أين وصل التعداد؟ بغداد تحتضن ربع سكان العراق وجدل حول جدوى الإحصاء ومصداقيته
انفوبلس..
يوم أمس، أعلنت وزارة التخطيط انتهاء المرحلة الثالثة والأخيرة من العمل الميداني للتعداد العام للسكان والمساكن في البلاد "بنجاح"، والتي استمرت نحو 20 يوماً.
وذكرت الوزارة في بيان، إن جميع فعاليات ومراحل التعداد شهدت نجاحاً كبيراً، حيث تم تنفيذها إلكترونياً بالكامل، مبينة أن التعداد بدأ بمرحلة الترقيم والحصر التي انطلقت في الأول من أيلول واستمرت حتى 31 تشرين الأول، تلتها مرحلة عد السكان في الفترة من 20 إلى 22 تشرين الثاني، ثم المرحلة الأخيرة التي شملت جمع البيانات التفصيلية لخصائص السكان الديموغرافية.
كما شمل التعداد جميع محافظات العراق بما فيها محافظات إقليم كردستان، بالإضافة إلى المناطق النائية، والبدو الرحّل، والمنشآت بمختلف أنواعها.
وأضاف البيان، إن التعداد حَظِيَ بدعم واعتراف المنظمات الدولية وبعثة الأمم المتحدة في العراق، التي أشادت بمستوى المهنية والالتزام بالمعايير العالمية في تنفيذ المشروع.
وأكدت الوزارة أن الحكومة نجحت في إجراء التعداد السكاني لأول مرة بطريقة إلكترونية، بعد 37 عامًا من آخر تعداد شامل في العراق.
وأشار البيان إلى، أن النتائج الأساسية للتعداد سيتم الإعلان عنها في شهر شباط المقبل، بعد الانتهاء من عمليات التصنيف والتبويب والترميز، وإعداد التقارير التفصيلية التي تتناول البيانات الشاملة حول الخصائص الديموغرافية والاجتماعية للسكان.
وبحسب مراقبين، فإن المفاجأة التي أفرزها هذا الإحصاء، هي الإعلان عن عدد نفوس العراق الذي بلغ 45 مليوناً و520 ألف نسمة، وفق تصريح المدير التنفيذي للتعداد السكاني علي العريان الذي قال، إنه قابل للزيادة المطردة، فقد جرى من دون إحصاء عراقيي الخارج الذين يزيد عددهم على أربعة ملايين نسمة. كما كشف الإعلان الأولي عن زيادة إحصائية لعدد نفوس إقليم كردستان، تصل إلى أكثر من ثمانية ملايين نسمة، أي بزيادة خمسة ملايين شخص على آخر إحصاء أجرته الدولة قبل الاحتلال عام 2003.
ويشير المراقبون إلى نشوب جدل ومناكفات حول مسوغات إجراء الإحصاء في ظروف متحركة، غير مستقرة، وغياب ملايين المهاجرين والمهجّرين قسراً، وفق ما يقول مخطط المدن، المهندس تغلب الوائلي، ويشير إلى أنها "خطوة إيجابية كثيراً ما انتظرناها، لكن إكمال الخطوة لا يُعدّ إنجازاً إلا بنجاحها والعبرة بنتائجها.
ويضيفون، إن التحضيرات لم تكُن كافية رغم السنوات التي مضت، فهي لم تكُن كافية، ولم يجرِ توحيد التعداد ومراقبته من طرف واحد محايد، ونحن نعلم أن هناك أغراضاً سياسية قد تخلّ بمصداقية نتائج التعداد، وما جرى في كركوك المتنازع عليها يمثل جانباً من الخروقات التي رافقت هذا التعداد والتي ستؤثر بالتالي وتسبب خللاً في توزيع الثروات، وكان عدد المشرفين بالتأكيد غير كافٍ، ولنا أن نقارن بين تعداد عام 1977 حين بلغ عدد العاملين أضعاف عدد العاملين في تعداد عام 2024، مع الأخذ في الاعتبار الزيادة الهائلة في عدد السكان خلال 47 سنة، أي كان من المفروض أن يكون عدد العاملين في هذا التعداد أضعاف من قاموا به سابقاً. وجرى التعداد خلال يوم واحد، ولم يشمل كثيراً من المعلومات الضرورية لرسم الخريطة التنموية للعراق.
وأكد أمين بغداد السابق، الباحث علاء التميمي على أهمية التعداد السكاني لأغراض التنمية الحضرية، قائلاً إن "التعداد السكاني هو الركيزة الأساسية للتخطيط الحضري والتنمية المستدامة. ويتيح جمع بيانات دقيقة وشاملة حول السكان، بما في ذلك عددهم وتوزيعهم الجغرافي وخصائصهم الاجتماعية والاقتصادية وحاجاتهم. وهذه البيانات تمكّن الحكومات من اتخاذ قرارات مستنيرة لتوفير الخدمات الأساسية وتخطيط البنية التحتية بما يتناسب مع معدلات النمو".
ورأى، أن "العراق لم يكُن مؤهلاً بصورة كافية لتحمل التعداد السكاني الحالي، خصوصاً بالنظر إلى التحديات التي تواجهها البلاد على الصعيدين الاقتصادي والخدمي. وفي ما يلي تحليل تفصيلي للأسباب التي جعلت العراق غير مؤهل لهذه الزيادة السكانية، فمع عدم وجود تخطيط سكاني طويل الأمد، رافقه غياب استراتيجية سكانية منذ عام 2003، كما لم تتبنَ الحكومات العراقية المتعاقبة سياسات سكانية واضحة، تحدد كيفية التعامل مع النمو السكاني السريع. وفي ظل عدم ربط التعداد السكاني بالتنمية، لم توجَه أي جهود تُذكر نحو ربط الزيادة السكانية بالتخطيط للتعليم والصحة والبنية التحتية والاقتصاد. فالبنية التحتية ضعيفة وشبكات المياه والصرف الصحي تعاني تآكلاً شديداً، بخاصة في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة، مما يؤدي إلى فيضانات متكررة وتلوث المياه، ونقص المياه الصالحة للشرب بسبب تراجع الموارد المائية وسوء إدارة البنية التحتية للكهرباء غير الكافية لتلبية حاجات السكان، مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة يومياً. كذلك الطرق العامة ووسائل النقل غير قادرة على استيعاب الزيادة الكبيرة في عدد السكان، مما يؤدي إلى ازدحام مروري. والقطاعات الخدمية غير المؤهلة، والنظام التعليمي يعاني اكتظاظ الصفوف ونقص المدارس والمعلمين والجودة التعليمية تراجعت بصورة كبيرة، مما يحد من قدرة السكان الجدد على المساهمة في التنمية الاقتصادية. وتعاني المستشفيات والمراكز الصحية نقصاً في المعدات والكوادر الطبية، ناهيك عن انتشار الأمراض بسبب التدهور البيئي وغياب التخطيط الصحي السليم".
وأضاف، إن "الاقتصاد العراقي الذي يعتمد بصورة كبيرة على النفط غير منوّع بما يكفي لاستيعاب العمالة المتزايدة. كما أن معدلات البطالة والفقر في تصاعد مستمر مع عدم وجود استثمارات كافية في قطاعات أخرى. ولم تواكب الزيادة السكانية زيادة في الاستثمارات الموجهة إلى البنية التحتية أو التنمية البشرية".
وحذر الباحث التميمي من أن "العراق لم يكُن مؤهلاً للتعداد السكاني الحالي بسبب ضعف التخطيط، فالبنية التحتية متدهورة، والاقتصاد غير مستقر. وإذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، فإن البلاد ستواجه تحديات كبيرة تهدد مستقبلها الاجتماعي والاقتصادي. والتخطيط السليم الآن يمكن أن يحول هذه الزيادة السكانية إلى فرصة للنمو بدلاً من أن تكون عبئاً إضافياً". وأضاف أنه "إذا لم يتم وضع سياسات تنموية مستدامة وشاملة، فإن هذه الزيادة قد تتحول إلى عبء كبير على الدولة والمجتمع، مما يهدد مستقبل الأجيال".
وتظهر النتائج الأولية تركُّز السكن في وسط العراق، لا سيما العاصمة بغداد التي وصل عدد سكانها إلى ما يقارب ربع سكان البلاد بمعدل عشرة ملايين نسمة، وتريّفت العاصمة بعد النزوح الفلاحي إليها، فشهدت بغداد تضخماً تدريجياً في أعداد السكان، إذ عرفت تحولات كبيرة منذ الاحتلال البريطاني عام 1917 وحتى اليوم. ففي بداية القرن الـ20، كان عدد سكان بغداد 250000 نسمة، وهو رقم يعكس مجتمعاً صغيراً نسبياً مقارنة بالعواصم العالمية الأخرى آنذاك.
ومع تطور المدينة، ازدادت معدلات النمو السكاني بوتيرة متسارعة، فعام 1947 بلغ عدد سكانها 580 ألف نسمة، وعام 1957 وصل العدد إلى 700 ألف نسمة، وبعدها بـ20 سنة تجاوزت بغداد حاجز الـ 3.2 مليون نسمة نتيجة الهجرة من الريف إلى المدينة. وبسبب التوسع الاقتصادي ارتفع العدد إلى 4.5 مليون نسمة مع حلول عام 1997.
وتابع التميمي، إن "التقديرات الحالية تشير إلى أن عدد سكان بغداد يزيد على 9 ملايين نسمة، مما يعني تضاعفاً هائلاً خلال العقود الماضية، ويعكس الزيادة غير الطبيعية في عدد السكان، وبينما يمكن تفسير بعض هذه الزيادة بمعدلات النمو الطبيعي للسكان، فإن جزءاً كبيراً منها يعزى إلى الهجرة الداخلية إلى بغداد بحثاً عن فرص العمل والخدمات. وهذه الهجرة لم تكُن دائماً مدعومة بسياسات تخطيط حضري سليمة، مما أدى إلى تراكم الضغوط على المدينة من ناحية توفير السكن وخدمات المياه والمجاري".
وعقّب مدير مركز الدراسات السياسية في بغداد الباحث غازي فيصل على عملية التعداد، قائلاً إن "مراقبة مجريات وطبيعة التعداد السكاني في العراق ستقدم مؤشرات تتعلق بعناصر القوة، أي القدرات والثروات والموارد البشرية والمادية، إلى جانب مؤشرات للكشف عن الاختلالات الاقتصادية في الصناعة والزراعة والخدمات التي أُهملت من قبل الأحزاب الدعوية التي لم تتبنَ نظرية اقتصادية معاصرة، ولا نظرية سياسية للدولة المدنية إلى جانب انتشار الفقر والجهل والبطالة والمدن العشوائية والجريمة المنظمة، خصوصاً انتشار المخدرات والحوالات السوداء نحو إيران وسوريا ولبنان والعقود والشركات الوهمية التي تمثل شبكات ومافيات خطرة لطبقة الفساد المالي والسياسي والإداري".