المختار في زمن النسيان.. كيف تراجع دور الوسيط الشعبي بين الحكومة والمجتمع في العراق وسط صمت حكومي وتشريعات بالية؟

انفوبلس/..
في أزقة القرى، وبين الأزمنة التي تسكن ذاكرة العراقيين، كان “المختار” أكثر من مجرد موظف محلي، بل رمز اجتماعي، ومرجع عشائري، ومُبلّغ رسمي، وشاهد على لحظات الحياة اليومية، من ولادة الطفل حتى نزاع الإرث. لعقود طويلة، مثّل المختار ركيزة لا غنى عنها في بنية الإدارة العراقية، خاصة في المناطق الريفية والأحياء الشعبية، حيث كان صوته مسموعًا لدى الأهالي ومقبولًا لدى الدولة.
لكن هذا الدور، الذي ظلّ لعقود يحظى بهيبة وتقدير، بدأ يتآكل شيئًا فشيئًا خلال السنوات الأخيرة، حتى بات كثير من المختارين يشكون من التهميش والتجاهل، ويصفون أنفسهم بـ”الموظفين غير المرئيين” في جهاز الدولة. ومع تطور التكنولوجيا وتغيّر أنماط الحياة، يتساءل كثيرون: هل انتهى دور المختار في العراق، أم لا يزال هناك أمل في إنعاشه ضمن منظومة قانونية حديثة تحفظ له مكانته؟
*تراجع الدور.. وتغير الزمن
لا يختلف اثنان على أن دور المختار، خاصة بعد عام 2003، بدأ يشهد تحولات جوهرية، ليس فقط في حجم المسؤوليات، بل في قيمته المعنوية لدى المجتمع. في السابق، كان المختار هو المرجع الأول لتوثيق محل السكن، والشاهد الشرعي في كثير من النزاعات العائلية، كما كان صوته حاضرًا في جلسات الإصلاح العشائري، ومناسبات الفرح والحزن.
لكن مع تصاعد دور المؤسسات الحكومية، وانتشار مكاتب الخدمات الإلكترونية، وانتقال صلاحيات كثيرة إلى جهات رسمية مثل الشرطة المحلية، والمجالس البلدية، ومخاتير المجالس المحلية المنتخبة، تضاءل تأثير المختار، بل تحوّل – في بعض المناطق – إلى شخصية رمزية فقط.
يقول الحاج قاسم الدوري، مختار منذ أكثر من 30 عامًا في محافظة ديالى: “كنت أعرف كل فرد في الحي، وأتابع مشاكلهم، وأوثّق أوراقهم، وأبلغ عن الغرباء أو المشاكل الأمنية، واليوم أصبحت مجرد اسم على ورقة، لا أحد يستشيرني ولا يعتمد على توقيعي”.
*مخصصات هزيلة.. وعبء متزايد
بعيدًا عن الجانب المعنوي، يواجه المختار العراقي أزمة مالية حقيقية، إذ لا تتجاوز مكافآته الشهرية 250 ألف دينار، في وقت يتوجب عليه شراء الأختام والأوراق والقرطاسية على نفقته، فضلًا عن التنقل، والظهور في المحاكم، ومراجعة الدوائر الرسمية. يقول مختار في أحد أقضية بابل – طلب عدم ذكر اسمه – إنه اضطر مؤخرًا إلى بيع هاتفه المحمول ليسدد دينًا مستحقًا بسبب نفقات عمله.
ويضيف: “المختار لا يمتلك راتبًا تقاعديًا، ولا تأمينًا صحيًا، ولا ضمانًا اجتماعيًا، وفي المقابل، يطلب منه أن يكون حاضرًا ليلًا ونهارًا لخدمة الناس”.
أكثر من ذلك، يشكو المختارون من غياب أي تدريب أو تأهيل أو إشراك في القرارات المحلية، إذ يتم تعيينهم غالبًا بترشيحات عشائرية أو انتخاب رمزي من الأهالي، دون اعتماد معايير الكفاءة أو التمكين الإداري، ما يجعل بعضهم عرضة للتهميش أو السخرية في بعض الأحيان.
*قانون “عاجز” ومحاولات “ترقيع”
القانون الذي ينظم عمل المختارين في العراق يعود إلى عام 2011، تحت رقم 13، ويصفه كثير من النواب والخبراء بـ”العاجز والقديم”، إذ لم يأخذ بعين الاعتبار التحولات التكنولوجية، ولا التحديات الإدارية الجديدة، ولا حتى البعد الاجتماعي الذي باتت تشغله شبكات التواصل الاجتماعي والمجالس العشائرية البديلة.
وفي هذا السياق، كشف نائب رئيس لجنة الأقاليم والمحافظات البرلمانية، جواد اليساري، عن وجود مساعٍ لتعديل القانون بما يمنح المختار مزايا مالية وإدارية، أهمها رفع مكافأته الشهرية إلى 500 ألف دينار، واحتساب خدمته لأغراض التقاعد.
لكن اليساري أشار إلى عقبة “التمويل”، معتبرًا أن التعديل قد يواجه اعتراضات من الحكومة بذريعة التكاليف، على الرغم من أن عدد المختارين في العراق لا يتجاوز بضعة آلاف، وأن كلف تحسين وضعهم لا تعادل ميزانية دائرة حكومية واحدة.
*تحولات اجتماعية تلغي المرجعيات التقليدية
إلى جانب الأزمات المالية والإدارية، تلعب التحولات الاجتماعية دورًا كبيرًا في تراجع مكانة المختار. يقول الباحث الاجتماعي جاسم الخطيب، من بغداد، إن “جيل الشباب لم يعد يرى في المختار تلك الشخصية المرجعية التي تُحلّ عندها المشاكل وتُؤخذ منها النصائح”، مضيفًا أن “منصات التواصل الاجتماعي، والوعي القانوني، وانتشار ثقافة الدولة الرسمية، أسهمت في إنهاء الدور التقليدي للمختار”.
كما يشير الخطيب إلى أن المجتمع العراقي، خاصة في المدن، بات يفضل حل نزاعاته عبر المحاكم أو الشرطة المجتمعية، بدلًا من اللجوء إلى المختار، مما قلص دوره أكثر.
*بين رمزية الماضي وتحديات الحاضر
رغم كل ذلك، لا يزال بعض الأهالي، لا سيما من كبار السن أو في المناطق الريفية، يرون في المختار صمام أمان اجتماعي، وصوتًا مألوفًا وسط فوضى الأوراق والمعاملات والبيروقراطية.
يقول أبو حسين، من سكنة حي في النجف: “المختار يعرفني ويعرف أولادي، وأنا لا أثق بأي معاملة من دون توقيعه”.
أما أم نزار، موظفة من البصرة، فترد بعين نقدية: “كثير من المختارين سابقًا استغلوا مناصبهم للحصول على مكاسب، أو التدخل في شؤون لا تعنيهم، لذا من الأفضل أن تبقى الأمور بيد الدولة ومؤسساتها فقط”.
هذا الانقسام المجتمعي يعكس أزمة الهوية التي يعيشها منصب المختار، فهو من جهة محاط بإرث ثقيل من التقدير الشعبي والرمزية التاريخية، ومن جهة أخرى محاصر بتغيرات الدولة الحديثة وانكماش الحاجة إليه في عصر التكنولوجيا والحوكمة الإلكترونية.
*الحلول: بين الواقع والطموح
يرى خبراء في الشأن الإداري أن إصلاح دور المختار لا يمر فقط عبر زيادة المخصصات، بل يتطلب إعادة تعريف المهام، ومنحه أدوات عمل حديثة، كالمشاركة في المنصات الرقمية، وربطه بشبكات معلومات الدولة، وتدريبه على التعامل مع النزاعات المعقدة.
كما يقترح البعض دمج المختار ضمن مجالس الحي أو المجالس المحلية المنتخبة، بدلًا من بقائه منفصلًا عن منظومة الدولة، أو جعله أشبه بـ”المدافع المدني” في الحي، يتدخل عند الحاجة في قضايا معينة، ويكون ممثلًا للناس لا بديلاً عن الدولة، بل همزة وصل فعالة معها.
*خلاصة المشهد
اليوم، يقف المختار العراقي على مفترق طرق. فإما أن تعيد الدولة الاعتبار له من خلال قوانين جادة، وتمكين إداري ومادي، وتدريب وتأهيل، أو تتركه يتلاشى تدريجيًا وسط أمواج التحول الاجتماعي، والتقدم التكنولوجي، والبيروقراطية المتفاقمة.
وبين هذا وذاك، يبقى السؤال مطروحًا بشدة: هل سيعود المختار ليلعب دوره كوسيط اجتماعي موثوق، أم أن الزمن طوى صفحته إلى الأبد، وترك خلفه ذاكرة تسكن الصور القديمة والشهادات الورقية المكدسة في خزائن البيوت.