التحقيق في حريق مستشفى النسائية والأطفال بالديوانية يقترب من إدانة 4 مراهقين.. أهلهم يؤكدون براءتهم ويستعرضون جملة أدلة
تقرير يسرد التفاصيل الكاملة والكامنة
التحقيق في حريق مستشفى النسائية والأطفال بالديوانية يقترب من إدانة 4 مراهقين.. أهلهم يؤكدون براءتهم ويستعرضون جملة أدلة
انفوبلس/..
أُخمدت النيران التي اشتعلت في مستشفى النسائية والأطفال بمحافظة الديوانية، وعادت المستشفى إلى العمل بشكل طبيعي، لكن ثمة نيران أخرى لا تزال تشتعل وتستعر داخل بعض البيوتات التي اتُهم أفراد منها بافتعال الحريق "زوراً"، لتندلع مواجهة حامية بالأدلة ومقاطع الصوت والصورة وتقارير الفحص الجنائي.. فهل كان المتهمون بريئين من الحادث أم متورطين فعلياً؟
*كابوس
وتحولت قصّة أربعة مراهقين، أكبرهم يبلغ من العمر 13 سنة، ذهبوا لزيارة مريض في مستشفى النسائية والأطفال بمحافظة الديوانية، إلى كابوس بعد أن أُلقي القبض عليهم، بتهمة إحراقهم المستشفى في 8 كانون الثاني 2024، والتسبب بموت 5 أطفال في الخدّج.
بعد أسبوع على فاجعة حريق المستشفى التي هزّت العراق في كانون الثاني الماضي، خرجت أمهات أربعة أطفال بوقفة احتجاج، أكبر أولئك الأطفال يبلغ من العمر 13 سنة. رفعنَ لافتات كُتب عليها بخطّ اليد: “اتهام الأطفال بحرق المستشفى باطل”، ولافتات أخرى كُتب عليها: “أولادنا أبرياء”. ومثل هذه اللافتات حملها أيضاً إخوة وأصدقاء الأطفال المعتقلين.
مصطفى محمد (13 سنة)، وعلي ماجد (13 سنة)، وعلي حسنين (12 سنة)، وعلي لطيف (13 سنة)، لم يتخيلوا قط أن الذهاب إلى المستشفى بهدف الزيارة، سيتحوّل إلى كابوس مريع، ينتهي بهم في سجن جهاز مكافحة الإرهاب، وأن ذلك المشوار القصير سيكون رحلة طويلة من الاعتقال والتعذيب والتهديد.
ميثم الشهد، محافظ الديوانية السابق، أعلن في مؤتمر صحفي عُقد بعد أسبوع على الحادث، عن اعتقال أربعة أشخاص متهمين بحريق مستشفى النسائية والولادة في المحافظة، مؤكداً أن الحريق وقع بفعل فاعل، وأنّ “الإخوة في مديرية الاستخبارات والشرطة بذلوا جهوداً كبيرة في إلقاء القبض على المتورطين خلال ثلاثة أيام”.
المحافظ قال، إنّ الجناة “اعترفوا بارتكابهم الجريمة، وصُدّقت أقوالهم قضائياً، وحُسِمت القصة من ناحية الأسباب”. وفي التفاصيل التي ذكرها المحافظ أنّ “المتهمين” قاموا بحرق الأنقاض الموجودة في المستشفى، حيث كان يرقد أكثر من 193 شخصاً، إضافة إلى الكادر الطبي.
بيد أن أياً من المسؤولين الحاضرين في المؤتمر الصحفي، لم يكشف عن هذه الأدلة أو تقرير التحقيق.
*شهادات
عائلات الأطفال “المتهمين” ومحاميهم، كشوا الشهادات والوثائق ورواية مغايرة تماماً لتلك التي رواها المحافظ، وأنّ “الجناة” الذين يتحدث عنهم المحافظ هم في الحقيقة أطفال (أحداث)، وأن اثنين منهم لم يكونا وقت اندلاع الحريق في مبنى المستشفى.
وذكر تقرير “محضر كشف ورفع الآثار لمسرح الجريمة” الذي أجرته الأدلة الجنائية بعد يوم واحد من الحادثة، بأن “الحريق ناتج عن تماس كهربائي في الأسلاك التي تمرّ فوق النفايات”، وهذه النفايات أكد وجودها التقرير بالقرب من جدار ردهة الخدّج رقم 2 من الخارج.
أُوقف فريق الأدلّة الجنائية الذي أصدر تقريره وأثبت أن الحريق ناتج عن تماس كهربائي، وأُودع أفراده السجن لثلاثة أيام وفُتح بحقهم مجلس تحقيقي بوزارة الداخلية، بسبب ما قالت الوزارة إنّه “تسريب” لتقرير الأدلّة الجنائية.
ثم “بعد أيام ذكرت إدارة المستشفى أنّ ما حصل ليس تماساً كهربائياً وبالتالي تم اعتقال مصطفى وأصدقائه الثلاثة”، بحسب المحامي ضرغام إبراهيم، الذي وكلته عائلة الطفل مصطفى محمد بعد يومين من اعتقاله للدفاع عنه في الدعوى المقامة ضده من قبل الدولة.
وقال المحامي ضرغام إبراهيم، ان "بعض الضباط عندما توكل إليهم مهمة تتعلق بجريمة ما، فإنّهم يلصقونها بأيّ شخص، “حتى وإن كان الشخص بريئاً، ليتخلصوا منها، لأنَّ بقاء الدعوى مقيدة ضد مجهول يعني استمرار العمل في الدعوى والبحث والتحري"، مؤكدا ان "هناك أشخاصا اعتُقلوا على سرقة دراجة، وأُلصقت بهم جرائم أخرى، حتى يتخلص الضابط منها”. وهذا ما يبدو أنه حدث في قضية أطفال الديوانية نظراً لأنه “لا تتوفر أيّة أدلة على ارتكاب هؤلاء الأطفال للجريمة”..
لم يُعامل الأطفال معاملة “الأحداث”، وإنّما جرى التعامل معهم على أنّهم “إرهابيون”، وهذا يخالف قانون رعاية الأحداث رقم (76) لسنة 1983 المعدّل، الذي يلزم السلطات بتدابير خاصة تراعي عمر الحدث، وظروف اعتقاله، والتحقيق معه، ومكان احتجازه.
بحسب المحامي ضرغام ابراهيم، فإنّ قانون رعاية الأحداث يمنع تدوين أقوال الأطفال النهائية في مكتب مكافحة الإرهاب، ولا في محكمة التحقيق، وإنما يجب إحالة الملف منذ البداية إلى “محكمة الأحداث”، وهي الجهة التي تشرف على تدوين أقوالهم، للحفاظ على حقوقهم، وبوجود مكتب دراسة الشخصية، وهذا ما لم يحدث.
*انتزاع الاعترافات
لا يتوقف انتهاك حقوق الأطفال الإجرائية هنا، إذ لم يكن المحامي موجوداً أثناء تدوين أقوال الأطفال، وهذه مخالفة.
بعد الاطلاع على الدعوى تبين لإبراهيم بأنّ محاضر التحقيق مصدّقة باعتراف من الأطفال؛ غير أن إفادة الأطفال فيها تناقض، وتدل على أنّها انتُزِعت تحت التعذيب والإجبار.
“واحد منهم يذكر بأنّه كان في الحمامات وسمع صوت جداحة نارية.. الآخر يقول إنّ الحريق تم عبر ورقة وتم رميها”، لكن المحامي إبراهيم لفت إلى أن “الواقع يشير إلى أن هناك عمودا كهربائيا مجاورا للمستشفى وكان فيه يجدح على السطح وهناك موظف عرفنا اسمه وهو شاهد على هذه الحادثة”.
التعذيب هو ما أجبر الأطفال على الاعتراف، يقول محامي الطفل مصطفى “تحدّثت مع الأطفال وأخبروني أنهم تعرضوا للتعذيب والضرب، وحتى أنّهم تُركوا في باحة خارجية فوق مبنى مكتب مكافحة الإرهاب، في ذروة البرد، وبساعات متأخرة من الليل”، بحسب شهادة الأطفال المعتقلين، فإنّ منتسبي جهاز مكافحة الإرهاب كانوا يرشونهم بالماء البارد، بعد أن يجبروهم على خلع ملابسهم طوال الليل.
اعترف الأطفال في ما بعد للمحامي ضرغام إبراهيم أنّ الأشخاص المسؤولين عن التحقيق معهم لقّنوهم ماذا يقولون، وإن هم لم يقولوا ما لُقّنوا سيُعذبون مرة أخرى، لذلك كانوا يقولون ما يخبرهم به رجال الأمن.
“قبل دخول مصطفى إلى القاضي كان أنفه مكسوراً من الضرب والتعذيب، وأخبره الضابط إذا لم تخبره كما أخبرناك سنعذبك”، يؤكد محامي الدفاع، ويضيف “دخلت إلى القاضي وأخبرني بأنّه أرسل إلى ضابط التحقيق وجعله يقسم أنّ اعتراف المتهمين صحيح، وأقسم الضابط على ذلك”.
المحامي ضرغام إبراهيم، أخبر القاضي بأنّ أنف موكله مصطفى قد كُسِر خلال التحقيق معه، فكان ردّ القاضي “لماذا لم يخبرني بذلك؟”، فشرح المحامي أن الطفل كان خائفاً من التهديد الذي أسمعه إياه الضباط قبل دخوله إلى القاضي.
*سنعتقل أمك بدلاً عنك
والدة مصطفى محمد، وهي مدرّسة، روت كيف أنّها شاهدت الضبّاط يهمسون في أُذنه قبل الدخول إلى القاضي بأن يعترف، ولاحقاً أخبرها أنّهم هددوه بأنه “إذا لم تعترف نعتقل أُمّك بدلاً عنك”، لذلك قال لهم سأعترف.
“أخبرني مصطفى بأنّه تعرّض للتعليق من الليل إلى الساعة 11 صباحاً، وكذلك تعرّض للضرب والشتم”. مصطفى خائف وينادي على الضباط والمحققين “عمّو”، تقول أمّه، “إنّه صغير وبريء ولم يفعل ما يريدون أن يعترف به”.
“ماما أريد أنام بحضنج.. فقدتُ أعصابي ولم أتمالك نفسي وأُغمي عليَّ”، لا يُفارق مسامع أم مصطفى ما كان يردده طفلها مراراً، “ماما آني بريء والله بريء وما مسوي شي، يا حاكم احكم بالعدل يا حاكم احكم بالعدل”. كل هذا يجعلها موقنة بأن ابنها بريء.
يتنامى انطباع بعدم نزاهة التحقيق والدعوى ضد الأطفال، نظراً لكون أشرطة الفيديو التي أُرفقت مع الدعوى لا تظهر ضلوع الأطفال في الحريق، وإنما تظهرهم يتمازحون مع بعضهم داخل ممر إحدى الردهات ومن ثم يغادرون.
كما يسهم في تبرئة الأطفال من التهم الموجهة إليهم عدم وجود شهود عيان من شأنهم أن يشهدوا أنهم فعلاً أضرموا النار في النفايات، كما تدعي السلطات في الدعوى المقدمة ضدهم؛ بل على العكس من ذلك، هنالك تسجيل مصور يُظهر نشوب النار في النفايات بوجود عدد كبير من المراجعين خارج بناية المستشفى، وهي النقطة التي بدأت منها الفاجعة، ووثقها تقرير الأدلّة الجنائية.
من جهتها، تقول والدة الطفل علي لطيف، أحد الأطفال المتهمين بإحراق المستشفى، "لديّ ابن عمره سنة و3 أشهر، أُجريت له عملية فتق في مستشفى النسائية والأطفال (في الديوانية). بعد عودة ابني علي (١٢ عاماً)، “المتهم”، من مدرسته في الساعة الواحدة ظهراً إلى المنزل، أخبرته شقيقته بأنني في المستشفى لإجراء عملية لشقيقه الأصغر.
بعدما سمع ذلك، جاء إلى المستشفى، هو وصديقه علي حسنين “المتهم أيضاً”. في الطريق قابل والده وهو يخرج من المستشفى، وطلب منه أن يعود إلى البيت، لكنّه أصرّ على دخول المستشفى والبقاء معي. عندما دخل إلى الغرفة كانت برفقتي أختي وابني الكبير، قلتُ له، “علي ليش أجيت؟ فقال: ماما اريد أبقى معك”. الردهة كانت فارغة في ذلك الوقت.
أثناء وجوده في المستشفى تلقّى علي (حسنين) رسائل من أصدقائه، مصطفى محمد وعلي ماجد، وهما “متهمان” أيضاً، يسألان عن مكانه، فأخبرهم أنّه في المستشفى معي. أخبره مصطفى وعلي أنهما سيأتيان ليقفا معنا من باب تأدية الواجب، وعندما وصلا إلى المستشفى، أخبرتهم أن لا داعي لمجيئهم، لكنّهم أخبروني بأنّ هذا واجب الأصدقاء.
جلسا معنا في الغرفة، ثمّ أخبراني بأنّهما ذاهبان ليأتيا بعشاء من أحد المطاعم القريبة، قلتُ لهما لا حاجة لذلك، وقال لهما ابني علي لا داعي لذلك؛ لكنّهما أصرّا وخرجا من المستشفى، ثم رافقهما ابني علي وصديقه علي لطيف إلى باب المستشفى.
بعد نصف ساعة على خروج مصطفى وعلي من المستشفى لشراء العشاء، نشب الحريق. “أخبرني ابني علي بالحرف الواحد: ماما صار حريق بالمستشفى شفت دخان والناس تصرخ”.
قبل الحريق كانت هناك صيانة فوق الردهة التي كنّا راقدين فيها. وكانت أختي قد أخبرت الممرضة قبل الحريق عن الضجيج، وقالت لها، “الردهة راح تسقط علينا”، فقالت الممرضة، “لا هاي صيانة فوك السقف لذلك كان يهتز”.
عندما اندلع الحريق هربنا خارج المستشفى، أنا وشقيقتي وابني الأكبر، وابني علي لطيف “المتهم” وصديقه علي ماجد “المتهم”، كانوا يحملون طفلي الصغير والعلاج معهم.
جلسنا في الشارع، وجاء المحافظ إلى المستشفى، وسألتنا حماية المحافظ عن سبب بقائنا في الشارع، فقلت لهم ابني الرضيع لم يفق من بنج العملية، لكنّ فريق الحماية أبلغنا بضرورة الذهاب إلى البيت.
أثناء الحديث مع حماية المحافظ، جاء مصطفى محمد وعلي ماجد، وهم يركضون ويصرخون، “ها خالة صار بيج شي؟” أخبرتهم، “لا ما بيه شي”، وكانوا يحملون معهم العشاء، بعد ذلك صعدنا في سيارة أجرة، وذهبنا إلى البيت، برفقة ابني علي لطيف وزميله علي حسنين، أمّا علي ماجد ومصطفى محمد، فقد تبعونا إلى البيت وهم يحملون العشاء، الذي كان “بطل بيبسي، وصمون، وكباب”.
الحريق حصل في ردهة الخدّج، والمستشفى كان مغلّفاً بالسقوف الثانوية سريعة الاشتعال، وعلي لطيف، ابني، وصديقه لم يتواجدا في ردهة الخدّج عندما وقع الحريق، واعتقالهم شكّل لنا صدمة.
*الدليل الأهم
عندما قدّم فريق الدفاع عن “الأطفال المتهمين” طلباً للقاضي بتفريغ محتوى كاميرات صالة استعلامات في المستشفى رفض القاضي الطلب، فيما يصرّ المحامي ضرغام إبراهيم أنّ هذه الكاميرات فيما لو جرى الكشف عن محتواها ستثبت أن الأطفال خرجوا من المستشفى قبل نصف ساعة من الحريق، “إنّها الدليل الأهم لإثبات براءتهم، لكننا لا نعلم أيّ شيء بخصوص هذه الكاميرات حتّى الآن”.
في التقرير الذي قدّمه الباحث الاجتماعي للمحكمة حول شخصية الطفل مصطفى محمد، يذكر الباحث أن الحدث “ذو شخصية طبيعية، وذو سلوك حسن”، ويؤكد شهادة الأطفال حول مغادرتهم المستشفى قبل وقوع الحريق من أجل شراء العشاء.
وفي الخلاصة النهائية للتقرير، يذكر الباحث الاجتماعي أن “الحدث ليس له يد في حرق المستشفى”، وفي توصيته المرفوعة للمحكمة، يطلب الباحث “الإفراج عن الحدث”.
ويعزز التقرير ذلك ببيان حالة الطفل مصطفى مع عائلته، “الوضع الاجتماعي للأسرة جيد، فالحدث يعيش مع والديه، وليست لديهم أيّ مشاكل تذكر”.
*السبب الأساس وراء الحريق
خلال سرده لتفاصيل القصة، ذكر محامي الدفاع، ضرغام إبراهيم بعض المعلومات التي تلقاها من جهات تفيد بوجود خلاف بين مجموعة من المقاولين، على مناقصة تتعلق بترميم المستشفى، ويضع إبراهيم احتمالاً أن يكون هذا الخلاف وراء نشوب الحريق.
هذه المعلومة أثارها أيضاً ناظم الشبلي، عضو مجلس النواب عن محافظة الديوانية، عندما قال إنّ “الحكومة المحلية تعاقدت مع شركة غير مختصة وغير مؤهلة، بكلفة بلغت أكثر من ثلاثة مليارات دينار، ودون معرفة المؤهلات التي تمت إحالة المشروع إليها، من دون وجود أو توفير مستلزمات السلامة المهنية، مع وجود تراكم النفايات، الذي تسبب بحرق المستشفى، فضلاً عن عدم وجود منظومة الإطفاء في وقت الحريق”.
وأضاف الشبلي، أنّ “التحدي قبل ترميم البناية كان توفير موقع بديل للمستشفى وإخلاءه قبل البدء بالترميم، فعليه من الضروري محاسبة المقصرين الذين كانوا وراء وفاة خمسة أطفال، وإصابة العشرات في الحادث”.