المكسب المادي حاضر.. تعود إلى الحضارات القديمة وأصبحت ترندات.. قصة المهاويل والأهزوجة الشعبية في العراق

انفوبلس/ تقرير
تعتبر الأهازيج والهوسات التي يؤديها المهاويل جزءًا لا يتجزأ من طقوس الحزن والفرح في العراق وخاصة في جنوب البلاد، وقد لعب هذا اللون من الشعر الشعبي دورًا بارزًا في التعبئة الاجتماعية خلال مراحل النضال الوطني، ويسلط تقرير شبكة "انفوبلس"، الضوء على كل ما تريد معرفته عن الأهزوجة الشعبية والأشخاص المؤدين لها.
وتعدّ الهوسات من العناصر المهمة في إثارة الهمم وإيقاظ العزائم وشحن القوة للرجال، فهي تثير الحمية والنخوة في السامعين وقد يساوي تأثيرها النفسي ما يساويه السلاح في أيدي الرجال. وخير شاهد على تأثير الهوسات في همم وشجاعة الرجال تجلى في ثورة العشرين التي كان لها المردود الإيجابي في شحذ الهمم وإثارة الحماس للهجوم على الغزاة الإنكليز.
ما هي الأهزوجة الشعبية؟
تكتب الهوسات بأوزان الشعر الشعبي كافة كالموشح والنصاري والتجلية، ولا تزيد أبياتها على ثلاثة يختتمها بالهوسة التي يجب أن تكون على تفعيلة الخبب لكي يؤدي المجتمعون مع المهوال الحركات التي تتواءم مع أهزوجته، وتتخلل الأهزوجة حركات راقصة تسمى "الردسة" يؤديها الرجال، فيضربون أقدامهم بقوة بالأرض ويقفزون بسرعة مع تحريك أيديهم فوق رؤوسهم.
وتطلق الأهازيج هذه في مختلف المناسبات، السعيدة والحزينة، ويلقيها المهوال بأساليب عدة، والأخير يجب أن يتصف بمواصفات تمكنه من شدّ الانتباه. كما فن الهوسات والأهازيج ليس طارئًا على الثقافة العراقية، بل يمتد في عمق الذاكرة الجمعية للشعب. وقد لعب هذا اللون من الشعر الشعبي دورًا بارزًا في التعبئة الاجتماعية خلال مراحل النضال الوطني.
وأدت سهولة التصوير عبر الهواتف الذكية المتاحة لدى الجميع إلى انتشار الهوسات، أو الأهازيج، على نطاق واسع في مناطق شعبية وقروية مختلفة من جنوب ووسط العراق أكثر من غيرها من مناطق البلاد. وهو ما زاد من رغبة السكان في متابعة ما يطلقه المهاويل، وهم مؤدّو هذا الفن، من أهازيج تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي، حتى باتت تنظم مسابقات لها في إحدى المحطات الفضائية العراقية على غرار مسابقات البرامج الغنائية الشهيرة عربياً.
والمكسب المادي حاضر بالنسبة لأصحاب الأهازيج عموماً، إذ عادةً ما يحصلون على مكافآت مادية ممن يجرى مدحهم، سواء كانوا الضيوف الوافدين إلى القبيلة أو المجلس العشائري، أو من سكان المناطق، لا سيما الميسورين منهم، ممن يهتمون بأبيات الفخر والشجاعة والكرم وغيرها التي تنسب لهم وعادة ما يعلقونها في منازلهم أيضاً.
والأهازيج لون شعري يعتبر نتاجاً لبيئة عربية لها ثقافتها في وسط وجنوبي العراق، وهذا اللون مرتبط غير منقطع بالشعر العربي والتراث العربي والتقاليد العربية، وفق ما يذكر الباحث في التاريخ العراقي الحديث، ستار البغدادي. يوضح البغدادي أنّ "في الأهازيج جميع ألوان الشعر العربي، من هجاء ورثاء ومديح وغزل وحماسة ووصف وسياسة وحكمة".
كما ويشير إلى أنّ هذه الأهازيج "تكتب بالعامية العراقية، وأحياناً يجمع المهوال بين الشعر العامي والفصيح، بطريقة إبداعية لا تنقص من اللغة الفصيحة وترفع من شأن اللهجة المحلية". ويتابع: "ليس ضرورياً أن يكون المهوال شاعراً، فربما يعتمد على حلاوة صوته وقوة أدائه وتمكنه من شدّ الانتباه، فيما يكتب له شعراء آخرون القصائد والأهازيج لكي يرددها".
الروائي والكاتب يوسف أبو الفوز يعود في تأريخه إلى مطلع القرن العشرين، حيث وثّق استخدام الأهازيج كأداة نضالية خلال ثورة الفلاحين في الفرات الأوسط عام 1920. يقول: "لقد عرف شعبنا الأهازيج كجزء من تراثه الثقافي، وسرعان ما تطورت لتأخذ أدوارًا متعددة، من التفاخر العشائري إلى التعبير عن الفرح والرثاء. وفي أيام الثورة، كان للهوسات أثر معنوي كبير في شد أزر الثوار ورفع معنوياتهم في وجه الاستعمار البريطاني".
لكن مع قيام ثورة 14 تموز 1958، وانتعاش الحياة المدنية، وتراجع سطوة الإقطاع وشيوخ العشائر، شهدت ظاهرة "المهوال" تراجعًا واضحًا، حيث بقيت مقتصرة على المناسبات الشعبية كالزفاف ومجالس العزاء، دون أن تشكّل مهنة أو وسيلة للكسب.
في عهد النظام البعثي، يقول أبو الفوز، تحوّل العديد من فناني الأهازيج إلى أدوات بيد السلطة، بفعل القمع والتدجين الذي مارسته مؤسسات النظام البوليسي. ويضيف: "شهدت تلك الحقبة استغلالًا ممنهجًا للفن الشعبي، حيث جُنّد عدد كبير من المثقفين ليصبحوا أبواقًا للتمجيد والدعاية، فاستخدموا الهوسات لخدمة السلطة بدلًا من خدمة المجتمع".
وبرزت أخيراً، الأهزوجة العراقية "لا تتمادى نخبزك خبز العباس"، وقد انتشرت عربياً، بل إن بعض مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي من الأجانب، أقدموا على ترديد مفرداتها والرقص على طريقة "الدبج" العراقي، من دون أن يعرفوا معنى هذه الأهزوجة وامتداداتها التاريخية وارتباطها بوجدان العراقيين وذكرياتهم عنها.
وسبق أن انتشرت أهازيج أخرى، ولها امتدادات تاريخية لمجتمعات غرب وجنوب العراق، مثل "مالك هيبة يالمالك شر"، وتعني أن الهيبة لا تتحقق إلا إذا كان الشخص قادراً على الإيذاء ولديه قوة، وبالرغم من اختلاف الكثيرين مع هذه المفاهيم، إلا أن لها أصداء إعلامية بالغة وتُردَّد عادة في الأعراس والاحتفالات وعلى إيقاعات متفرقة.
لكن الأهزوجة العراقية "خبز العباس" انتشرت سريعاً وصارت متداولة عربياً على نحو لافت، لوقعها الموسيقي ربما وليس لمعناها، لا سيما أن غالبية العرب لا يعرفون معنى "خبز العباس"، وهو مجموع الخضار من البقدونس والرشاد والجرجير والفجل والكرفس، تهرس سوياً ثم توضع في الخبز لتشكل وجبة غنية بالفيتامينات والمعادن، ولا تُكلف مالاً كثيراً في الوقت ذاته.
وكان العراقيون يُوزعون "خبز العباس" على الجيران والأحباب في أيام الأفراح وفي بعض المناسبات الدينية أيضاً، والعباس هو الإمام العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومرقده في العراق ويزوره سنوياً ملايين الوافدين لمدينة كربلاء. وجاء استعمال الكلمة في هذه الأهزوجة من باب التشبيه بأن الذي يعادينا نخبزه كما نخبز الخبز، واستعار الشاعر الشعبي مفردة "خبز العباس".
قبل 3 أعوام تقريباً انتشرت أهزوجة ترتبط بحادثة وقعت في محافظة البصرة، حين تقدم شاب لخطبة فتاة أحبها، فرفضه أهلها، وسرعان ما أقدم والد الفتاة على تزويجها جبراً، ما دفع الشاب إلى حمل السلاح والتوجه إلى منزلها، وهو يردد: "طلعنه تفاكنه وصار الفشك حنه، وتزامطنه ويه أهلها بليلة الحنة، أبوها يريدها للغير، ما يدري بجيله آخذ روحه"، وهذه من الأهازيج العنفية المعروفة.
الناشط العراقي حسين صافي يقول إن "الترندات العراقية صارت سريعة الانتشار في الوطن العربي، حتى في البلدان الأجنبية، لأنها قريبة من المشاعر البشرية والإنسانية، كما أن صناع المحتوى في العراق يحظون بمتابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، تحديداً على منصة تيك توك"، وأوضح أن "الأهازيج في العراق، عادة ما تنتشر لأنها ليست وقتية، بل إنها تحمل قصصاً وأفكاراً وامتدادات تاريخية".
أما الباحث في شؤون التراث العراقي سليم الفيصل فيقول هو الآخر، إن "الأهزوجة العراقية تعود إلى الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين، ويرجح أن السومريين كانوا يدبكون بنفس الطريقة التي يقوم بها سكان جنوب العراق حالياً، وبالنظر للوضع الاقتصادي الذي مرّ على هؤلاء الناس، فقد ابتعدت الأهزوجة عن المعاني الرحيمة، وأخذت طابعاً عنفياً".
وأكمل الفيصل، إن "القصائد التي تُقرأ على جمع من الناس في الاحتفالات ومجالس العزاء وفي المديح والهجاء، عادةً ما تنتهي بسطر أخير، يُلحن بطريقة أهزوجة خبز العباس التي اشتُهرت أخيراً، على وقع رقصة تحمل شكل الثبات في الأرض، وكأن الراقصين يقولون إن هذه أرضنا، ويردّدون شعارهم الخاص بالمناسبة".
وتعتبر شيماء عبد الستار، أنّ للأهازيج جمهوراً واسعاً من النساء "وهو أمر طبيعي" وفق قولها. وتذكر شيماء أنّ "شاعرات عراقيات يكتبن هذا اللون من الشعر"، مضيفة أنّها تتبادل مع صديقاتها مقاطع فيديو لأهازيج، وترى فيها "ثراء فنياً وثقافياً لا يمكن توافره واختزاله في العديد من الفنون الأدبية الأخرى". ووفق قولها فإنّ "نيل مهاويل الشهرة على نطاق واسع مثل مرتضى حرب وكاطع المياحي لم يأتِ من فراغ، بل لتمكّنهم من ناحيتي التأليف والإلقاء بالإضافة إلى امتلاكهم حناجر قوية وصوت جميل".
*المهاويل
هم شخصيات تقوم بمدح الأحياء والأموات من شيوخ العشائر والشخصيات العادية أثناء حفلات الزفاف ومراسم تأبين الموتى من الشخصيات الاجتماعية مثل زعماء القبائل وغيرهم، ويطلق الناس على هؤلاء المداحين تسمية "المهوال"، وعادة ما يؤلف ما يدعى بـ"الهوسة" ويجمع الآخرين حوله ليرددوا معه ما يقول.
وغالبا ما يتميّز المهوال بقدرته على الإلقاء الحماسي في مختلف المناسبات، فهو يبرع في مدح القبائل والوجهاء في مختلف المناسبات لينال استحسانهم وعطاءهم ويحصل على مبالغ مجزية لقاء مدحه تلك الشخصيات.
وبالرغم من أن ظاهرة التكسّب ليست حديثة، إذ اشتهر العديد من الشعراء في التاريخ العربي القديم بتقرّبهم من الولاة والسلاطين ومدحهم بأبيات شعرية لقاء حصولهم على الأموال والهدايا الثمينة، لكن الاختلاف بين الشعراء المذكورين والمهوال هو أن الأخير يلقي شعره باللغة الجنوبية الدارجة مستخدما الشعر الشعبي.
وهناك مناسبات عدة تستقطب المهوال منها "العراضة"، أي توديع شيخ العشيرة في مراسم خاصة بعد موته يستخدم فيها الرصاص الحي الذي يطلق في الهواء و"الزفة" أي حفلات الزفاف التقليدية التي تتم باستعراض العروسين في الشوارع العامة احتفالا بهما.
والمهاويل لا يختصون فقط بتلك المناسبات، حيث يطلق الكثير منهم أهازيج وقصائد حول خيانة الصديق والشجاعة لدى بعض الرجال، بل إن بعضهم تعدى الأمر لإطلاق أهازيج حول السياسة. ومن المهاويل الذين اشتهروا بتوجيه رسائل سياسية المهوال عاشور الأسدي، الذي خاطب البرلمان العراقي بأهزوجة خاصة وصف فيها وضع العراقيين في ظل البرلمان المنتخب.
وتملك بعض العشائر مهوالا خاصا بها تتباهى به بين العشائر في تلك المناسبات، وغالبا ما يتولى قيادة مجموعة من الشعراء الشعبيين من أبناء مهنته ويردد الأهازيج معهم. والمهوال عادة ما يتصف بصفات عديدة أهمها سرعة البديهة والجرأة، كما يجب أن يكون مطلعا وذا معرفة واسعة بنوع العلاقات بين العشائر، إضافة إلى معرفته العميقة جدا بتاريخ عشيرته نفسها كي يستطيع إبراز أفضل ما فيها والتعريف بها على أفضل وجه، هذا إضافة بالطبع إلى الدور الحماسي الذي يؤديه على صعيد تعبئة أبناء العشيرة من خلال الأهازيج التي يرددها.
المهوال علي سامي يقول إن أسماء لامعة لشعراء شعبيين ومهاويل مرت في تاريخ الأهازيج الشعبية كما أن تاريخ القبائل العراقية خلّد البعض من كبار المهاويل الذين نظموا الشعر وحفظوه ورددوه في مآثر العشائر ومناسباتها، كما اقتصر بعضهم على نظم الشعر لعشيرته وذكر مآثرها في المناسبات العامة والخاصة.
كما وانتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة ترديد الشعر والأهازيج في مناطق الجنوب مع هيمنة سلطة العشائر على الحياة الاجتماعية وظهور العشرات من المهاويل الذين استقطبوا جمهورا خاصا من الشباب، ما دفع جمعية الشعراء الشعبيين إلى إنشاء رابطة خاصة بالمهاويل.
الشاعر إسماعيل الموسوي يقول "التف حول المهاويل جمهور ومعجبون يتتبعونهم في كل مناسبة لسماع أهازيجهم والتقاط الصور معهم، كما انتشرت أشرطة الفيديو على صفحات الإنترنت لعدد من مهاويل ميسان وبعض المحافظات الأخرى والتي يتناقلها الشباب ويدمنون سماعها".
ويتقاضى المهاويل مبالغ مالية عن كل مناسبة ويتباين ما يحصلون عليه بحسب الشهرة، لكن معدل ما يكسبه المهوال بشكل عام يناهز 400 دولار في كل مناسبة، يأتي بعضها على شكل هبات من الحضور، إذ يتعمّد المهوال مدح بعض الوجهاء والشيوخ والسياسيين من الحضور بقصد الحصول على المال.
ويربط المهوال عدي الكعبي الشعر والمدح الحالي بالتراث القديم الذي تعود أصوله إلى شعراء اللغة العربية الكبار قبل الإسلام وبعده، مبيّنا أن "الشعراء العرب استخدموا الهجاء لذمّ خصومهم مثلما استخدموا المديح. أما اليوم فيحاول معظم المهاويل الابتعاد عن الذم والنقد تجنّبا لإثارة المشكلات، وعادة ما نتولى الرد على بعض التجاوزات التي تحصل في مناسبات خاصة كالفصول العشائرية وحل النزاعات أو حين يتفاخر شاعر ما بمآثر قبيلته فيكون الرد شعرا بطريقة المساجلة".
الى ذلك، يقول الكاتب والناقد عبد الخالق كريم إن "المهاويل لا تعكس الثقافة الشعبية بمفهومها الحضري أو المدني، بل تعكس جانبًا منها يتجلى في المجتمعات العشائرية التي لا تزال محكومة بقيم عرفية وقبلية. إن المهوال شخصية تعكس هذا الامتداد التاريخي، وتعيد إنتاج المنظومة الأخلاقية التقليدية عبر الشعر والأهازيج، مما يعزز مكانة القبيلة وهويتها داخل نسيج المجتمع".
ويبدو أن مشاركة المهاويل لم تعد تقتصر على مجالس العزاء أو الأعراس فقط، ولكن يتم استدعاؤهم أيضا في المناسبات الأخرى كإخلاء سبيل معتقل أو عودة الحجاج أو استقبال شخصية سياسية أو في بعض المهرجانات.