بيعة الغدير عن أهل السُنة والجماعة.. تأييد واسع على رواية غدير خم وعدم اتفاق على الدلالة
انفوبلس/ تقرير
يحتفل الشيعة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة من كل عام بعيد الغدير. يُعدّ هذا العيد أهم الأعياد عند الشيعة الإمامية لكونه يوافق الذكرى السنوية لـ"تنصيب" الإمام الأول علي بن أبي طالب (ع) على يد النبي محمد (ص) في غدير خم، حسب الرواية الشيعية.
نلقي الضوء في هذا التقرير على بيعة الغدير عن أهل السُنة والجماعة والاتفاق الواسع على رواية غدير خم وعدم الاتفاق على الدلالة.
ماذا حدث في غدير خم؟
في الـ 18 من ذي الحجة في العام العاشر من الهجرة، وأثناء رجوع المسلمين من رحلة الحج في طريقهم إلى المدينة، أمر الرسول محمد (ص) بالتوقف في مكان يُعرف بغدير خم، حيث قام بإلقاء بعض الوصايا المهمة على المسلمين، ثم أعقب ذلك بتبيان فضل علي بن أبي طالب (ع) على وجه الخصوص، حيث كان مما قاله في حقه، بعد أن أمسك يده ورفعها عالياً ليشاهدها الآلاف من المسلمين الحاضرين "من كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه".
وقد وردت تلك الرواية بصيغ كثيرة وباختلافات متعددة في الكثير من المصادر التاريخية الإسلامية، حيث شاعت في جميع الكتب الشيعية، كما أوردتها عدد من المصادر السُنية المعتبرة.
وقد اختلف كلٌّ من الشيعة والسُنة بشكل واسع في تفسير وتأويل دلالات تلك الحادثة المهمة، فبالنسبة للجانب الشيعي، أصبحت واقعة غدير خم حادثاً مفصلياً في بناء المذهب الشيعي برمته، ذلك أن علماء الإمامية اعتبروا أن تلك الحادثة قد شهدت وصاية صريحة من الرسول (ع) باستخلاف علي بن أبي طالب ليصير خليفةً للمسلمين من بعده، وأنّ تلك الوصاية تمنع أن يتولى أي من الصحابة هذا المنصب، لأنه أمرٌ إلهي لا يجوز للبشر الاختيار فيه أو مخالفته.
أما بالنسبة للسُنة، فقد نظر علماؤها لما وقع في غدير خم على كونه أمر نبوي بضرورة إظهار الحب والمودة والولاء لعلي بن أبي طالب (ع)، وأنه لا يوجد في الحديث ما يدل صراحةً على النص باستخلافه أو ولايته لأمر المسلمين.
*الرأي السُني في حادثة غدير خم
وردت حادثة الغدير في العديد من المصادر السُنية. على سبيل المثال نقل ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه "البداية والنهاية" تفاصيل تلك الحادثة عن الصحابي بريدة بن الحصيب الأسلمي. يقول بريدة: "غزوتُ مع عليٍّ اليمنَ فرأيتُ منه جَفوةً فلما قدمتُ على رسولِ اللهِ ذكرتُ عليًّا فتنقَّصتُه فرأيتُ وجهَ رسولِ اللهِ يتغيَّرُ فقال يا بُريدةُ ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفُسِهم قلتُ بلى يا رسولَ اللهِ قال من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه".
تظهر الواقعة في الرواية السابقة على كونها موقفًا شخصيًا ليس أكثر. كان حديث الرسول موجهًا لبريدة على وجه التحديد، وكان سببه تنقص بريدة من علي.
تختلف تلك السردية مع السرديات الأخرى التي وردت في بعض الكتب السُنية التي تؤكد أن خطاب النبي (ص) كان موجهًا لعموم المسلمين. زادت بعض المصادر أيضًا في العبارات التي مُدح بها علي (ع) على لسان النبي (ص). جاء في بعض المصادر أن النبي قال لابن عمه: "من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله، وأحبَّ من أحبَّه وأبغض من أبغضه".
رفض أهل السُنة والجماعة جميع التأويلات الشيعية التي عملت على تفسير الحادثة بوصفها دليلًا على إمامة علي (ع) وخلافته للنبي (ع). أكد أهل السُنة أن الروايات الواردة بخصوص غدير خم إنما بينّت وجوب حب علي ومودته ليس إلا. أفرد العلماء السنيون مساحات واسعة في مصنفاتهم للرد على الآراء الشيعية التي ترى أن حديث غدير خم يدل على خلافته للرسول. على سبيل المثال ذكر العالم الأشعري أبو بكر الباقلاني المتوفى 403هـ في كتابه تمهيد الأوائل: "لا يجب ما قلتم لأن ما أثبته لنفسه من كونه أولى بهم ليس هو من معنى ما أوجبه لعلي بسبيل لأنه قال من كنتُ مولاه فعلي مولاه فأوجب الموالاة لنفسه ولعلي وأوجب لنفسه كونه أولى بهم منهم بأنفسهم وليس معنى أولى من معنى مولى في شيء لأن قوله مولى يحتمل في اللغة وجوهاً ليس فيها معنى أولى فلا يجب إذا عقب كلام بكلام ليس من معناه أن يكون معناهما واحدًا".
شكك ابن حزم القرطبي المتوفى 456هـ في روايات الغدير. قال في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل": "...وأما من كنتُ مولاه فعلي مولاه، فلا يصح من طريق الثّقَات أصلًا. وأما سائر الأحاديث التي تتعلّق بها الرافضة -يقصد الشيعة- فموضوعة يعرف ذلك مَن له أدنى علم بالأخبار ونقلتها".
رفض أهل السُنة والجماعة جميع التأويلات الشيعية التي فسّرت الحادثة بوصفها دليلًا على إمامة علي وخلافته للنبي.
سار ابن تيمية المتوفى 728هـ على الدرب ذاته. انتقد روايات الغدير في كتابه "منهاج السُنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية"، وقال: "إن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات. وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث، والمرجع إليهم في ذلك. ولذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث"، وقوله في موضع آخر من كتابه "إن هذا اللفظ، وهو قوله: ‘اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله’ كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث".
من جهة أخرى، أكد أهل السُنة أن يوم الغدير يوم عادي. ورفضوا الإقرار بكونه يوم عيد. تحدث بعض المؤرخين السُنة أن الاحتفال الأول بعيد الغدير وقع في القرن الرابع الهجري زمن الدولة البويهية التي تبّنت المذهب الشيعي، وأطلقت يد الشيعة في ممارسة شعائرهم وطقوسهم. يعني هذا أن الاحتفال بعيد الغدير، حسب رأيه، مجرد بدعة مستحدثة فرضتها الظروف السياسية. يذكر تقي الدين المقريزي المتوفى 845هـ في كتابه "الخطط المقريزية": "عيد الغدير لم يكن عيدًا مشروعًا ولا عمله أحد من سالف الأمة المُقتدى بهم، وأول ما عُرف في الاسلام بالعراق أيام معز الدولة علي بن بويه فإنه أحدثه سنة 352هـ فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدًا". أيّد ابن العماد الحنبلي المتوفى 1089هـ هذا الطرح في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب". يقول ابن العماد في أحداث سنة 352هـ "وفيها في ثامن عشر ذي الحجة عملت الرافضة عيد الغدير خم ودقّت الكوسات وصلوا بالصحراء صلاة العيد".
الشيعة وحادثة غدير خم
أما عند الشيعة فإن ما وقع في غدير خم أمر إلهي صريح بإمامة علي بن أبي طالب وخلافته للنبي. وردت حادثة الغدير في العشرات من المصادر الشيعية، وقيل إن الآية السابعة والستين من سورة المائدة "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" نزلت بخصوص النص على إمامة علي.
يُعدّ هذا العيد أهم الأعياد عند الشيعة الإمامية لكونه يوافق الذكرى السنوية لـ"تنصيب" الإمام الأول علي بن أبي طالب على يد النبي في غدير خم.
ورد النص على أهمية يوم الغدير وأنه يوم عيد في الكثير من الروايات الشيعية. على سبيل المثال نقل محمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ في كتابه بحار الأنوار عن النبي قوله: "يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره بنصب أخي علي بن أبي طالب علمًا لاُمّتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتمّ على اُمّتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام دينًا".
في السياق نفسه، نقل محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329هـ في كتابه "الكافي" أن الإمام جعفر الصادق (ع) لمّا سُئل "هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟"، فإنه أجاب "نعم أعظمها حرمة... اليوم الذي نصّب فيه رسول الله أمير المؤمنين عليه السلام وقال: من كنتُ مولاه فعلي مولاه... يوم ثمانية عشر من ذي الحجة".
يظهر يوم الغدير في المُتخيّل الشيعي الجمعي باعتباره يوم الله الأكبر وأنه اليوم الذي تم فيه النص على ولاية الأئمة الذين نصّبهم الله "كحُجج له على خلقه". تتحدث الروايات الشيعية أن الشيطان ذاق مرارة الهزيمة في هذا اليوم. جاء في إحدى الروايات: "إِنَّ إِبْلِيسَ عَدُوُّ اللَّهِ رَنَّ أَرْبَعَ رَنَّاتٍ: يَوْمَ لُعِنَ، وَيَوْمَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ، وَيَوْمَ الْغَدِيرِ". يوضح جعفر الصادق ذلك الأمر بقوله: "لمّا أخذ رسول الله بيد علي يوم الغدير صرخ إبليس في جنوده صرخة فلم يبقَ منهم أحد في بر ولا بحر إلا أتاه فقالوا: يا سيدهم ومولاهم ماذا دهاك فما سمعنا لك صرخة أوحش من صرختك هذه؟ فقال لهم: فعل هذا النبي فعلًا إن تم لم يُعصَ اللهُ أبدًا".
يظهر يوم الغدير في المُتخيل الشيعي الجمعي باعتباره يوم الله الأكبر وأنه اليوم الذي تم فيه النص على ولاية الأئمة.
يمارس الشيعة مجموعة من الطقوس المخصوصة في عيد الغدير من كل عام. جاء عن الصادق أنه أخبر أصحابه بالعبادات التي يجب القيام بها يوم عيد الغدير، فقال لهم: "تذكرون الله عزّ ذكره فيه بالصيام والعبادة والذكر لمحمد وآل محمد، فإن رسول الله أوصى أمير المؤمنين أن يُتخذ ذلك اليوم عيدًا، وكذلك كانت الأنبياء تفعل، كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتخذونه عيدًا". كذلك ورد عن الإمام علي الرضا أنه أوصى أحد أصحابه بزيارة مرقد علي بن أبي طالب (ع) في الكوفة في هذا العيد، فكان مما قاله له: "...أينما كنتَ فاحضِر يوم الغدير عند أمير المؤمنين فإن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة ذنوبَ ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتقَ في شهر رمضان وليلة القدر، وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، وأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة".
أيضًا، اعتاد الشيعة على ترديد الكثير من الأدعية المخصوصة في ذلك العيد. من تلك الأدعية ما روي عن الصادق: "اَللّهُمَّ قَدْ قَبِلْنَا أمْرَكَ وَنَهْيَكَ، وَأطَعْنَا لِنَبِيِّكَ وَسَلَّمْنا وَرَضِينَا، فَنَحْنُ مَوالي عَلِيٍّ وَأوْلِياؤُهُ كَما أمَرْتَ، نُواليهِ وَنُعادي مَنْ يُعاديهِ، وَنَبْرَأُ مِمَّنْ تَبْرَأُ مِنْهُ، وَنُبْغِضُ مَنْ أبْغَضْتَهُ، وَنُحِبُّ مَنْ أحَبَّهُ، وَعَلِيٌّ مَوْلانا كَما قُلْتَ، وَاِمَامُنَا بَعْدَ نَبِيِّنَا كَما اَمَرْتَ…".