برلمان الباصات.. حين يتحول الطريق إلى مساحة للجدل والضحك والتحليل

انفوبلس/ تقارير
مع إشراقة كل صباح، تنطلق الحافلات الصغيرة في شوارع المدن العراقية، حاملةً على متنها وجوهًا مألوفة وهمومًا تتكرر، وركابًا تلاحقهم تفاصيل الحياة اليومية بين الرغبة في العيش الكريم والقدرة المحدودة على تحقيقه. حافلات تبدو رغم بساطتها، كأنها مسارح اجتماعية مفتوحة؛ يتداخل فيها الحديث العابر بالجدل العميق، وتمتزج الضحكة بالسخط، ويتقاطع السياسي بالمعيشي، في مشهد يومي غني بالدلالات.
ساحة مصغّرة لمعركة كلامية
يبدأ "علي فرحان"، موظف في دائرة حكومية، حديثه بينما ينظر من نافذة الباص إلى الزحام الصباحي، قائلاً: "لم يسعفني الحظ ولا راتبي القليل في امتلاك سيارة صغيرة تُسهّل عليّ التنقل اليومي بين منزلي ودائرتي. تمنيت أن أحقق لأطفالي أمنية بسيطة بسفرة قصيرة بعد نهاية العام الدراسي، لكن الوضع المعيشي لا يرحم".
ثم يتنهد علي قليلًا ويضيف بنبرة حادة: "أكثر ما يدفعني للتفكير بشراء سيارة، ليس فقط عناء الطريق، بل الإزعاج اليومي من الأحاديث التي تُقال داخل الباص.. السياسة، الأحزاب، الجدل، الصراخ، كلها تُشعرني بالضيق".
ويشير إلى أن النقاشات المتكررة، خاصة السياسية منها، باتت عبئًا يوميًا: "ما إن يفتح أحدهم موضوع الانتخابات أو يتحدث عن زعيم سياسي، حتى يتحول الباص إلى ساحة مصغّرة لمعركة كلامية. الجميع يدّعي المعرفة، ولا أحد يقبل برأي الآخر. في النهاية، يُصيبني صداع، وأتمنى فقط أن أصل إلى العمل بسلام".
ملتقيات شعبية يومية
لكن هذه الرؤية لا تُجمع عليها كل الأصوات. فـ"إبراهيم جبار"، وهو شاب يعمل في أحد الأسواق الشعبية، يرى في الباصات ما يشبه "الملتقيات الشعبية اليومية". ويقول مبتسمًا: "في الباصات تجد الناس على حقيقتهم. هناك طرافة وعفوية، وهناك ذكاء شعبي فطري. يناقشون السياسة والدين وحتى العلاقات الاجتماعية بسخرية لاذعة وروح مرحة، وأحيانًا تأتي نكتة واحدة كفيلة بقلب أجواء التوتر إلى ضحكٍ جماعي".
يؤمن إبراهيم أن هذه النقاشات، مهما بلغت حدتها، تُعبّر عن وعي جمعي حقيقي: "كثير من الركاب لا تظن أنهم يملكون هذا العمق، لكنك حين تنصت لكلماتهم، تكتشف أنهم يعرفون جيدًا ما يجري، وأنهم يعبّرون بطريقتهم الخاصة عن أوجاعهم وآمالهم".
أما "عباس حمد"، وهو مهندس في شركة خاصة، فيبدو بعيدًا عن هذا المزاج تمامًا، فهو يتعامل مع الأحاديث داخل الباص بنوع من التجاهل الهادئ. يقول: "أنا شخص أميل إلى الصمت، ولا أتحمل الجدل العقيم. أستغل وقتي في الحافلة لقراءة كتاب، أو الاستماع إلى بودكاست، وأحاول قدر الإمكان ألا أندمج فيما يُقال. كثير من النقاشات في رأيي سطحية، لا تضيف معرفة ولا تُغير واقعًا".
موضع النساء من كل ذلك
لا تخلو الحافلات من لحظات توتر تتجاوز الجدل الكلامي. "الحاج جواد"، أحد الركاب المنتظمين، يروي حادثة صادمة: "ذات صباح، بدأ أحد الركاب يهاجم مسؤولًا حكوميًا بطريقة لاذعة، فرد عليه آخر بغضب، واحتدم النقاش حتى تطور إلى شتائم ثم إلى عراك بالأيدي. اضطر السائق إلى التوقف وإنزالهما. كانت لحظة محرجة للجميع، لكنها للأسف ليست نادرة".
أما النساء، فلهن طابع مختلف تمامًا في تعاطيهن مع هذه الأجواء. تقول "أم فارس"، وهي ربة منزل، إنهن يبتعدن غالبًا عن الأحاديث السياسية التي تتسم بالحدة: "نحن نتحدث عن همومنا اليومية: انقطاع الكهرباء، غلاء الأسعار، زواج الأبناء، ومشاكل البيوت. نحاول قدر الإمكان الحفاظ على خصوصيتنا، فلا نتحدث بصوتٍ عالٍ. أما الفتيات الصغيرات، فاهتماماتهن تتجه للموضة وقصص الحب، وغالبًا ما يدور حديثهن همسًا".
في المقابل، يعبّر "أحمد هادي"، وهو شاب جامعي، عن طغيان الجانب الرياضي في نقاشات الشباب، خاصة بين محبي كرة القدم: "أحاديث دوري الأبطال، ريال مدريد ضد برشلونة، أو مقارنة بين رونالدو وميسي، كل هذه المواضيع تُشعل الحماس داخل الباص. أحيانًا تصل إلى مشادات كلامية، لكنها غالبًا تنتهي بالضحك والمصافحة".
برلمان متنقل
ويتحدث "قاسم أحمد"، سائق إحدى باصات النقل الداخلي، عن يومياته داخل "برلمانه المتنقل"، كما يُسميه. يقول: "كل يوم موضوع جديد، وكل يوم ركّاب مختلفون. أسمع أحاديث عن كل شيء: الدين، السياسة، الأسعار، العلاقات... كأنني أستمع إلى بودكاست شعبي متجدد. بعض النقاشات تخرج عن السيطرة، وأضطر إلى رفع صوت المسجّل أو التوقف لأعيد الهدوء".
ويضيف: "الرجال أكثر من يشاركون في الجدل، بينما النساء إما صامتات أو يتحدثن في ما بينهن بهدوء. أما الأطفال، فيراقبون، ويبدو أنهم يتعلمون كيف يتعاملون مع هذا المجتمع الصغير المتحرك".
من جانبه، يرى الطبيب النفسي والباحث الاجتماعي، الدكتور رعد شاكر في حديث له تابعته شبكة انفوبلس، أن هذه الظاهرة تمثل انعكاسًا مباشرًا لحالة القلق الاجتماعي التي تعيشها الطبقة الوسطى والمحدودة الدخل في العراق.
ويقول شاكر: "الباصات أصبحت اليوم فضاءً تعبيريًا بديلًا عن المساحات العامة المفقودة. فالناس يعانون من غياب المنتديات أو الحدائق أو النوادي التي تتيح لهم النقاش الحر، لذلك تحوّلت الحافلة إلى منبر يومي للفضفضة والاحتكاك والتنفيس".
نقاشات ليست عبثية
ويضيف: "النقاشات في الباص ليست عبثية كما يتصور البعض، بل هي مؤشرات على وعي اجتماعي مكتوم، ومحاولة للمواطن البسيط ليُعبّر عن غضبه أو قلقه أو حتى آماله. هذه الأحاديث تحمل في طيّاتها تقييمًا حقيقيًا للواقع من وجهة نظر الشارع. إنها تعكس حجم الألم، وخيبة الأمل، والرغبة المكبوتة في التغيير".
وبين مشهد الركاب المزدحمين وأحاديثهم الصاخبة، يبقى الباص أكثر من مجرد وسيلة نقل. إنه صورة مصغّرة للمجتمع العراقي، بكل تناقضاته وهمومه، وانفعالاته وأحلامه المؤجلة. فكل رحلة، مهما قصرت، تُعيد إنتاج مشهد البلاد: صوتٌ مرتفع، حوار متشابك، اختلافٌ صارخ... لكن في النهاية، يصل الجميع إلى وجهتهم، كلٌ يعود إلى يومه، وربما إلى باصٍ آخر، في رحلة لا تنتهي.