بين الطقوس والضمير الإنساني.. الإمام الحسين (ع) رمز للوحدة العابرة للمذاهب والأديان

انفوبلس..
حين يدخل شهرُ محرم على الأمة الإسلامية، لا يدخل كغيره من الشهور، بل يطرقُ الأبواب كأنّه نداءٌ عتيق يتجاوز القرون، يحمل في طياته صرخةً لا تزال تتردد منذ واقعة كربلاء: "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة".
وليوم عاشوراء أهمية بالغة لدى المسلمين بمختلف طوائفهم، وتختلف مظاهر إحيائه بين طائفة وأخرى، فهناك من يتخذه يوماً مباركاً للصيام به، أو لإقامة المجالس الحسينية ومراسم العزاء، لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين "عليه السلام"، إلا أنه يجمع المسلمين والديانات الأخرى، وهذا يعكس تنوعاً دينياً وتاريخياً.
يقول المتحدث باسم الوقف السني الدكتور عبد الله النعيمي، "رغم اختلاف مظاهر الإحياء، فإن جميع المسلمين يتفقون على تعظيم هذا اليوم والتأمل في دروسه، سواء في الثبات على الحق، أو في الشكر لله، أو في استذكار المواقف النبيلة والعظيمة من التاريخ الإسلامي".
ثورة المبادئ
ويبين إنه "من المهم التأكيد على أن هذه الاختلافات لا تعني تناقضاً في الإيمان، بل هي تعبيرٌ عن تنوعٍ ثقافي وتاريخي داخل الأمة الواحدة، وإن احترام هذا التنوع، وتعميق الفهم المتبادل، من شأنه أن يعزز وحدتنا كمسلمين، ويقودنا إلى التمسك بالمشتركات الكثيرة التي تجمعنا، وأهمها الإيمان بالله ورسوله، والحرص على قيم العدل، والرحمة، والوحدة".
ويؤكد النعيمي أن قضية استشهاد الإمام الحسين بن علي "عليه السلام" حدثٌ محوريٌّ في التاريخ الإسلامي، ويستخلص المسلمون جميعًا، بإختلاف مذاهبهم، العديد من الدروس والعبر التي تتجاوز الحدود المذهبية، لتصل إلى جوهر القيم الإسلامية المشتركة، فتُعدّ رمزًا للثبات على المبادئ، ورفض الظلم، والتضحية في سبيل الحق، وإن فيها تجسيدًا للوقوف في وجه الظلم، حتى وإن كان الثمن النفس والروح.
مشيراً إلى أن في قضية الإمام الحسين “عليه السلام” الآراء تتفق منذ قرابة 14 قرناً من الزمن على أن ما جرى للإمام الحسين "عليه السلام" وأهل بيته هو مأساة عظيمة، وأنه كان من خيرة أهل بيت النبي وصحابته، وسيداً من سادات أهل الجنة، وتُستخلص من قضيته دروس في الصبر، والإخلاص، والابتعاد عن الفتن، والدعوة إلى إصلاح الأمة، بما ينسجم مع منهج النبي محمد ﷺ.
قيمٌ مشتركة
يرى بعض المفكرين المسيحيين في قضية الإمام الحسين "عليه السلام"، أوجه تشابه رمزية مع معاناة السيد المسيح على الصليب، فكلاهما يُعتبران رمزًا للمعاناة الإنسانية والتضحية من أجل مبادئ عليا، إذ يُقارن بعض اللاهوتيين بين فكرة "الشهادة" في كربلاء، وبين فكرة "الفداء" في المسيحية، رغم الاختلافات العقائدية الجوهرية.
وفي هذا السياق أشار موشي بولص أن "في تضحيات الإمام الحسين والسيد المسيح (عليهما السلام)، قيمًا مشتركة تجمع رسالتيهما الرحمة والعدالة والإنسانية، إضافة إلى معاناتيهما وما تحملانه من أجل هذه المبادئ، وجعلهما رمزين خالدين يلهمان البشرية، بغض النظر عن الديانة، ويضيئان الطريق أمام النفوس التواقة إلى الحق والخير".
مبيناً أن "ثورة الإمام الحسين في كربلاء تُظهر مقاومة الظلم حتى في مواجهة الموت، وهذا يتماشى مع تعاليم المسيحية، التي تدعو إلى الصبر والثبات في وجه الاضطهاد".
رسالة خالدة
بدورها تقوم الديانة المندائية الصابئية بإحياء ذكرى عاشوراء، من خلال المشاركة في مواكب العزاء وإحياء المآتم، من باب التعايش السلمي والتضامن الإنساني مع المسلمين، ويعتبرون ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تجسيداً لقيم إنسانية نبيلة مثل الحرية ورفض الظلم، بحسب شيماء لؤي، وأضافت:"نشارك في إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، من خلال المواكب الحسينية التي تقام، وأيضاً التوجه إلى كربلاء المقدسة لزيارته".
ونوهت لؤي بأن " ثورة الإمام الحسين تركت أثراً كبيراً في التاريخ، وهي تحمل رسالة إنسانية خالدة".
مدرسة حياة
الشيخ فراس الكناني لفت إلى أنه ينبغي استلهام القيم والمبادئ التي حملتها القضية الحسينية، وتطبيقها في حياتنا، لا سيما أن ثورة الإمام الحسين كانت دفاعاً عن العدالة ورفضاً للظلم والطغيان، ومساعدة المحتاجين أو الدفاع عن حقوق المظلومين، وتعلم التضحية من أجل الآخرين، سواء بالوقت والمال أو الجهد من خلال التطوع في الأعمال الخيرية أو مساعدة الفقراء، إضافة إلى التحلي بالصبر أثناء الأزمات، والعمل على حل المشكلات بهدوء وحكمة.
وأكد الكناني أن "القضية الحسينية جمعت الناس حول هدف مشترك، ويمكننا تعزيز الوحدة في مجتمعاتنا عن طريق العمل الجماعي لخدمة الصالح العام، وتبني نهج إصلاحي مستوحى من موقف الحسين، خاصة أن قضيته ليست مجرد حدث تاريخي، بل مدرسة حياة تحث على الإصلاح والتغيير الإيجابي".
فكر يتخطى حدود المذهب
ليست ذكرى الإمام الحسين، عليه السلام، طقسًا مذهبيًا حصرًا، ولا مناسبة حزناً شيعياً فقط، بل هي قضية إنسانية كبرى تهتف في ضمير كل حرّ، مهما كانت هويته الدينية أو انتماؤه العقائدي. فواقعة عاشوراء، بكل ما فيها من مظلومية وتضحية، أصبحت تراثًا مشتركًا بين المسلمين، بل وامتدت لتلهم أتباع ديانات أخرى في رؤية الحسين رمزًا للعدل والكرامة والحرية.
وحدة الشعور رغم اختلاف الطقوس
يتعامل المسلمون مع يوم عاشوراء بطرق متباينة، فبين من يصومه شكراً لله، ومن يُحييه بالعزاء والمجالس، ومن ينظر إليه كذكرى خلاصٍ من الطغيان، تتعدد المظاهر ويبقى الشعور واحداً. لا أحد من المسلمين يشكك في مكانة الحسين، حفيد النبي، سيد شباب أهل الجنة، وسليل بيت النبوة.
الدكتور عبد الله النعيمي، المتحدث باسم ديوان الوقف السني، عبّر عن هذه الحقيقة حين قال إن جميع المسلمين، بمذاهبهم، "يتفقون على تعظيم هذا اليوم والتأمل في دروسه"، مؤكداً أن الخلاف في الطقوس لا يجب أن يُفسر كتناقض إيماني، بل هو تنوّع ثقافي داخل الجسد الإسلامي الواحد. وأضاف أن استشهاد الحسين ليس حدثاً يخص طائفة دون أخرى، بل هو جرحٌ إسلاميّ مفتوح، وتجسيدٌ لمبادئ الحق والعدل التي يؤمن بها جميع المسلمون.
الحسين.. ثورةٌ للضمير
المأساة التي وقعت في كربلاء لم تكن مجرد صراع على الحكم، بل كانت مفترق طريق بين قيم الطغيان ومبادئ الثورة الأخلاقية. الحسين لم يُقدّم نفسه كطالب سلطة، بل كداعية إصلاح خرج ليعيد الأمة إلى خط النبوة بعد أن حادت.
ولهذا السبب، تتجلى في ثورته القيم الكُبرى التي لا تعرف حدود الطوائف. فكما يرى النعيمي، فإن ما جرى للإمام الحسين "عليه السلام" يُلهم المسلمين جميعًا بالثبات على المبادئ، ورفض الذل، وتقديم النفس فداءً للحق. لقد بات الحسين رمزًا خالدًا في الوجدان الإسلامي، ليس لقرابته من النبي فحسب، بل لأنه اختار أن يُقتل مظلوماً على أن يبايع الظالم.
الحسين في وجدان غير المسلمين
في مفارقة مدهشة، نجد أن القضية الحسينية قد تجاوزت حتى حدود الإسلام، لتجد صدى لها في ضمير أتباع ديانات أخرى. بعض اللاهوتيين المسيحيين شبّهوا استشهاد الحسين بصلب المسيح عليه السلام، من حيث الرمزيات الإنسانية العميقة: كلاهما رفض الظلم، وتحمّل الآلام من أجل الحقيقة، وواجه الجلاد بصبرٍ وجَلَد.
المفكر المسيحي موشي بولص أشار بوضوح إلى هذا التقاطع القيمي، قائلاً إن "تضحيات الإمام الحسين والسيد المسيح (عليهما السلام) تُلهم البشرية على اختلاف أديانها، لما تحمله من معاني الرحمة والفداء والثبات على المبادئ".
كما أن الديانة المندائية، وهي من أقدم الديانات التوحيدية في العراق، تنخرط في مواكب العزاء الحسيني، كما أشارت شيماء لؤي، التي أوضحت أن مشاركتهم "تأتي من باب التعايش الإنساني، وإدراك عُمق القيم التي جسّدها الإمام الحسين، كالحرية والكرامة ورفض الظلم".
مدرسةُ إصلاح متجددة
القضية الحسينية لا تقتصر على البكاء على الماضي، بل تُحفّزنا على الإصلاح في الحاضر. الشيخ فراس الكناني يصف الحسين بأنه مدرسةٌ حياتية متكاملة، تُعلّمنا كيف نكون صوتًا للمظلوم، ودرعًا للضعيف، ورافعة للمجتمع. فالإمام الذي خرج في كربلاء، خرج ليس من أجل نفسه، بل من أجل أمةٍ تتجه نحو الانحدار، ليعيدها إلى خط النور، ولو على حساب دمه وأهل بيته.
والدرس الأهم، كما يشير الكناني، أن الحسين استطاع أن يُجمّع الناس حول قضية عادلة، وهذا بالضبط ما نحتاجه اليوم في عالم يتنازع فيه الأفراد والجماعات على مصالحهم الضيقة. إننا مدعوون لاستلهام نهج الحسين في بناء المجتمعات، والارتقاء بالأمة، لا التوقف عند مظاهر الطقوس.
الحسين للجميع
ليس من المبالغة أن نقول: الحسين لم يكن شيعياً، ولا حتى طائفياً، بل كان إنساناً لكل المظلومين، وصوتًا لكل الصادقين. ولذا فإن عاشوراء ليست ذكرى حزنٍ لطائفة، بل هي مناسبة إنسانية تنتمي إلى كل من يؤمن بالحق، ويرفض الباطل.
وإذا كان الدم الذي سُفك في كربلاء قبل 14 قرناً قد روى شجرة الحق، فإن ثمارها لا تزال تُنبت وعياً وإصلاحاً في كل جيل. فالحسين، عليه السلام، ليس رجل ماضٍ نُرثيه كل عام، بل ضمير حيّ، يُذكرنا أن الصمت على الظلم خيانة، وأن الوقوف مع الحق شرف، حتى وإن كلفنا الحياة.