التموضع الانتخابي يُعيد الاصطفافات.. تقسيم العاصمة يهدد تحالفات قائمة ويُربك حسابات التيار الصدري والإطار التنسيقي معاً

انفوبلس..
في ظل تصاعد التنافس السياسي مع اقتراب موعد الانتخابات، يتجدد الجدل حول قانون الانتخابات، لا سيما مقترح تقسيم بغداد إلى دائرتين انتخابيتين بدلاً من واحدة. المقترح أثار مخاوف من توظيف فني لقانون انتخابي يحمل أبعاداً سياسية، وسط اتهامات بمحاولة تقليص نفوذ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وترجيحات بأن القرار يخدم خصومه في إطار صراع داخلي وإقليمي معقّد.
تقسيم المحافظات الكبيرة
يشتد الحراك داخل الأوساط السياسية لتغيير قانون الانتخابات بما يسمح لتعدد الدوائر في المحافظات الكبرى، وبينها بغداد، بدلا من الدائرة الواحدة، الأمر الذي فسّره مقربون من رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، المرشح عن أكثر الدوائر ثقلا وهي العاصمة، بأنه استهداف للأصوات التي يسعى للحصول عليها، مؤكدين أن المستفيدين من هذا التغيير هم القوى الكبيرة غير المتحالفة مع السوداني.
ويفترض أن تجرى الانتخابات العامة في 11 تشرين الثاني نوفمبر المقبل، دون أن يتجاوز الـ25. منه، حيث يلزم القانون التقييد بموعد إجرائها قبل 45 يوماً من انتهاء ولاية الدورة البرلمانية الحالية.
ونص مقترح قدمه النائب رائد المالكي في وقت سابق على اعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة، باستثناء محافظات بغداد والبصرة والموصل، التي ستُقسم دائرتين انتخابيتين.
مطلب سياسي غير إداري
ويقول مستشار رئيس الوزراء عائد الهلالي، إن "تعديل قانون الانتخابات وتحويل محافظة بغداد إلى دائرتين بدلا من دائرة واحدة يُنظر إليه من قبل بعض الأطراف على أنه تحرك سياسي له أبعاد تتجاوز الجانب الفني أو الإداري، ويُحتمل أن يحمل دلالات سياسية تخص توازن القوى داخل العاصمة، باعتبارها مركز القرار السياسي والسكاني".
وحول استهداف السوداني، من هذه الخطوة، يشير إلى أن "تقسيم بغداد بهذا الشكل قد يؤدي إلى تقليص عدد مقاعد القوى المتحالفة مع رئيس الوزراء في مناطق معينة، خصوصا وأن بغداد كانت تمثل خزانا انتخابيا مؤثرا في رسم المشهد البرلماني، وبالتالي، فإن إعادة توزيع الدوائر قد يُستخدم كأداة لإضعاف نفوذ تلك القوى، ومن ثم تقليل قدرة السوداني على إعادة تشكيل حكومة مستقبلية مشابهة أو ضمان دعم برلماني مريح".
وعن الجهات المستفيدة من هذا التغيير، يعتقد أن "المستفيدين المحتملين هم القوى السياسية المنافسة أو غير المتحالفة مع السوداني، وخصوصا تلك التي تمتلك جمهورا منظما ومتركزا في مناطق معينة من بغداد، فالتقسيم الدائري قد يمنحها فرصة لحصد مقاعد بسهولة أكبر، بعيدا عن التنافس المفتوح في دائرة واسعة".
لكن الهلالي، يؤكد أن "من المهم التنويه أن النقاش حول قانون الانتخابات يجب أن يكون تقنيا، يهدف إلى تحسين التمثيل العادل، لا لتصفية الحسابات السياسية، والعودة إلى قانون يكرّس العدالة والتوازن السياسي دون تلاعب في إرادة الناخب، هو الضمان الأساسي".
وعاد الحديث عن تعديل القانون الانتخابي بعد شهرين من تقديم اللجنة القانونية في البرلمان، تعديلات جديدة على القانون تشمل تقسيم الدوائر الانتخابية، وتحديد عدد المرشحين وفقاً لعدد المقاعد المخصصة، بالإضافة إلى تخصيص 30 بالمئة من المقاعد للمرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات، كما تضمنت التعديلات استقالة حكمية للمرشحين من مناصبهم حال الترشح لمنصب آخر، ومنع استغلال منحة الرعاية الاجتماعية وتوزيع قطع الأراضي لأغراض الدعاية الانتخابية.
لكن النائب محمد عنوز، أكد أن تعديل قانون الانتخابات لم يصل حتى الآن إلى مجلس النواب، مشيرا إلى أن عملية تعديله تستغرق وقتا طويلا بسبب تعقيداته وتعدد الأطراف المعنية.
جدل متكرر
من جهته، يرى الباحث في الشأن السياسي علاء الخطيب، أن "ملف قانون الانتخابات واحد من الملفات الجدلية التي يتكرر الجدل حولها مع كل انتخابات، إذ يخضع إلى مزاجيات الكتل السياسية في أحيان كثيرة وربما يتمارى مع آراء الأخرى، وفي النهاية هو حسب ما تقرره الكتل السياسية".
ويضيف أن "تغيير القانون الانتخابي في العراق وجعل بغداد دوائر متعددة لا يمكن النظر إليه كحالة سلبية فقط، إذ يمكن أن يكون حالة إيجابية لها تأثيرات متعددة على العملية السياسية، فمن إيجابيات هذا القانون أنه يقلل من تأثير الأحزاب الكبيرة ويعزز فرص الأحزاب الصغيرة والمستقلين للفوز بمقاعد في البرلمان، كما يمكن أن يعزز زيادة مشاركة الناخبين لأن البعض قد يتشجع للمشاركة في الدائرة الواحدة عندما يشعر بأن صوته له تأثير".
إلا أن هناك بعض السلبيات في الدوائر المتعددة، وفقا للخطيب، كـ"زيادة التكاليف الإدارية أو قد تشوب الانتخابات عمليات تزوير كبيرة، كما هناك صعوبة إدارية لتحديد الدوائر"، مشيرا إلى أن من سلبياته أيضا "عدم ضمان تمثيل أوسع للمكونات بسبب تفرقهم في دوائر، واحتمالية زيادة الاستقطاب المذهبي والقومي في الدائرة الواحدة".
وفيما يخص الصراع السياسي في تعديل القانون الانتخابي، يشير إلى أن "هناك الكثير من التقاطعات ظهرت بين الكتلة السياسية الواحدة، ومثال ذلك الإطار التنسيقي، فعندما قرر المالكي وقادة الإطار النزول كمرشحين في بغداد، مقابل السوداني، فالمقصود التأثير على الأصوات التي تذهب إلى السوداني لأن الجميع هنا يتنافسون على الناخب نفسه".
ويوضح أن "الدوائر المتعددة ربما ستضر كتلة السوداني أكثر من غيرها لأن الكتل الأخرى المنافسة لديها كثير من الموالين في دائرة السوداني ما يؤثر على أصواته، كما أن المطالبة بالدوائر المتعددة سيخلق حالة كبيرة من الاستقطاب بين السياسيين، لكن إذا ما انقلب المعادلة بمشاركة التيار الصدري سيكون هناك صوت عال للأخير عندما ينضم للسوداني إذ لا يمكن بعدها التأثير على الأصوات في الدائرة الواحدة أو المتعددة".
وأكدت اللجنة القانونية في مجلس النواب، عدم وجود أي توجه حالي داخل البرلمان لتعديل قانون انتخابات مجلس النواب، مشددة على أن الانتخابات المقبلة ستُجرى وفق القانون المعمول به حالياً. وقال عضو اللجنة، حميد كاظم، إن "رأي الأغلبية داخل مجلس النواب هو الإبقاء على القانون الانتخابي الحالي دون تعديل"، موضحاً أن "أي حديث عن تعديل القانون لم يُطرح بشكل رسمي حتى الآن".
محاولة تضييق
من جهته، يشير مدير المركز العربي الأسترالي للدراسات أحمد الياسري، إلى أن "هذه الخطوات هي محاولات للتضييق على السوداني، والأخير يدرك هذه المحاولات، لذلك جلب قوى فصائلية إلى قائمته كرئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض وأحمد الأسدي، لكن هذه الصراعات داخلية وعبثية لن ينتج شيء سواء فاز السوداني أو منافسوه، فالمشهد المقبل مرتبط بالعوامل الخارجية".
ويضيف الياسري، أن "المشهد المقبل بعيدا عمن يفوز في ظل قانون الانتخابات الحالي أم الجديد، هو مشهد مرتبط بالمتغيرات الإقليمية، وعملية الانتخابات وشرعيتها وتغيير القانون هي تواصل داخلي فقط، فلاعبو إيران حتى لو حصلوا على شرعية الانتخابات سيكون وضعهم صعبا، لأن هذه الانتخابات ستجرى في عهد ترامب، لكن يمكن للسوداني أن يؤدي الدور الوسط ويحافظ ما يمكن المحافظة عليه، ولكن إدارة ترامب لا تفصل بين الإطار التنسيقي والسوداني وإيران".
حسابات الداخل وضغوط الخارج
رغم ما يبدو ظاهرياً من نقاشات فنية حول تقسيم الدوائر الانتخابية وتعديل قانون الانتخابات، فإن المشهد العراقي يعكس صراعاً أعمق، لا يتعلق فقط بإعادة تشكيل الخريطة الانتخابية، بل بإعادة صياغة موازين القوة داخل الدولة وموقع العراق في صراع المحاور الإقليمي.
فالتعديل المقترح الذي يستهدف تقسيم العاصمة بغداد إلى دائرتين انتخابيتين، لا يمكن فصله عن توازنات النفوذ بين رئيس الحكومة محمد شياع السوداني وخصومه من داخل الإطار التنسيقي وخارجه. فبغداد، بما تمثله من ثقل ديموغرافي وسياسي، تعد مفتاحاً لتشكيل التحالفات الكبرى وصياغة الغالبية البرلمانية، ومن ثم، التحكم في مفاتيح السلطة التنفيذية.
بين التكنوقراط والمكيدة السياسية
الطرح الرسمي يقدّم التعديل على أنه "خطوة تنظيمية" تهدف لتحقيق عدالة التمثيل وتعزيز النزاهة. غير أن السياق السياسي العراقي، الممتلئ بتجارب سابقة من التلاعب بالقوانين الانتخابية لأغراض تكتيكية، يدفع المراقب إلى التشكيك في النوايا المعلنة. فالتحول إلى دوائر متعددة، رغم ما يمنحه من فرص للمرشحين المستقلين والأحزاب الصغيرة، يُنظر إليه أيضاً كوسيلة لتفتيت الحاضنة الانتخابية لرئيس الوزراء، وإعادة توزيع المغانم السياسية بشكل يخدم خصومه، لا سيما وأن التحالفات الحالية التي تدعمه غير راسخة أو متجانسة بالقدر الكافي.
هذا يطرح تساؤلاً حول إمكانية أن يتحوّل النقاش الفني إلى ساحة صراع لتصفية الحسابات، تُستخدم فيها مفردات "الإصلاح" و"العدالة الانتخابية" كغطاء لخطط محكمة لإعادة رسم حدود النفوذ داخل البرلمان القادم.
إطار تنسيقي بلا مركز
المفارقة أن هذا السجال لا يُختزل في ثنائية "السلطة مقابل المعارضة"، بل يعكس أيضاً تصدعاً متزايداً داخل الإطار التنسيقي نفسه. فتعدد مراكز القرار واختلاف أولويات الفاعلين فيه، مثل نوري المالكي وهادي العامري وفالح الفياض، ينعكس على الموقف من القانون الانتخابي نفسه. وبينما يسعى البعض إلى تحجيم السوداني خشية صعوده خارج وصاية الإطار، يرى آخرون أن استمرار الحكومة الحالية في الواجهة يوفر غطاءً سياسياً ضرورياً في المرحلة المقبلة، خاصة مع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية.
هذا الصراع الداخلي بات واضحاً في تصريحات الأطراف المختلفة، ومحاولات بعضها التموقع بشكل تكتيكي استعداداً لأي سيناريو مستقبلي قد يفضي إلى انهيار التحالفات أو اضطرار القوى الشيعية إلى تقديم تنازلات أمام تصاعد الحراك السني والصدري.
التيار الصدري: الحاضر الغائب
لا يمكن قراءة التعديلات الانتخابية دون التوقف عند معادلة التيار الصدري، الذي، رغم انسحابه من البرلمان، لا يزال رقماً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة حكم أو قانون انتخابي. وتلوّح بعض الأطراف، كما جاء في تحليل علاء الخطيب، بإمكانية عودته إلى المشهد من بوابة دعم السوداني، في خطوة قد تعيد خلط الأوراق بالكامل، وتحول السوداني من مرشح "وسط" داخل الإطار إلى واجهة لتحالف أوسع قد يهدد بنية النظام السياسي الراهنة.
وفي هذا السياق، يبدو أن التيار الصدري يراقب بصمت، بانتظار اللحظة المناسبة للعودة، مستفيداً من حالة التآكل في شعبية خصومه، ومن أزمة الثقة المتصاعدة في أداء البرلمان والقوى التقليدية.
الخارج يراقب... فهل يقرر؟
لكن ما يعقّد المشهد أكثر هو أن هذه المعركة الداخلية لا تُحسم في بغداد فقط. فالتقارير التي تربط مصير الانتخابات المقبلة بإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والمتوقع أن يعود إلى البيت الأبيض، تُحيل إلى حقيقة أن العراق، رغم محاولات السوداني لتبني خطاب سيادي ووطني، لا يزال ساحة مفتوحة أمام تأثيرات الخارج، وتحديداً واشنطن وطهران.
وفي هذا الإطار، تبدو الانتخابات أداة لقياس مدى نفوذ كل محور، لا مجرد وسيلة لإعادة تشكيل البرلمان. ومن هنا، فإن أي تعديل في القانون، حتى لو بدا فنياً، يُقرأ من الخارج باعتباره محاولة لتمكين هذا الطرف أو إضعاف ذاك. فالسوداني، الذي يحاول التوازن بين واشنطن وطهران، يجد نفسه الآن أمام اختبار حاسم: هل سيتمكن من الحفاظ على موقعه دون أن يتحول إلى خصم لأحد المحورين؟ أم أن التعديلات الانتخابية ستُفرض عليه كأمر واقع لتقليص نفوذه تمهيداً لإعادة هندسة السلطة؟
نحو انتخابات بلا ضمانات
كل هذه المعطيات تضع مصداقية العملية الانتخابية القادمة على المحك. فغياب الإجماع على القانون، وتعدد التفسيرات بشأن دوافع التعديل، واستمرار الانقسام داخل البرلمان، وتدخّل العوامل الإقليمية والدولية، يجعل من إمكانية إجراء انتخابات نزيهة وشفافة أمراً موضع شك كبير.
وفي ظل ذلك، يبرز سؤال أساسي: هل يمكن لقانون انتخابي أن يُصلح ما أفسدته الصراعات البنيوية داخل النظام السياسي العراقي؟ أم أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، لا بين النائب ودائرته الانتخابية؟
ما لم تُحسم هذه الأسئلة بموقف سياسي واضح وشجاع، فإن العراق مقبل على استحقاق انتخابي يحمل في طياته بذور أزمة جديدة، لا انفراجة ديمقراطية.