استقالات قضاة المحكمة الاتحادية تهزّ النظام الدستوري وتفتح الباب لإعادة تمرير اتفاقية خور عبدالله

انفوبلس/..
في مشهد غير مسبوق هزّ الوسط القضائي والسياسي في العراق، أُعلنت استقالة رئيس وأعضاء من المحكمة الاتحادية العليا، في توقيتٍ بالغ الحساسية، وعلى خلفية ملف سيادي شائك، هو بطلان اتفاقية خور عبدالله مع الكويت. الخطوة، التي وُصفت بأنها “شكلية” من الناحية الإجرائية و”قسرية” من ناحية التأثيرات السياسية، جاءت وسط حالة من الغموض والقلق والتكهنات.
*قرار الاستقالة: حدث عابر أم زلزال دستوري؟
في بيان رسمي لمجلس القضاء الأعلى، تم الإعلان عن إحالة رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم العميري، إلى التقاعد لأسباب صحية. ورغم أن الصيغة الرسمية جاءت في إطار قانوني اعتيادي، فإن الشكوك سرعان ما بدأت تملأ الساحة السياسية والإعلامية، خاصة مع أنباء سابقة تحدثت عن استقالات طالت عددًا من أعضاء المحكمة أيضًا، مما فُسّر على نطاق واسع بأنه ليس مجرد قرار إداري، بل تحوّل مفصلي خطير.
ووصف عضو اللجنة القانونية النيابية، عارف الحمامي، هذا الحدث بأنه “تهديد مباشر للنظام الدستوري في العراق”، محذرًا من أن البلاد على أعتاب “فراغ قانوني خطير” إذا لم يتم تطويق هذه الأزمة سريعًا. وأكد الحمامي أن ما جرى ليس طبيعياً، بل جاء نتيجة “ضغوط مركبة تقودها جهات داخلية وإقليمية”، مشيرًا إلى دور محتمل للسفارة الأميركية في بغداد، مدفوعة بمصالح كويتية وخليجية، تهدف إلى تمرير اتفاقية خور عبدالله التي سبق للمحكمة أن قضت ببطلانها.
*تفكيك ممنهج أم إعادة هيكلة قضائية؟
يرى مراقبون أن توقيت هذه الاستقالات ليس بريئًا، بل هو جزء من خطة أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل المحكمة الاتحادية بشكل يمكّن القوى السياسية النافذة، وبدعم خارجي، من تمرير قرارات جديدة تتعارض مع الأحكام السابقة، وعلى رأسها قرار بطلان الاتفاقية الحدودية مع الكويت.
وأكد الحمامي أن “هناك محاولة مفضوحة لتفكيك المحكمة وشلّ عملها”، واصفاً ذلك بأنه مقدّمة لإعادة طرح ملفات حساسة دون رقابة دستورية حقيقية. وأضاف أن غياب المحكمة الاتحادية يعني فعلياً “شللاً تاماً في الرقابة على التشريعات والطعون”، مما يمهّد الطريق أمام “تعديلات مشبوهة في البنية القانونية للدولة”.
*تأثير مباشر على ملفات حساسة أبرزها خور عبدالله والانتخابات
الخبير القانوني هاشم العقابي من جهته لم يتردد في رسم صورة قاتمة لما بعد هذه الاستقالات، مؤكدًا أن الوضع الحالي يعني تجميدًا فوريًا لعدد كبير من القضايا الحساسة التي كانت أمام المحكمة، في مقدمتها قضية خور عبدالله التي أثارت الجدل، وقضية الانتخابات النيابية المقبلة.
وأوضح العقابي أن إعادة تشكيل المحكمة ستتطلب إجراءات طويلة، تبدأ من ترشيحات مجلس القضاء الأعلى، ثم تمر عبر بوابة البرلمان، الذي هو نفسه في عطلة تشريعية حالياً. وأكد أن “الكثير من القضايا ستُعاد مراجعتها من قبل التشكيلة الجديدة”، بما فيها تلك التي لم تكتسب الصيغة القطعية، وهو ما يعني أن قرارات المحكمة المقبلة قد تكون مختلفة تمامًا عمّا صدر في السابق.
وفي هذا السياق، لفت العقابي إلى أن “الاتفاقيات غير المحسومة مثل خور عبدالله ستكون في صدارة الملفات المعاد طرحها بعد تشكيل المحكمة الجديدة”، مما يفتح الباب لتغيّر جذري في الموقف القضائي العراقي، وبما يتوافق هذه المرة مع الضغوط الخارجية التي لم تنقطع منذ قرار البطلان.
*برلمان في الواجهة: شكوك واتهامات
النائب رائد المالكي، لم يُخفِ شكوكه حيال “مبررات التقاعد” التي قدمها القاضي جاسم العميري، واصفًا إياها بأنها “ذريعة غير حقيقية”، مشيرًا إلى أن العميري يتمتع بصحة جيدة ولا توجد موانع حقيقية لاستمراره في المنصب.
وذهب المالكي إلى أبعد من ذلك، عندما أشار إلى احتمال أن تكون هذه الاستقالة “مقدّمة لإصدار قرار جديد بشأن خور عبدالله”، في تناقض صارخ مع الحكم السابق للمحكمة. وأكد أن البرلمان سيواصل دعم استقلال القضاء، محذرًا من “تغليب التوافقات السياسية على المؤسسة القضائية”، وهو ما اعتبره داءً أصاب مؤسسات الدولة الأخرى بالشلل والفساد.
اللافت أن المالكي لمّح إلى وجود رغبة في “إزاحة العميري” كجزء من مخطط مدروس لإعادة النظر في أحكام المحكمة، في خطوة تعبّر عن أزمة عميقة تتجاوز الخلافات السياسية المعتادة، وتصل إلى جوهر استقلالية القضاء.
*دعوات للشفافية ومساءلة علنية
دعوة أخرى جاءت من القيادي في تحالف الفتح، عدي عبد الهادي، الذي طالب القاضي العميري بالخروج إلى العلن وبيان الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الاستقالة، في خطوة وصفها بأنها “مفاجئة وغير واضحة حتى الآن”.
وشدد عبد الهادي على ضرورة احترام الشفافية، قائلاً إن “المتغيرات داخل المحكمة تثير كثيرًا من التساؤلات”، خصوصاً في ظل تسارع وتيرة الأحداث. وأكد أن المرحلة الحالية تتطلب توضيحاً صريحاً من العميري حول ما إذا كان قراره نابعاً من إرادة شخصية، أم أنه جاء نتيجة ضغوط خفية تمارسها جهات خارج إرادة القضاء.
*هل نعيش لحظة انقلاب ناعم على السلطة القضائية؟
المشهد العراقي الحالي يبدو أقرب إلى لحظة حرجة تختلط فيها العوامل الداخلية والإقليمية، ويتقدم فيها “الصمت القضائي” على الصراحة القانونية. مع تصاعد التشكيك في دوافع الاستقالات، تتعالى التحذيرات من أن ما يحدث قد لا يكون سوى جزء من “انقلاب ناعم” على المحكمة الاتحادية، يهدف إلى إفراغها من مضمونها وتحويلها إلى مجرد واجهة شكلية، تُدار قراراتها من خلف الكواليس.
*تبعات دستورية وسياسية وانتخابية
الفراغ الذي خلّفته استقالات القضاة يعني عمليًا أن المحكمة الاتحادية أصبحت خارج الخدمة إلى حين تشكيل قوام جديد لها، وهو أمر قد يستغرق شهورًا، خاصة في ظل الانقسامات داخل البرلمان وتعطيله المؤقت. هذا التعطيل سيلقي بظلاله الثقيلة على الانتخابات النيابية المقبلة، التي تتطلب مصادقة المحكمة على النتائج. دون محكمة مكتملة النصاب، لا مصادقة، وبالتالي لا انتخابات.
أما الأحكام التي صدرت عن المحكمة السابقة، فإنها تبقى سارية المفعول، لكنها مهددة بأن تُلغى أو تُعدَّل في المستقبل القريب، إذا ما قررت المحكمة الجديدة سلوك مسار مغاير. وهنا تكمن خطورة الوضع: كل حكم قضائي يمكن أن يتحول إلى قرار سياسي بأثر رجعي.
في المجمل، تبدو استقالات قضاة المحكمة الاتحادية العليا ـ سواء كانت طوعية أم مدفوعة ـ بمثابة حلقة خطيرة في مسلسل أوسع يستهدف إضعاف المؤسسات السيادية في العراق. ومع غياب الشفافية والغموض الذي يكتنف مصير المحكمة المقبلة، تصبح المخاوف من “تسييس القضاء” أكثر من مجرد هواجس.