من أرشيف 1974 إلى خرائط 2025.. إشارات الجنوب العراقي تكشف عن كنوز مخفية

انفوبلس/..
في أعماق صحراء الجنوب العراقي، حيث تمتد الرمال الصامتة على مدّ البصر وتخفي تحتها طبقات من التاريخ الجيولوجي العريق، كانت هناك إشارات خافتة تنبعث من الصخور، لا تُرى بالعين المجردة، ولا تُسمع إلا بأدوات العلم الدقيقة. إشارات صامتة كُتبت بلغة الذرات، بلُغة الإشعاع الطبيعي، تنتظر من يُعيد قراءتها ويكشف أسرارها.
وبعد أكثر من نصف قرن على تنفيذ أول مسح جوي إشعاعي في العراق، حلّقت خلاله طائرات “الشركة العامة للجيوفيزياء” الفرنسية فوق صحراء الجنوب في عام 1974، يعود فريق بحثي عراقي بقيادة الدكتور عماد الخرسان من جامعة البصرة للنفط والغاز، ليُعيد إحياء تلك البيانات التاريخية التي طالما ظلت طيّ النسيان، ويوظفها ضمن دراسة علمية دقيقة نُشرت مؤخرًا في دورية علمية مرموقة.
استند الفريق البحثي إلى بيانات أجهزة مطياف أشعة غاما المحمولة جواً، والتي كانت قد رصدت مستويات الإشعاع الصادرة عن عناصر مثل اليورانيوم والثوريوم والبوتاسيوم، ليبدأ رحلة تحليل عميقة باستخدام أدوات علمية حديثة، من أبرزها “تحليل التوجهات السطحية”، وهي تقنية رياضية متقدمة تُستخدم للكشف عن الأنماط الجغرافية لتوزيع الإشعاع.
وما بين الماضي والحاضر، رسم الباحثون خريطة جديدة للإشعاع الطبيعي في صحراء العراق الجنوبية، حددوا من خلالها مناطق الشذوذ الإشعاعي وربطوها بتفسيرات جيولوجية دقيقة، ما يفتح الباب أمام فرص استكشاف معادن نادرة، أو استخدام تلك المعطيات لأغراض بيئية وصناعية وحتى طبية.
*همسات إشعاعية
تطلق الذرات في تكوينات الصخور المختلفة بباطن الأرض، والتي تحتوي على عناصر مشعة طبيعية، همسات إشعاعية، وقد سعى فريق بحثي عراقي إلى الاستماع لها وتحويلها إلى لغة مفهومة ذات بُعد بيئي واقتصادي، وذلك باستدعاء بيانات تاريخية تعود لعقود من الزمن.
ويقول الدكتور عبد العزيز محمد عبد العزيز أستاذ هندسة الاستكشاف وتقييم الطبقات في كلية الهندسة جامعة القاهرة، وهو لم يشارك بهذه الدراسة، إن البيانات التي تقدمها مثل هذه المسوح الجوية لا تتغير على فترات متقاربة، لذلك فإن تحليل ما تم رصده عام 1974 سيكون معبراً بشكل كبير عن الوضع الحالي.
وأوضح الدكتور عبد العزيز، أن الفريق البحثي أضاف قيمة للبيانات التي جمعتها الشركة الفرنسية، إذ درس كيفية ارتباط الإشعاع الموجود في الصخور والتربة بالتركيبة الجيولوجية للمنطقة.
*كيف وظّف العراقيون بيانات عام 1974؟
ورصدت طائرات الشركة المزودة بأجهزة مطياف أشعة غاما مستويات الإشعاع من اليورانيوم والثوريوم والبوتاسيوم المُشع، وتم تسجيل مجموع الإشعاع الكلي.
وباستخدام طريقة حسابية تسمى "تحليل التوجهات السطحية" استطاع الفريق البحثي تحديد المناطق التي تحتوي على إشعاع غير طبيعي قد يشير إلى وجود معادن معينة أو تكوينات جيولوجية مهمة، وهذا التفسير الإضافي ساعدهم في تقديم صورة أوضح عن العلاقة بين الإشعاع والخصائص الجيولوجية للمنطقة، وبالتالي توجيه الأبحاث المستقبلية أو استكشاف الموارد الطبيعية.
و"تحليل التوجهات السطحية"، طريقة رياضية تساعد العلماء في فهم كيفية توزيع شيء معين مثل الإشعاع، في مناطق معينة على سطح الأرض.
وباستخدام هذه الطريقة، يتم جمع البيانات من عدة نقاط مختلفة، ثم يحاول العلماء اكتشاف الأنماط في هذه البيانات، مثل وجود زيادة أو نقصان في الإشعاع بمناطق معينة، وهذه الطريقة تساعدهم في تحديد الاتجاهات العامة للإشعاع، مما يعني أنهم يمكنهم التنبؤ بمستوياته في أماكن لم يقيسوها بعد.
*مواقع الشذوذ الإشعاعي
وكان من أبرز ما توصل له الباحثون في دراستهم تحديد 6 مواقع تحتوي على شذوذ إشعاعي، أي إنها ذات إشعاع غير طبيعي، وتم ربط هذا بأسباب جيولوجية وتكتونية، بما في ذلك وجود التشققات والمعادن المشعة النادرة مثل اليورانيوم الذي ينتقل عبر المياه الجوفية.
ويقول عبد العزيز، إن هذه النتائج توفر فرصا لتحديد مناطق غنية بالمعادن النادرة أو مناطق تجب مراقبتها بشكل أكبر بسبب مستويات الإشعاع المرتفعة فيها.
وعادةً ما تتراوح مستويات الإشعاع الطبيعي بين 850 و1160 نبضة في الثانية، وسجلت المناطق الست مستويات أعلى، في حين كانت المستويات طبيعية في باقي المناطق والتكوينات الجيولوجية التي شملتها الدراسة.
ويشرح عبد العزيز كيفية حساب هذه النبضات، موضحا أنه "عندما تُصدر المواد المشعة (مثل اليورانيوم أو الثوريوم) أشعة غاما فإنها تُلتقط بواسطة أجهزة القياس التي تحول الإشعاع إلى نبضات كهربائية، ويحسب عدد النبضات التي تم تسجيلها في الثانية".
ويوضح، أنه توجد طريقتان للقياس، إحداهما تعرف بـ "عداد غايغر" وهي الطريقة الأقدم، بينما الطريقة الأحدث والأشهر هي" العداد الوميضي".
وفي الطريقة الأقدم يحتوي "عداد غايغر" على قطبين كهربائيين سالب وموجب بينهما غاز خامل، وعندما تمر أشعة غاما عبر الغاز الخامل فإنها تؤين هذا الغاز، وتجعله قادرا على التوصيل الكهربائي بين القطبين الذي يتم التعبير عنه على هيئة نبضة كهربائية، وكلما كانت الأشعة كبيرة كان التأين كبيرا والتوصيل الكهربائي مرتفعا، ومن ثم يكون هناك عدد كبير من النبضات.
أما الطريقة الأحدث فهي جهاز "العداد الوميضي" وهو عبارة عن بلورة من مادة "يوديد الصوديوم" التي تصدر ومضات ضوئية عندما تسقط عليها أشعة غاما، وعبر حساب عدد هذه الومضات يمكن تقدير مستويات الإشعاع.
وفي سياق الدراسات الجيوفيزيائية، يتم استخدام هذه الأجهزة لقياس الإشعاع الطبيعي بالصخور والتربة، فكلما زاد عدد النبضات والومضات كان النشاط الإشعاعي أكبر، وهذا يمكن أن يكون مؤشرا على وجود معادن مشعة مثل اليورانيوم أو الثوريوم.
*تطبيقات مستقبلية
وبذلك، فإن نتائج هذه الدراسة قد تكون لها قيمة تطبيقية في المستقبل، ويقول عبد العزيز، إن "الفهم العميق للإشعاع الطبيعي بمنطقة العراق الجنوبية يمكن أن يساهم في دراسات بيئية وجيولوجية أوسع، كما يفيد في مجالات البحث عن المعادن المشعة، بالإضافة إلى دراسات الطاقة النووية وتحديد مواقع الأماكن الجغرافية المناسبة للاستخدامات الصناعية".
وبالإضافة إلى ذلك، يوضح الدكتور عبد العزيز، إن "هذه النتائج يمكن أن تكون مفيدة في تحليل التغيرات البيئية من خلال مراقبة مستويات الإشعاع الطبيعي وتأثيراتها على الصحة العامة والنباتات والحيوانات في تلك المناطق".
هذه الدراسة لا تعيد فقط الاعتبار إلى بيانات مهملة منذ أكثر من خمسين عامًا، بل تمثل نموذجًا علميًا ملهمًا عن كيف يمكن للتاريخ العلمي أن ينهض من الأرشيف ليرسم مستقبلًا واعدًا، إذا ما توفرت له العقول القادرة على فك شيفراته بلُغة العلم والمنهجية.