بالتزامن مع الجدل حول تمثاله.. نظرة معاصرة لشخصية أبو جعفر المنصور.. تعرف على سيرة صاحب تكتيك الاغتيالات الدموية وقاتل أبو حنيفة النعمان.
بالتزامن مع الجدل حول تمثاله
نظرة معاصرة لشخصية أبو جعفر المنصور.. صاحب تكتيك الاغتيالات الدموية وقاتل أبو حنيفة النعمان.. تعرف على سيرته من وجهة نظر مغايرة
انفوبلس/..
يشهد العراق في الأيام الحالية جدلاً شعبياً حول تمثال "الخليفة العباسي" الثاني أبو جعفر المنصور، التمثال البرونزي الذي تمت صناعته في سبعينيات القرن العشرين من قبل النحات خالد الرحال، قبل أن يتم تفجيره عام 2004، عقب الغزو الأميركي للعراق، فلم يبقَ منه إلا الرأس.
ومؤخراً، نُصب رأس التمثال في منطقة المنصور الواقعة في جانب الكرخ من العاصمة بغداد، أحد الأحياء التاريخية في العاصمة، فثار جدل واسع حول هذه الخطوة، وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجات غاضبة من جانب جماهير من المذهب الشيعي الذين دعوا إلى إزالته، لكونه بحسب المصادر المعتمدة لم يكن إلا سفّاحاً، غاصباً للسلطة، كما أنه المسؤول الأول عن قتل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).
وفي المقابل، يحظى أبو جعفر المنصور بمكانة مهمة في العقل السنّي الجمعي، بسبب جهوده في العمل على تثبيت دعائم الدولة العباسية من جهة، والقضاء على الكثير من الثورات التي اندلعت في عهده من جهة أخرى.
وفي كتابه "سير أعلام النبلاء"، عبّر شمس الدين الذهبي عن رأي أهل السنّة في المنصور، فقال عنه: "أباد جماعة كباراً حتى توطد له الملك، ودانت له الأمم على ظلم فيه وقوة نفس، ولكنه يرجع إلى صحة إسلام وتدين في الجملة، وتصون وصلاة وخير، مع فصاحة وبلاغة وجلالة...".
رغم ذلك، كانت سيرة المنصور ومواقفه مع علماء أهل السنّة والجماعة في عصره بالمصادمات العنيفة، في وقت تؤكد فيه المصادر على صداقة المنصور للعالم المعتزلي عمرو بن عبيد.
تكتيك الاغتيالات الدموية
بعد وفاة أبي العباس السفاح، تسلم الخلافة أخوه أبو جعفر المنصور، وكان أول عمل قام به توجيه حملة عسكرية بقيادة أبي مسلم الخرساني للقضاء على عمه عبد الله بن علي، الذي كان له الفضل الأول في إسقاط الدولة الأموية، بانتصاره على آخر الخلفاء الأمويين في معركة الزاب الكبير.
إلا أنه بعد وفاة السفاح أراد الخلافة لنفسه، وكان أبو جعفر المنصور، يريد التخلص من أبي مسلم الخراساني وقتله، فأمره بالسير نحو عمه عبد الله بن علي للقضاء عليه ولم يكن أسر على قلب الخليفة من أن يرسل عدوه المستتر إلى عدوه المعلن فهو على كل حال سيتخلص من أحدهما وسيضعف الآخر.
فاصطدم الجيشان في منطقة نصيبين اصطداماً دموياً اندحر على إثره جيش عبد الله بن علي، وهرب إلى أخيه سليمان بن علي والي البصرة الذي قام بتسليمه إلى أبي جعفر المنصور بعد أن أخذ له الأمان، فسجنه المنصور مدة سبع سنوات ثم نقله بعد ذلك إلى بيت كان أساسه من ملح فأجرى المساء تحت أساساته فسقط عليه ومات.
وبقيت العلاقة بين المنصور وأبي مسلم أشبه ما تكون بالهدنة القلقة وأصبحت الشكوك تتعاظم عند الرجلين تجاه بعضهما البعض، وكان أبو مسلم الخراساني شديد الريبة والحذر مما استوجب من المنصور أن يستخدم كل ما عرف عنه من دهاء ومكر وحيلة لتصفية الخراساني فأرسل له بضعة رسائل يُطمئنه فيها ثم دعاه أخيراً للقدوم إليه في المدائن ولما جاءه إلى مقره نفذ الخطة التي أعدّها مسبقا مع رجاله وحرسه داخل القصر فبعد أن احتدم الجدال العنيف الذي أداره المنصور عنوةً وافتعالا، أمر الجند فهجموا على أبي مسلم الخراساني وهو في حضرة المنصور فقتلوه شر قتلة إذ قطعوه بسيوفهم بينما كان حرس الخراساني ومرافقوه قد استدرجوه بعيدا وأخذوه بالحيلة إلى مكان آخر بعيدا عن مقر المنصور.
وهذه الحادثة هي إحدى المحطات الهامة في تاريخ العباسيين فقد تخلصوا ولو بأسلوب الغدر والخيانة من أقوى الأتباع الذين ربما شكلوا خطراً على مُلكهم في يوم من الأيام. وفي عهد المنصور.
وأعلن أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، الثورة ضد العباسيين في كل من مكة والبصرة في وقت واحد، وهما الأخويان محمد بن عبد الله ذو النفس الزكية الذي أعلن الثورة في مكة، وإبراهيم بن عبد الله الذي أعلن الثورة في البصرة فقضى المنصور عليهما وقتلهما.
وقد أعلن الشاعر سديف بن ميمون الذي كان مقرباً من الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح، تأييده ثورة محمد ذو النفس الزكية في مكة فلما سُحقت الثورة كتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن يدفنه حياً، وقيل قد ألقاه في بئر وردم البئر فوقه.
وفي عهد المنصور قتل الشاعر المعروف أبو نخيلة، الذي نظم أبياتاً من الشعر يؤيد فيها المنصور بتعيين ابنه المهدي ولياً للعهد بدلاً من عيسى بن موسى ولي العهد القوي، وكان من نتيجة ذلك أن عيسى بن موسى قرر قتل الشاعر أبي نخيلة فهرب منه إلى إيران، فأرسل وراءه أحد رجاله يتعقبه، واستطاع أن يمسك به في الطريق ويذبحه ويسلخ جلده، وفي رواية أخرى أنه سلخ وجهه وألقى جسمه إلى النسور وأقسم ألا يترك المكان حتى تمزق السباع والطيور لحمه فما قام حتى لم يبقَ منه إلا عظامه.
وفي عهد المنصور قتل الشاعر المعروف حماد عجرد، بعد أن أقحمه جعفر بن الخليفة المنصور في خلافات عائلية كانت ناشبة بين أولاد الخلفاء والأمراء فاضطر للهروب إلى الأهواز ليعيش متخفياً هناك فأرسلوا من تبعه في الأهواز وقتله.
معاناة العلماء والفقهاء
كذلك لا بد لنا من الإشارة إلى معاناة بعض العلماء والفقهاء في عهد المنصور ممن لم يتعاونوا أو يخضعوا لولايته مثل أنس بن مالك إمام المذهب المالكي الذي أُهين بالجلد والحبس بعد أن أفتى بجواز الخروج على بيعة المنصور، وعندما قيل له إن في أعناقنا بيعة للمنصور قال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين.
أما أبو حنيفة النعمان، فقد مات في السجن ببغداد بعد أن طلب منه الخليفة المنصور أن يستلم القضاء فرفض، وكان قد تعرض قبل ذلك إلى الإهانة والضرب بالسياط على يد يزيد بن هبيرة الغزاري حاكم العراق في أيام مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، حيث ضربه ابن هبيرة في العراق مئة سوط في كل يوم عشرة أسواط لأنه رفض أن يستلم القضاء، وهكذا نرى أن هذا الإمام والمفكر الكبير تعرض للأذى والعنف والاضطهاد والعذاب على يد حاكمَين من حكام العراق أحدهما في العهد الأموي والآخر في العهد العباسي.
علينا ألا نطمس تلك الأعمال المخجلة والمخزية بل علينا أن نقول لأنفسنا ولأجيالنا: هكذا كانت معاناة الضحايا خلال حكم المنصور المليء بالعنف والقسوة لعلنا نزرع في نفوس أبنائنا وأجيالنا النفور والاشمئزاز والإدانة لأساليب البطش والعنف والظلم والقسوة وسفك الدماء ونعلمهم الرحمة والمعروف والابتعاد عن ممارسة الاستبداد والتعسف والطغيان.
كما ولعلنا نطهر أنفسنا جميعا من التباهي الأجوف بالقوة والعنف والعنجهية والاستخدام الظالم لسيف السلطة القهرية، كذلك لا بد وأن نشير بأحرف بارزة إلى مقتل الكاتب الكبير عبد الله بن المقفع الذي قتله المنصور في البصرة حيث أمر والي البصرة سفيان بن المهلب بقتله، ويعود السبب في ذلك الى أن المنصور قد طلب من عبد الله بن المقفع أن يكتب رسالة يعطي فيها أماناً كاذباً لعمه عبد الله بن علي الذي طالب بالخلافة بعد موت السفاح على أن لا يلزم المنصور نفسه في الرسالة بعهود ومواثيق ثقيلة فكان أن صاغ ابن المقفع الرسالة وفيها كثير من العهود والمواثيق على لسان المنصور فأغضبه ذلك وأمر والي البصرة بقتله، وكان سفيان بن المهلب والي البصرة يكره ابن المقفع كرها شديدا فانتهز فرصة قدومه إليه ذات مرة وأمر بتنور فملأ وقودا حتى إذا حميت ناره أخذ يقطعه جزءاً جزءاً ويرمي بكل جزء في التنور حتى أتى عليه لقد قطّعه الوالي قطعاً ورماه في تنور ملتهب مليء بالحطب.
وهكذا انتهى الكاتب المعروف ابن المقفع صاحب كتاب (الأدب الكبير والأدب الصغير) و(كتاب كليلة ودمنة)، فكيف يحق لنا أن نفخر بهذا الكاتب العبقري دون أن نشير ولو بجملة قصيرة إلى معاناته الدموية وعذابه وموته المأساوي، على يد ذلك الحاكم السياسي، فلعل في ذلك موعظة ودرسا وعبرة للجميع من أجل نبذ العنف والاستبداد وسفك الدماء وقتل النفوس البريئة.
أبو حنيفة من ضحايا ظلم المنصور
على سبيل المثال، تؤكد المصادر التاريخية أن أبا حنيفة النعمان، كَرِه حكم المنصور، وأيّد الثورات العلوية التي اشتعلت ضده في الحجاز والعراق، إذ يذكر ابن عنبة، في كتابه "عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب"، أن أبا حنيفة ساند ثورة محمد النفس الزكية بالمال، ولما قُتل، أرسل برسالة تأييد إلى أخيه إبراهيم بن عبد الله، قال فيها: "إني جهزت إليك أربعة آلاف درهم، ولم يكن عندي غيرها، ولولا أمانات للناس عندي للحقت بك".
وذكر محمد أبو زهرة ذكر في كتابه "أبو حنيفة: حياته وعصره وآراؤه الفقهية"، خبر معارضة "الإمام الأعظم" لما قام به المنصور من سفك دماء أهل الموصل لما خرجوا عليه ونقضوا بيعتهم، ومما يؤكد على العداء المستحكم بين الرجلين أن المنصور لما دعا أبا حنيفة لولاية القضاء في الأيام الأخيرة من حياته، رفض الفقيه العراقي وأصر على رفضه رغم إلحاح الخليفة، الأمر الذي عرّضه للحبس والضرب والإهانة.
وفي السجن المظلم، عانى أبو حنيفة النعمان، من التضييق والتشديد وأيضًا من التهديد بالقتل يومًا بعد يوم، وقد أمر المنصور بالتشديد عليه وكان حينها على مشارف السبعين من عمره، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره، لكن جسده لم يصمد كثيرًا، فتوفي في سجنه، وقد قيل إن المنصور قد دسَّ عليه من وضع له السم في السجن.