ذكرى استشهاد عماد مغنية.. بطل شيعي قهر أمريكا و"إسرائيل": هذه أسرار حياته "المثيرة"
انفوبلس/ تقرير
في 12 شباط (فبراير) تمرّ ذكرى السنوية لاستشهاد القيادي اللبناني الشيعي الحاج عماد فايز مغنية (1962ـــ 2008) والذي اُغتيل خلال وجوده في سوريا، حيث قاد العديد من العمليات الميدانية للمقاومة الإسلامية، وقد لُقِّب بـ"الشبح" و"الثعلب" و"عزرائيل الصهاينة" وهو ما سنتعرّف عليه في هذا التقرير.
*نبذة عن عماد مغنية
الشهيد الحاج عماد فايز مغنية (الحاج رضوان) هو من أهم القادة العسكريين في المقاومة الإسلامية اللبنانية، حزب الله، وُلِد في طيردبا الجنوبية عام 1962، عاش في كنف عائلة متديّنة متواضعة مُحبّة للعلم والجهاد، سافر إلى قم فتلقى العلوم الدينية والحوزوية، انتقل للعيش في الضاحية الجنوبية بعد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وتعرّف عن كثب على المقاومة الفلسطينية، وانخرط في إحدى وحدات النخبة لدى حركة فتح رغم صغر سنّه فتلقى واكتسب المهارات القتالية إلى أن أصبح قيادياً في صفوفها.
ورغم مسؤولياته في حركة فتح، ورغم جولات الحرب تَشَبَّث الحاج عماد بالتزامه الديني، وكان من المقربين من العلامة السيد محمَّد حسين فضل الله حيث عمل على رأس أمن السيد بعد محاولة اغتياله عام 1980. إلى أن اجتاح جيش الاحتلال لبنان عام 1982، فانتقل إلى الصفوف الأمامية، وبقي في بيروت طيلة فترة حصارها.
عام 2006 قاد الحاج عماد مغنية العمليات الميدانية للمقاومة وكان له الدور الأبرز في عملية أسر الجنديين الإسرائيليين على الحدود والتي تبعها انتصار آخر بعد 33 يوماً.
اغتال الموساد الإسرائيلي الحاج عماد مغنية بعد أكثر من 25 عاماً من الملاحقة الاستخباراتية الأميركية – الإسرائيلية والغربية للوصول إليه، حيث استُشهد عام 2008 في سيارة مفخخة في دمشق وبعد عدة محاولات فاشلة لاغتياله أودت بحياة أخويه جهاد وفؤاد.
لقّبه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله "قائد الانتصارين"، وقال يوم تأبينه: "حقّ الحاج عماد مغنية الشهيد على هذه الأمة أن تعرفه من أجلها لا من أجله، وحقّه على الأمة أن تنصفه من أجلها لا من أجله، وحقّه على الأمة أن تستلهم روحه ودرسه وجهاده من أجلها لا من أجله". وتوجّه "لإسرائيل" بالقول: " في أي حرب مُقبلة لن ينتظركم عماد مغنية واحد، ولا عدّة آلاف من المقاتلين، لقد ترك لكم عماد مغنية خلفه عشرات الآلاف من المقاتلين المدرَّبين المجهَّزين الحاضرين للشهادة".
*أسرار اغتياله
على الرغم من مرور 15 عامًا على اغتيال عماد مغنية في العاصمة السوريّة دمشق، لم تُعلِن "إسرائيل" حتى اللحظة بشكلٍ رسميٍّ عن قيامها بتنفيذ العملية، ولكنّ الكتاب الذي أصدره الإعلاميّ يوسي ميلمان، الخبير في الشؤون العسكريّة والاستخباراتيّة يكشِف النقاب عن عدّة أمورٍ لم تكُن معروفةً حتى اللحظة، ومنها أنّ مخابرات العديد من الدول، بما فيها العربيّة، شاركت في التخطيط وجمع المعلومات لإخراج عملية التصفية إلى حيّز التنفيذ.
كما أنّ الكتاب يكشِف عمق العلاقة بين الاحتلال الاسرائيلي والولايات المُتحدّة الأمريكيّة في مجال تبادل المعلومات الاستخباريّة، والتنسيق بينهما في كيفية وآلية تنفيذ عمليات الاغتيال في الشرق الأوسط، ويُشدّد على أنّ الكلمة الأولى والأخيرة هي لواشنطن. وقد نشر ميلمان، الذي يعمل محللاً للشؤون العسكريّة في صحيفة (هآرتس) العبريّة فصلاً من كتابه في الصحيفة، الذي اعتمد على محافل أمنيّةٍ واسعة الاطلاع في تل أبيب، وأكّد فيه أنّ عماد مغنية، كان الهدف الأهّم للتصفية، حتى أكثر من الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، لأنّه كان المسؤول عن العمليات الفدائيّة التي أحرجت وأربكت "إسرائيل"، لافتًا إلى أنّ الرجل كان حذرًا للغاية، ويشك كثيرًا، وفوق كلّ ذلك، كان يملك المقدرة على الهروب والاختفاء من أجهزة المخابرات التي كانت تُلاحقه.
ميلمان لا يكشِف بصورةٍ مُباشرةٍ النقاب عن أنّ "إسرائيل" هي التي كانت تقِف وراء عملية الاغتيال في الـ 12 من شهر شباط (فبراير) من العام 2008، وأنّها هي التي أخرجت عملية التصفية إلى حيّز التنفيذ، إلّا إنّ الاطلاع على الكتاب لا يترك مجالاً للشكّ، إذْ يؤكِّد المؤلِّف أنّ الأمر بتصفية مغنية صدر مُباشرةً من رئيس الموساد وقتذاك، مائير داغان، بعد أنْ حصل رئيس الوزراء آنذاك، إيهود أولمرت، على الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكيّ، جورج بوش الابن، ومن رئيس وكالة المُخابرات المركزيّة (CIA)، مُشيرًا إلى أنّ دور المخابرات الأمريكيّة في العملية كان هامشيًا، وبعد نجاح العملية، أضاف ميلمان، اتصلّ رئيس الموساد برئيس الوزراء أولمرت، الذي كان بالطائرة متوجهًا إلى واشنطن وأبلغه أنّ (العربيّ مات). يُشار إلى أنّ العنصريين في الكيان الإسرائيلي ومنذ عقودٍ من الزمن يستخدِمون مصطلح "العربيّ الجيّد هو العربيّ الميّت".
علاوة على ما جاء أعلاه، شدّدّ الكتاب على أنّ اثنين من رؤساء الحكومة في "إسرائيل"، أريل شارون وأولمرت، منحا رئيسيْ الموساد، إفراييم هليفي ومائير دغان التصريح بتنفيذ عملية تصفية مغنيّة، كاشِفًا عن أنّ المُخطط الإسرائيليّ الأوّلي، والذي على ما يبدو لم ينجح، كان اغتيال مغنيّة في حرب لبنان الثانية عام 2006 بواسطة صاروخٍ مُضادٍّ للطائرات يُطلَق عليه من طائرةٍ.
ونقلاً عن كبار الضباط بالمؤسسة الأمنيّة في تل أبيب أكّد ميلمان في كتابه أنّ مغنية كان يملك قدراتٍ خارقةٍ في التخطيط وتنفيذ العمليات ضدّ أهدافٍ إسرائيليّةٍ ويهوديّةٍ، وكان المسؤول من قبل حزب الله عن الاتصالات مع إيران وسوريا، وعمليًا هو الذي أقام الجيش في حزب الله، ولذا فإنّ اغتياله من قبل "إسرائيل"، شدّد المؤلّف، اعتُبر إستراتيجيًا لأنّه من الصعب على الحزب إيجاد البديل له، علمًا أنّه كان يملك جميع أسرار الحزب ونصر الله.
الكاتب الإسرائيليّ كشف النقاب أيضًا عن أنّ أجهزة المخابرات التي كانت تُلاحِق مغنية وجدت صعوبةً بالغةً في تعقُّبه، إذْ إنّها كانت تملك صورةً واحدةً له وهو في الـ 22 من عمره وهو في مقطورة طائر TWA في بيروت، ولكن فيما بعد، أشار ميلمان إلى أنّ عميلاً للموساد زوّد مُشغلّيه بصورةٍ لمغنية، مؤكّدًا أنّ وكالة المخابرات المركزيّة (CIA) فشلت عدّة مرّاتٍ في محاولاتها تعقبّه.
ووفقًا للكتاب، في العام 2007 باتت زيارات مغنية لدمشق أكثر، وتمّ جمع المعلومات عنه، وقام رئيس الموساد داغان بزيارةٍ خاطفةٍ إلى واشنطن، حيثُ اجتمع هناك مع نظيره الأمريكيّ، مايكل هايدن، حيثُ تمّ الاتفاق بينهما على تنفيذٍ مُشتركٍ لعملية الاغتيال، وبعد ذلك، أوضح المؤلّف، قام رئيس الوزراء أولمرت بزيارةٍ لواشنطن حيث اجتمع مع الرئيس بوش، الذي أصدر أوامره لرئيس الـ CIA بمواصلة الاستعداد لتنفيذ عملية اغتيال مغنية.
وطبقًا لما جاء في الكتاب فقد قامت المخابرات الأمريكيّة بتهريب القنبلة التي أعدّتها "إسرائيل" لاغتيال مغنية إلى دمشق عن طريق الأردن، عبر سفارة واشطن بالعاصمة السوريّة، وهناك تمّ تسليمها لعملاء الموساد، وفي الـ 12 من شهر شباط (فبراير) من العام 2008، وصل مغنية إلى البيت الذي كان يستأجره بدمشق، حيثُ قام عملاء الموساد بتفجير القنبلة التي أدّت إلى مصرعه على الفور، وفق المصادر التي اعتمد عليها الخبير الأمنيّ الإسرائيليّ في كتابه.
*أسرار عن حياته
اهتمام مغنيّة ببقائه مجهولاً لم يكن حصراً لأسباب أمنيّة، فهو كما يروي عارفوه لم يتحدّث عن إنجازاته الأمنيّة والعسكريّة حتى للأقربين منه، إنّها إحدى سماته الشخصيّة، حيث كَرِه الظهور والأضواء. يعود الزمن بنا إلى مبنى قديم في شارع "العريس" في الشيّاح، حيث تبلور الالتزام الديني لمغنيّة في الطبقة الأولى من ذلك المبنى. لمّا كان بعمر تسع سنوات فقط، عرّفته أمّه الحاجّة آمنة على بعض الجوانب الدينيّة الإسلاميّة، علماً أنّ في ذلك الزمن كان الملتزمون دينيّاً يشعرون بالغربة، ويُشار إليهم بأصابع اليد في بيئة تزخر بالأحزاب والحركات العلمانيّة والأيديولوجيّات اليساريّة. كان ذلك في سبعينيات القرن الفائت، حين كان منزل "أم عماد" أشبه بحوزة تجتمع فيه النسوة لتلقّي الدروس الدينيّة، وكان الطفل عماد يستمع إلى تلك الدروس التي انغرست فيما بعد في وجدانه، وانعكست على تصرفاته منذ الصغر، لكنه لم يكتفِ بما سمعه في منزله فحسب، بل كان متعطّشاً للمزيد، ما دفعه وبعض أقرانه للذهاب إلى شيخ في الشياح لتعلّم دروس دينيّة خاصّة.
مرحلة الطفولة التي عاشها الفتى لم تَدُر أحداثها في بيئة ميسورة، ولا في ملاعب كرة القدم والمساحات الخضراء الواسعة، وإنما في دائرة الفقر المُدقَع في الشياح، هناك حيث تعرّف على قضيّة فلسطين، معايشاً معاناة اللاجئين الذين هجّرهم العدو من أرضهم. في صغره، انجذب الفتى للبزّات العسكريّة والبنادق التي حملها الفدائيون الفلسطينيّون، فأراد أن يكون واحداً منهم، وأن يُقدّم شيئاً من أجل هذه القضية، ولذلك جالَ على مكاتب التنظيمات القائمة في الشياح، فتعرّف على برامجها السياسيّة وأفكارها وتوجهاتها، قدر مستطاع فتى صغير السن، وبسبب التزامه الديني، لم ينجذب إلى أغلبها، رغم اقترابه من بعضها ومشاركته في عمل تنظيمي لفترات وجيزة في واحد منها على الأقل.
في إحدى جولاته على شارع أسعد الأسعد، استوقفته لافتات كُتبت عليها أحاديث للإمام علي بن أبي طالب (ع)، كان "الحزب الديموقراطي الاشتراكي" قد رفعها أمام مكتبه. يومها دخل الفتى إلى المكتب فقرأ عبارة: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته". قرأ حديثاً آخر للصحابي أبي ذر الغفاري: "عجبتُ لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه". صحيح أن تلك الأحاديث جذبته، لكن الحزب، ورغم اسمه اليساري، إلا إنّه حزب إقطاعيّ لرئيس مجلس النواب آنذاك، كامل الأسعد، خرج مغنيّة من المكتب، حازماً أمره في استبعاد هذا التنظيم.
*مغنية في "فتح"
لمّا كان عمره 12 عاماً، انضم مغنيّة إلى حركة "فتح" الفلسطينيّة، والسبب كما قال لاحقاً هو "للعمل من أجل فلسطين" واختياره للحركة لم يكن عن عبث وكانت «فتح» تميّزت بعدم اتباعها فكراً أيديولوجيّاً تسعى لفرضه على عناصرها، بحيث أنّ الشيء الوحيد الذي كان مطلوباً منهم هو قتال "إسرائيل"، وهذا ما أراده مغنيّة تحديداً. صحيح، قد يستغرب البعض أن يتحلّى ابن 12 عاماً بوعي سياسي، ومن باب تبديد الدهشة، لا بأس من التذكير بأنّ مغنيّة لمّا كان في عمر العشرين فقط خطّط لعملية تفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور (11/11/1982)، والتي نفّذها "فاتح عهد الاستشهاديين" الشهيد أحمد قصير، وهي أقسى ضربة ــ لجهة عدد الجنود القتلى والجرحى ــ تلقاها جيش العدو أثناء احتلاله للأراضي اللبنانية. فرضت البيئة التي نشأ فيها مغنيّة وأترابه على هؤلاء الفتية أن يصبحوا رجالاً في عمر مُبكر.
*عماد وسلامة
إثر انضمامه إلى "فتح" وتردّده على مكاتبها، تعرّف مغنيّة على الشهيد علي ديب (خضر سلامة، اسمه العسكري في "فتح" حينذاك، هو لبناني أيضاً ويكبر عماد بعامين). أحبّ سلامة مغنيّة، فتقرب منّه، ومع مرور الوقت أصبحا لا يفترقان.
قضى عماد أوقاته متنقّلاً بين المكتب الرئيسي للحركة في الشياح، ومحور مار مخايل، حيث تعرّف على الفصائل الفلسطينيّة واللبنانية المتحالفة معها، وعاين مشاكلها واختلافاتها. خلال تلك الفترة اطّلع على التناقضات العقائديّة والسياسيّة بين تلك الحركات، معايشاً خلافاتها مع حركة "أمل"، والتي تُرجمت في كثير من الأحيان اشتباكات مسلحة. بُعيد اختطاف الإمام موسى الصدر على يد النظام الليبي في عام 1978، اندلعت الاشتباكات في الشياح بين "أفواج المقاومة اللبنانية" (أمل) و"الحركة الوطنية اللبنانية". ترك قسم كبير من اللبنانيين كبرى الفصائل الفلسطينيّة وانضموا إلى "أمل". أجبرت تلك الاشتباكات مغنيّة وسلامة ــ وكان صيتهما قد أصبح ذائعاً في المنطقة ــ على العمل لوقف نار الاشتباكات ولتحييد المدنيين عن صراعات مَن يفترض أنهم في خندق واحد ضد "اليمين الانعزالي" (بحسب مصطلحات تلك الحقبة). عملا كـ"إطفائيّة" لتلك الحرائق. نجح سلامة حينذاك، الذي كان مسؤولاً عن محور مار مخايل، في الاستفادة من علاقته الشخصيّة التي بناها مع بعض قيادات "أمل" لإنهاء الاقتتال.
ساعده مغنيّة في ذلك، فكان يقف على خطوط التّماس بين المتقاتلين ليأمرهم عبر مكبّر الصوت، ومستفيداً من مكانته في الشياح: "أنا عماد مغنيّة آمركم بوقف إطلاق النار". في إحدى المرّات أُصيب بشظيّة رصاصة في قدمه وهو يحاول وقف الاشتباكات. بعد نجاحهما في الحدّ من تلك المعارك في الشياح، لمع اسماهما في "فتح"، ما دفع قائد الثورة الفلسطينيّة ياسر عرفات إلى طلب مقابلة سلامة في "الفاكهاني" للتعرّف إليه، خاصة وأن القصص التي سمعها "الختيار" عن محبّة الفتحاويين واللبنانيين له سبقته إلى "عاصمة الثورة". كان عرفات يعتقد أنّه سيقابل رجلاً ثلاثينيّاً، لكن صُدِم عندما رأى شاباً يبلغ من العمر 18 عاماً يقف أمامه. أُعجب "أبو عمار" بشخصيّته، فعيّن سلامة مسؤولاً لفتح في الشياح، مع ترؤس سلامة مكتب "فتح" أصبح دور مغنيّة أبرز من ذي قبل، فسعى القياديان إلى لبنَنَة الحركة، وتحييد الشياح عن الصراعات التي تخوضها الفصائل الفلسطينيّة مع "أمل" في المناطق اللبنانيّة الأخرى، نسجا علاقات شخصية مع كلّ الأطراف الموجودة في المنطقة، معتمدين عليها لإنهاء أيّ إشكال.
في الشياح، استطاع مغنية إثبات نفسه، وفرض شخصيته على الفتحاويين الذين تصرّفوا معه على أنه نائب لسلامة، مع أنه لم يكن قد عُيّن في ذلك المنصب بعد، فكان يُصدر الأوامر التي تنفّذ من دون اعتراض أحد. لاحقاً، رسّخت "فتح" الواقع الذي فرضه مغنيّة وعينته نائباً لسلامة. وعمل الأخير على تثبيت مغنيّة في منصبه الجديد، فكان يتعمّد اصطحابه معه في لقاءاته مع قادة الحركة خارج الشياح. كذلك سعى سلامة إلى تعريف نائبه إلى قيادات الصف الأول في "فتح"، وحرص على أن يكون مغنيّة حاضراً معه في الاجتماعات التي عقدها مع عرفات، الذي لم يكن في حينه شخصيّة إشكاليّة كما هي الحال عند البعض في يومنا هذا. في هذه اللقاءات كان مغنيّة، برغم صغر سنه، المبادر إلى إدارة الحديث مع "أبو عمار". كان يتحدّث معه بالأسلوب نفسه الذي كان يتكلم فيه مع سلامة، أي لا يهابه، ولا يتملّقه، ولا يخفي عنه شيئاً، لكنه يحترمه ويعرف قَدْر الشخص الذي أمامه. في تلك الاجتماعات، أطلع مغنية "الختيار" على أخطاء بعض الفتحاويين في الشياح، وأبدى انتقاداً لتصرّفات بعض قياديّي الحركة الفاسدين، كما اعترض على توقف العمليّات العسكرية ضد العدو الإسرائيلي في بعض الأحيان. تكشّفت أمام "أبو عمار" ميّزات مغنيّة، إذ رأى سرعة البديهة والروح القيادية التي يتمتع بها، ما جعله يقرّبه إليه. لم تنحصر لقاءات مغنية ــ عرفات بهذه الاجتماعات فقط، إذ كانت تنقلات الأخير الدائمة وزياراته المتكرّرة للمحاور، سبباً ليلتقي بمغنيّة مرّات عدّة. هذه الخصوصيّة التي كبرت بين عماد و"أبو عمار" دفعت الأخير إلى الطلب من سلامة الحرص عليه: "انتبه عليه. بيطلع منّه".
أدرك الفتحاويون طبيعة هذه العلاقة جيّداً، ففي إحدّى المرّات، طلب أحد قياديي الحركة من سلامة السماح لمغنية مرافقته إلى منطقة البقاع. رُفض طلبه وقال له سلامة "الوالد (اللقب الذي كان يطلقه كل من سلامة ومغنية على عرفات) وصّاني فيه". أصبحت لسلامة ومغنيّة اليد المطلقة في محاسبة الفتحاويين غير المنضبطين في منطقتهما. كان التزام مغنيّة الديني هو المعيار للتقرب من الأفراد والميزان لمحاسبة المخالفين. شدّد على منع أخذ "الخوّات" وعاقب بشدّة كلّ من يأكل "حق الناس".
*بدايات العمل الأمني
شارك مغنية، وهو ابن 12 عاماً، في أوّل دورة عسكريّة له في معسكر لـ"فتح" في منطقة الدامور. تدرّب الفتى على تفكيك وتركيب العبوات ونصب الكمائن. بعد هذه الدورة، جذبه العمل الأمني، الذي سخّره للعمل العسكري، وذلك بسبب علاقته وقربه من مسؤول الأمن المركزي في لبنان، اللواء ماجد محمد توفيق النجمي (راجي النجمي). خضع لدورات أمنيّة مغلقة في "مدرسة الأمن" التابعة لـ"فتح" في منطقتي طريق المطار ثم في المركز الرئيسي في الفاكهاني. لفت عماد في تلك الدورات نظرَ مدربيه، إذ عُرف عنه حرصه على الاهتمام بدروس الدورة، وشرحها لزملائه. يذكر بعض رفاق مغنية في تلك الفترة أنه كان يمضي الليل في قراءة كتب عسكرية عن الجيوش العربية والعالمية ومشاهدة الأفلام المتعلقة بالأمن والعمل الاستخباراتي. هذه النزعة، نقلها عماد لاحقاً إلى حزب الله بعد انضمامه إليه، فروى عارفو الحاج أنه في بعض الجلسات كان يكتفي بعرض أفلام توثيقية عن عمل استخباري عوضاً عن إعطاء درس. حبّه لـ"العمل الأمني" فتح له أبواباً للعمل مع خليل الوزير (أبو جهاد) في أمن "القطاع الغربي"، المعني بتنفيذ العمليات في الداخل الفلسطيني، ومع هايل عبد الحميد (أبو الهول) في "الأمن المركزي"، ولاحقاً مع النجمي في "أمن الإقليم".
وبخلاف ما يُشاع عن أنه كان مكلّفاً بحماية عرفات في "أمن الـ17"، فإن عماد لم ينضم إلى هذه الوحدة، إنما كان مقرباً منها بسبب كثرة تردده إلى المقرّات الأمنية الرئيسية التابعة للحركة في الفاكهاني. مع خليل الوزير "أبو جهاد"، عمل مغنية داخل فلسطين. أصبحت مهمته استطلاع الحدود اللبنانية ــ الفلسطينية، واختيار الممرات الآمنة التي سلكتها المجموعات الفدائية إلى الداخل الفلسطيني، وتشكيل خلايا استطلاع في الجنوب اللبناني. في تلك الفترة تعرّف عماد على أماكن تخزين السلاح، والمخابئ التي كانت تستخدمها المقاومة لتنفيذ عمليات ضد العدو. لاحقاً، وبعد خروج "منظمة التحرير" الفلسطينية من بيروت عام 1982، وبقاء بعض الخلايا والأفراد في لبنان، استفاد مغنية من شبكة العلاقات هذه، ومن عمله مع الوزير، فحرّك عناصر هذه الخلايا لتنفيذ عمليات كبيرة ضد العدو.
*التعرف إلى الإسلاميين
قبل إعلان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، حاول عماد التقرب من "لجان المساجد" و"الطلبة المسلمين"، لكنهم لم يتفاعلوا معه على اعتبار أنه "فتحاوي". رغم ذلك، استطاع فرض نفسه عليهم، كإسلامي قوي في "فتح"، خاصة أنّ تلك المرحلة شهدت سجالاً داخل البيئة الإسلامية الشيعية حول ثورة الإمام الخميني في إيران التي لم تكن قد انتصرت بعد، بين من أيّد ثورة الإمام وآمن بفكرة ضرورة التجهيز عسكرياً، في مقابل من تبنّى مواقف مراجع شيعية تتحفّظ على هذا التوجه. رفض مغنيّة وجهة النظر الأخيرة، مؤكداً ضرورة التمكين العسكري، فعمل على تدريب أفراد من "اللجان الإسلاميّة"، في ما عُرف بـ"مجموعات الصف"، نسبة إلى آية قرآنية في سورة "الصف": "إِنَّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص". مع انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران في عام 1979، رأى مغنيّة فكراً إسلامياً ثورياً يجب العمل معه إلى جانب الثورة الفلسطينية، معتبراً أن الخيار الذي لطالما آمن به لجهة تقوية الحالة الإسلامية عسكرياً، قد انتصر أخيراً. بعد انتصار الثورة، حُسب عماد على مجموعات الإسلاميين، إلّا أنه بقي تنظيمياً في "فتح"، فعمل على استقطاب الشبان غير الملتزمين دينياً إلى الحالة الإسلامية الناشئة. وسمح قُربُ المكتب الرئيسي للحركة في الشياح من مسجد كان دائم التردد إليه، بتعرّفه إلى بعض الشبان الذين لم يكونوا قد حدّدوا خياراتهم بعد، فأشركهم في دورات "فتح" العسكرية التي كانت تستقبل في معسكراتها أيّ راغب بالتدرّب من دون انتمائه إليها. في تلك المرحلة، أصبح مغنية الملجأ للشباب المتديّن، وتخطى اسمه الشياح، فأتى الشبان من مناطق عدة للمشاركة في دورات مختلفة الاختصاصات. في بعض تلك الدورات شارك مغنية شخصياً في التدريب، فاهتمّ في شرح "تكتيكات" القوات الخاصة في الجيوش العربية، وإظهار الفروقات التي تميّز أداء كلّ جيش. كان ينصح الشبان الملتزمين دينياً بالابتعاد عن بعض الشخصيات الفتحاوية التي يعرف أن تأثيرها سيكون سلبياً عليهم.
في نيسان من عام 1980، أعدم نظام صدام حسين رجل الدين المعروف السيد محمد باقر الصدر. أثّرت تلك الحادثة في نفس مغنية، خاصة وأنه كان من المتأثرين به، كما لم يكن قد مضى على اختطاف الإمام موسى الصدر سوى عامين. بعد إعدام الصدر، اندلعت اشتباكات في الشياح بين حركة "أمل" وجبهة التحرير العربية الموالية لـ"البعث العراقي". في تلك الفترة، طلب مغنية من مجموعته الفتحاوية ومجموعات الصف القتال ضد "البعث". كان منزل مغنية في شارع "العريس" نقطة انطلاق المجموعات إلى محاور الاشتباكات، لتعود صباحاً إليه، ومنه إلى مراكزها.
عرف جهاز "الأمن الموحد" التابع لـ"فتح"، بمشاركة مجموعات مغنيّة في القتال، ولذلك استُدعي إلى المركز الرئيسي في الفاكهاني للتحقيق معه. عادة، كان مغنية في مثل هذه الحالات يغيب لساعات ويعود إلى مركزه بعدها. لكن، بعد إحدى الاشتباكات تلك استُدعي للتحقيق، فبقي لمدة يومين، ما دفع مجموعته إلى الاعتقاد بأنه قد سُجن وأنهم سيُعتقلون تباعاً. وفي خلال سعيهم لمعرفة مصيره، حضر أحد قياديي "الأمن الموحّد" إلى الشياح، فسألوه عن مصير مغنية، فأجاب الأخير إنه "مع عرفات وقد أبقاه عنده".
بعد إعدام الصدر في العراق، بدأ "البعث العراقي" في لبنان بملاحقة رجال الدين الشيعة المؤثرين في المجموعات المؤيّدة للثورة الإيرانية وحزب الدعوة، وعلى رأسهم السيد محمد حسين فضل الله، الذي تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال. وفي عام 1979 التقى مغنية بالسيد فضل الله للمرة الأولى. ففي ذلك الزمن وبسبب ملازمة عماد للفصائل الفلسطينية ذات الأيديولوجيا اليساريّة، خافت الحاجّة آمنة على ولدها، وأرادت الاطمئنان إلى التزامه الديني، فطلبت منه لقاء السيد فضل الله.
بعد تلك الجلسة، زارت والدة مغنية فضل الله لمعرفة انطباعه عن نجلها، فقال السيد لها: "ما تخافي عليه، عقله بيوزن بلد". بدوره، تأثر "مختار" (الاسم العسكري الذي استخدمه مغنية في تلك الفترة) بتواضع "السيد". لاحظ غياب الحماية الشخصية له، فقرر تشكيل فريق حراسة له من بعض أفراد مجموعة "الصف" التي درّبها، وعملت معه. لم تعترض "فتح" على ذلك، إذ كان مسؤول "أمن الإقليم" راجي النجمي، ومسؤول "فتح" في الشياح، سلامة، على علاقة جيدة مع السيد فضل الله.
ومع تأسيسه فريق الحماية خصّص عماد أغلب وقته لمرافقة السيّد، خاصة بعد محاولة اغتيال تعرّض لها فضل الله، واستُشهد فيها أحد أصدقاء عماد، حسن عزالدين، خلال تصدّيه لعناصر "البعث العراقي" في منطقة الغبيري. بعد هذه الحادثة، قرّر مغنية ومن معه نقل مقر سكن فضل الله إلى منطقة بئر العبد. وبرغم تمضيته معظم وقته مع السيد فضل الله، لم يقطع مغنية علاقته بـ"فتح" وبسلامة مسؤول الحركة في الشياح. فكما يقول عارفوه، إنه لم يكن يقطع علاقته بأحد. في تلك الفترة، أصبح التزام مغنية وخياره الديني واضحين، وأصبح عقله مرتبطاً بالإمام الخميني، إلّا إن ذلك لم يؤثر على علاقته بقيادات "فتح"، وتحديداً سلامة، الذي ساهم في دعم فريق حماية فضل الله. كان سلامة يطلب من عناصر "فتح" اللبنانيين والمقربين منه ومن مغنية، حضور دروس فضل الله الدينية، قائلاً لهم "اذهبوا واستمعوا إلى دروسه واستفيدوا منها حتى لو لم تُصلّوا".
مع فضل الله بدأت مرحلة جديدة من حياة عماد مغنية. أصبح فيها السيد مرجعاً روحياً لمجموعات كبيرة من الشباب المتديّن، ومغنية قائداً لبعضها.
*راديو "أبو عمار"
خلال زيارته ياسر عرفات في تونس في العام ١٩٨٨، أهدى "أبو عمار" الشهيد عماد مغنية، جهاز راديو. إعتاد مغنية الاستماع عليه وتحديداً على إذاعة "مونتي كارلو"، وكان يعتبره من الأغراض العزيزة عليه فكان ينقله معه إلى المراكز الحزبية التي كان يسكن فيها. لا تزال عائلة مغنية تحتفظ بـ"راديو أبو عمار" حتى يومنا هذا. في حرب تموز ٢٠٠٦، حرصت زوجة الشهيد مغنية على إخراج الراديو معها من آخر مسكن لها، لأنه من بين الأغراض العزيزة على قلب الحاج رضوان.
*يوم القدس
لم يكن "يوم القدس العالمي" (يوم الجمعة الأخير في شهر رمضان) يوماً عادياً بالنسبة إلى عماد مغنية، كان "الحاج رضوان" يُصر على مشاركة عائلته في ذلك النهار تحديداً. ويروي الذين عملوا معه أنه كان يتابع أدق التفاصيل في ذلك اليوم: من طريقة توزيع كاميرات البث، إلى ملابس المشاركين في العرض العسكري، إلى الشعارات التي سيحملها المشاركون، ومضمون الكتيّبات التي توزَّع في المناسبة، وصولاً إلى طريقة أداء القسَم في نهاية الحفل. وكان مغنية وشقيقه جهاد من أوائل المشاركين في أول احتفال بـ"يوم القدس العالمي" دعا إليه الإمام الخميني عام 1979، وأُقيم في لبنان عامذاك في منطقة الأوزاعي.
*سيارات السيّد
في السنوات التي تلت الاجتياح الإسرائيلي، بقي الشهيد عماد مغنية إلى جانب الراحل السيد محمد حسين فضل الله، استفاد في تلك الفترة من سيارات السيّد لتنقلاته الشخصية أيضاً، ربطاً بالحصانة المعنوية التي كان يحظى بها فضل الله. يقول عارفو مغنية إنه كان يمتلك كل بطاقات تسهيل المرور التي كانت تُصدرها الأجهزة الأمنية والأحزاب حينذاك. يُضاف إلى ذلك أنه كان يستفيد من كونه مجهولاً، فكان يتجول في سيارات الأجرة، وخاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية، أو على دراجات نارية، كتلك التي كان يستخدمها في الضاحية وعدد من المناطق في حرب تموز 2006.