كيف تحولت جغرافيا كردستان إلى ساحة حرب دائمة بين تركيا وحزب العمال وسط صمت بغداد وأربيل؟

انفوبلس/..

في جبال كردستان، لا شيء يشبه الحياة. قرى كاملة أصبحت خرائب، البيوت نُسفت، الحقول احترقت، والسكان غادروا دون رجعة. لا بسبب زلزال ولا كارثة طبيعية، بل بفعل حربٍ طويلة الأمد بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، حربٌ لم تُبقِ شيئًا من الهدوء الريفي في شمال العراق، وتحولت إلى ما يشبه الغزو المستدام في ظل صمت مركّب من بغداد وأربيل.

وبين وعود السلام وتصاعد النيران، يعيش شمال العراق فصلاً جديداً من التهجير المنهجي، حيث لا تزال العمليات العسكرية التركية تُفرغ القرى الكردية والمسيحية من سكانها، تحت أنظار حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية العراقية، في مشهد يثير أسئلة أكثر مما يقدم إجابات.

فبعد نحو عقدين من الحرب المفتوحة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، ورغم إعلان الحزب في أيار/مايو 2025 عن حل نفسه ووقف الكفاح المسلح، فإن القصف التركي لم يتوقف، والاحتلال العسكري يتوسع، ومعه تزداد معاناة آلاف العوائل المهجرة، التي ترى في كل يوم يمر، ابتعاد حلم العودة أكثر فأكثر.

*التهجير لم يتوقف.. و”السلام” لم يبدأ

لا يبدو أن إعلان حزب العمال الكردستاني إنهاء الكفاح المسلح قد فتح باباً للسلام، فالعمليات العسكرية التركية مستمرة، والتصريحات الرسمية من أنقرة تؤكد أن المعركة لن تنتهي إلا بالقضاء على ما تسميه “الخطر الإرهابي”.

يقول زاكروس هيوا، المتحدث باسم العلاقات الخارجية في حزب العمال الكردستاني، إن ما جرى هو إعلان نوايا من طرف واحد، في حين لم تُقدِم تركيا على أية خطوات مقابلة من شأنها تثبيت دعائم السلام، كالإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين الكرد، أو تخفيف العزلة المفروضة على زعيم الحزب عبد الله أوجلان، أو حتى تعديل قوانين الإرهاب.

هيوا يرى أن “الحديث عن نزع السلاح ما زال مبكراً جداً، في ظل استمرار الاحتلال التركي وهجماته داخل أراضي كردستان”.

*قرى تحترق.. وأحلام تباد

خلال الفترة بين 15 حزيران و15 تموز من عام 2024 فقط، تم إخلاء تسع قرى بالكامل في محافظتي دهوك وأربيل، بحسب منظمةCPT  التي ترصد الانتهاكات الميدانية، وتم تشريد 184 عائلة، وإحراق أكثر من 68 ألف دونم من الأراضي الزراعية والغابات، إلى جانب قصف منازل ومصانع وكنائس ومنشآت حيوية.

ورغم الكارثة الإنسانية، لم تُقدِم حكومة إقليم كردستان على تقديم أي تعويضات تُذكَر لهؤلاء المتضررين، مكتفية بالصمت والتجاهل، في ظل ضعف الإمكانات المالية كما يُقال، بينما تكتفي بغداد ببيانات رسمية خجولة تطالب فيها أنقرة باحترام السيادة.

*شهادات من الميدان: “خسرنا كل شيء”

(م.ا)، أحد النازحين من قرى زاخو، يقول: “خسرنا كل شيء، منازلنا، مزارعنا، مواشينا.. لم نحصل على أي مساعدة، ولا شيء يوحي بإمكانية العودة، فالقصف مستمر، والجيش التركي يمنعنا من الاقتراب حتى”.

أما فريد يعقوب، عضو البرلمان السابق وعضو قيادة الحركة الآشورية، فيقول: “لدينا منظمة خيرية نحاول من خلالها مساعدة النازحين المسيحيين، لكن حجم المأساة أكبر من قدرتنا. كثيرون هاجروا ولم يعودوا، وهناك من يفكر بالهجرة اليوم أيضاً”.

ويحذر الناشط المسيحي سامي بطرس من “زوال الوجود المسيحي في كردستان إن استمرت هذه الحرب”، مؤكداً أن الكثير من الأهالي باتوا يفكرون في الهجرة بشكل نهائي، مع غياب أي أفق لحل سياسي حقيقي.

*خرائط النار: الاحتلال التركي يتمدد داخل الإقليم

منطقة سيدكان في المثلث الحدودي بين تركيا والعراق وإيران، فقدت 45% من مساحتها لصالح الجيش التركي، بحسب مدير الناحية. أما في العمادية وزاخو، فالوضع لا يقل خطورة. عدد القواعد التركية تجاوز 70 قاعدة ومركزاً، بعد أن كانت 64 عام 2022، يربطها شبكة طرق عسكرية تمتد من الحدود التركية حتى عمق الأراضي العراقية.

ومع هذه السيطرة العسكرية، تحوّلت عشرات القرى إلى مناطق محظورة، لا يُسمح لسكانها بالعودة، ولا حتى برعي مواشيهم أو جني محاصيلهم.

*المسيحيون: من النزوح إلى الشتات

قرى كاملة من المسيحيين وقعت تحت السيطرة التركية، ما جعل العودة إليها شبه مستحيلة. جورجيس يوحنا، الذي هاجر إلى أستراليا منذ سنوات، يقول: “الوضع يزداد سوءاً، لم نعد نفكر في العودة، ونخطط للبقاء هنا إلى الأبد”.

في ظل هذه الظروف، يبدو أن النزيف السكاني مستمر، وخاصة بين الأقليات التي لا تجد أي دعم من السلطات المحلية أو الاتحادية، ولا حتى من المجتمع الدولي الذي يكتفي بالمراقبة.

*الموت المُعلن: قصف مستمر رغم إعلان السلام

في الأسبوع الأخير من أيار/مايو 2025 فقط، نفذت تركيا 128 هجوماً على مناطق متعددة في محافظة دهوك، من بينها جبل گاره، ومناطق في شيلادزي والقرى المحيطة بها. حرائق التهمت المزارع والغابات، وأضرار لحقت بمنازل تركها أصحابها مجبرين.

مختار قرية سرگلي، صالح كامل، يقول إن الأهالي حاولوا العودة ثلاث مرات منذ منتصف عام 2024، لكن الجيش التركي يمنعهم ويقيم نقاط تفتيش، بل يجبرهم على العودة إلى أماكن نزوحهم.

*حكومة الإقليم: صمت القبور

رغم أن الضرر الأكبر يطال سكان الإقليم، لم يصدر عن حكومة كردستان أي موقف قوي ضد الاحتلال التركي. لا خطط لإعادة الإعمار، ولا جهود لتعويض المتضررين، ولا حتى حراك دبلوماسي يُذكَر في هذا الملف. وتكتفي حكومة الإقليم بتبريرات “الضعف المالي”، بينما يرى النازحون أن ضعف الإرادة السياسية هو الأوضح.

*مخاوف من فشل جديد

في عام 2015، انهارت آخر محاولة للسلام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني. اليوم، ومع استمرار القصف وتوسع الاحتلال، يخشى مراقبون من تكرار الانهيار ذاته، ما يعني ضياع فرصة نادرة لوقف الحرب، وبقاء آلاف القرى الكردية والمسيحية فارغة ومحرومة من الحياة.

الباحث السياسي صلاح أحمد يحذر: “أي فشل جديد سيعني تلاشي حلم عشرات الآلاف من سكان القرى بالعودة، وسنخسر مناطق مهمة اقتصادياً وثقافياً وسياحياً”.

وربما، إذا استمرت حكومة الإقليم في صمتها، والحكومة الاتحادية في بياناتها، فإن خريطة شمال العراق ستُعاد رسمها، ليس بالسياسة، بل بالنار والقواعد العسكرية والشتات القسري.