى الحكومي، صرح وزير الموارد المائية عون ذياب بشكل متجهم أن "منسوب المياه في العراق قد انخفض إلى مستويات غير مسبوقة".
علاوة على ذلك، ووفقاً للأمم المتحدة، تقلصت مساحة الأهوار الجنوبية في العراق، والتي تتغذى على مياه فيضانات نهري دجلة والفرات، بشكل كبير من 20 ألف كيلومتر مربع في أوائل التسعينيات إلى مجرد 4000 كيلومتر مربع استناداً إلى أحدث التقديرات.
وبعد تحليل إحصائي لـ 15 مولداً من مناطق مختلفة في بغداد، قام فريق شبكة "انفوبلس"، بحساب البصمة المائية للمولدات الخاصة في العراق وحجم المياه المهدرة لتبريدها كما هو موضح أدناه:
ويستخدم كل مولد، خاصة خلال فصل الصيف، ما لا يقل عن 2000 لتر أو 2 متر مكعب من المياه يوميًا. ومع وجود ما مجموعه 49 ألف مولد كهربائي خاص عامل في العراق، فإن هذا الاستهلاك الجماعي يصل إلى 98 مليون لتر يوميا، أي ما يعادل 98 ألف متر مكعب.
وعلى مدار شهر، تستهلك هذه المولدات مجتمعة كمية مذهلة تبلغ 2,940,000,000 لتر، أو 2,940,000 متر مكعب من المياه، ولوضع هذا في الاعتبار، يمكن أن تتجمع هذه الكمية لتشكل بحيرة كبيرة!.
وعلى الرغم من تخصيص مليارات الدولارات لقطاع الكهرباء، لا تزال المولدات الخاصة تهيمن على مشهد الطاقة، مما يشكل تحديات بيئية كبيرة.
وتكافح الحكومة العراقية لمعالجة أزمة الكهرباء، خاصة خلال أشهر الصيف الحارة عندما ترتفع درجات الحرارة إلى ما يزيد عن نصف نقطة الغليان. وتستمر معضلة الكهرباء كمسألة معقدة، تشكلت من خلال سنوات من التحديات المتراكمة والأعباء الموروثة من الإدارات السابقة.