أمريكا وتجاوز القانون الدولي في عملية اغتيال سليماني
فيما يتعلق بتصريحات بومبيو الاخيرة، ومسار الخلاف الاميركي الايراني، ودرجات التوتر المرافقة له، كتب (عباس الشطري) مقالا بعنوان (أمريكا وتجاوز القانون الدولي في عملية اغتيال سليماني) تطرق فيه الى الاستهداف الممنهج للمنطقة من خلال موجة الإرهاب
عباس الشطري
لم تكن تصريحات مارك بومبيو لقناة العربية السعودية حول تهديد قائد فيلق القدس الايراني الشهيد قاسم سليماني للمصالح الاميركية، وادعائه بأن قائد فيلق القدس السابق كان يخطط لقتل 500 مواطن اميركي، ما دعا أمريكا للتعجيل بقتله، امرا مفاجئا، فعوامل التصادم بين الولايات المتحدة وايران في الشرق الاوسط مستمرة منذ قيام الثورة الايرانية سنة 1979 ولم ينس الاميركان احتجاز الشباب الايراني الثائر لموظفي السفارة الاميركية في طهران ل444 يوما حينها، والتي احرجت الادارة الاميركية وأظهرتها دولة عاجزة أمام نظام ثوري جديد لم يكتمل نظامه بعد. إذن عوامل الصدام لم تتغير بل ازدادت اكثر بعد تغيير الولايات المتحدة لنظام الحكم في العراق واحتمالية الضغط لمحاولة تغيير انظمة اخرى بعيدا عن ارادات شعوبها ومنها نظام حكم الجمهورية الاسلامية في ايران.
ما يمكن ملاحظته هو أن مسار الخلاف الاميركي الايراني ودرجات التوتر المرافقة له تزداد وتنخفض حسب حكم الادارات الاميركية وتنقلها بين الحزبين الرئيسيين ومدى رؤيتها للمصالح الاميركية في المنطقة والاستراتيجية المناسبة للمحافظة على هذه المصالح.
كما ان عوامل ضبط ايقاع الخلاف بين الدولتين والتحكم به اصبح سمة طبيعية، فليست هناك رغبة حقيقية لإنهاء هذا الخلاف لوجود خلاف جوهري رئيسي يتعلق برؤية ايران لوضع المنطقة واستقرارها وتأثيرها على وضعها كدولة اسلامية معنية بالحفاظ على مصالح المسلمين ومنها أمن واستقرار المنطقة ككل وحل المشكلة الفلسطينية وفق الرؤية الاسلامية والشرعية الدولية، ووجدت إيران نفسها وجها لوجه للدفاع عن هذه الرؤية بعد انسحاب مصر من الصراع العربي الاسرائيلي وامتداده الاسلامي وانطوائها على نفسها لحل مشاكلها الداخلية فقط وتخلخل وضع المنطقة بعد التدخل الغربي الواضح بقيادة الولايات المتحدة بعد احداث الربيع العربي مما زاد من شقة الخلاف بشكل واسع خصوصا وان ايران القت بثقلها السياسي والاقتصادي ودعمت بشكل كبير دولا مثل لبنان وسوريا واليمن والعراق أمام استهداف ممنهج لهذه الدول من خلال موجة الارهاب العاتية المدعومة دوليا واقليميا، وكان رأس الحربة لهذا الموقف هو فيلق القدس الايراني بقيادة قاسم سليماني، لذلك فإن النغمة الاميركية المستمرة حول زعزعة إيران للوضع في الشرق الاوسط مرتبطة اساسا بهذا الموضوع، بل نجزم بأنه رد فعل على الموقف التاريخي لوقوف هذه الدولة مع العراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلا عن الدعم المستمر للمقاومة الفلسطينية بالمال والتدريب والسلاح، لذلك دأبت الدوائر الاميركية على ايقاف هذا الدعم بشتى الاساليب المتوافرة وكان القرار الاهم هو اغتيال الزعيم الابرز في دعم ايران لأصدقائها الشهيد قاسم سليماني كون الرجل ذا خبرة واسعة في التصدي للارهاب، ولا يمكن أن ينسى العراقيون موقفه البطولي بعد وصول طلائع تنظيم داعش الارهابي الى منطقة التاجي ووصوله على عجل لتنظيم صد الهجمات لحين اكتمال تدفق المتطوعين بعد فتوى الجهاد الكفائي، كما ان السيد سليماني اصبح رقما صعبا في منظومة الحكم الاسلامي في ايران بل توقع كثير من المحللين ان يكون له دور في حكم ايران في المستقبل، لذلك اختار الامريكيون رجلا مجرد وجوده على قيد الحياة يسبب ازعاجا لمآربهم وصداعا دائما لرؤوسهم.
الموقف الاخطر بهذا القرار الامريكي كان تجاوز وعدم مراعاة الخطوط الحمر للعلاقات الامريكية مع العراق بل واظهاره بأنه ضيعة اميركية وليس دولة مستقلة ذات سيادة، فقد وضعت الادارة الامريكية القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية واحترام سيادة الدول على الرف حين ارادت تحقيق مصالحها بتنفيذ عملية مطار بغداد وان لا عوائق اخلاقية تمنعها من تحقيق ذلك على عكس ما تدعي وتصدع به رؤوس الدول والشعوب، فالسيد سليماني ضيف على دولة مستقلة وصديقة للولايات المتحدة وان عملية اغتياله اظهرت أن هذه الدولة لا تحترم العراق ولا نظامه السياسي ولا حتى صداقتها معه وهي التي تدعي انها اشرفت على ترسيخه كتجربة ديمقراطية بين دول ملكية ومحميات لشيوخ مستبدين، بل ان العراق قدم قبل ذلك تجربة فذة حين تعامل مع تصرف صحفي عراقي حاول اهانة الرئيس بوش بالرغم من ان الرئيس الامريكي قد تسبب بقتل آلاف العراقيين وتدمير شعب ودولة، لكن مبادئ واخلاقيات العراقيين لم تتقبل الاساءة اليه، اي الى الرئيس الامريكي الضيف بالرغم مما فعله بهم، فهذه مبادئ الشعوب المحترمة التي لا يمكن تجاوزها، كما ان العملية أظهرت مدى استباحة وطن بحجم العراق من قبل دولة قضت اكثر من عقد ونصف تتحدث عن دعمها لسيادة البلد وتجربته الفذة في الانتقال من عهد استبداد الى عهد ديمقراطي تتوافر فيه الحريات والتبادل السلمي للسلطة.
الاخطر والانكى من ذلك ان تسريبات عملية الاغتيال بل ونشر الاخبار اللاحقة في وسائل الاعلام الامريكية حول الخطة كانت فعلا صادما للجميع، فأمريكا العظمى قد اعدت خطة محبكة ونفذتها بمساعدة قوات امريكية وأشخاص محليين من قومية غير عربية دربتهم ووضعتهم قبل فترة ملائمة ما يعني ان نية الاغتيال مبيتة وليست رد فعل على مقتل امريكي او تضرر مصالح امريكية كما تدعي.
ان وجود 3 فرق امريكية للمتابعة والتنفيذ بقدر ما هو امر خارج عن المواثيق والعلاقات كان ايضا امرا محرجا للحكومة العراقية وأظهرها حكومة عاجزة ان لم تكن تابعة غير قادرة على منع امريكا من تنفيذ مخططها على ارض عراقية، كما ان وجود أشخاص محليين منفذين ومشاركين بالعملية يظهر مدى تغلغل دوائر الاستخبارات الامريكية في اهم مفصل سيادي هو مطار بغداد يمر عليه الآلاف من ابناء الشعب فضلا عن آخرين من دول مختلفة ويعني ببساطة تحكما امريكيا في سلطة المطار ومتابعة كل صغيرة وكبيرة وهو مؤشر خطير على ان العراق ما زال تابعا في كثير من مفاصله الاقتصادية والامنية للولايات المتحدة، بل وان هذه الدولة راغبة بإبقاء هذه المسارات واحراج اي حكومة وطنية قادمة، ولو وضعنا هذه الافكار قسرا في ذاكرتنا المثقوبة فمن المؤكد ان دوائر الاستخبارات الاسرائيلية لديها وجود متخفي عبر الشركة الامنية المتعاقدة لحماية المطار وآليات التفتيش وغيرها من الشركات الامنية الاجنبية المصاحبة وأن اجهزتنا الامنية غير قادرة على ايقاف اي عملية ممكن ان تحدث مستقبلا.
كل هذه الموشرات يجب ان تؤخذ بالحسبان حين تشكيل اي حكومة قادمة وان يكون الحصول على السيادة بشكل كامل من مهامها الرئيسية واعادة التفاوض حول اتفاقية الاطار الاستراتيجي وخصوصا شقها العسكري والامني وان لا يكون التلاعب فقط في طريقة استبدال قوات الناتو محل القوات الامريكية، كما يفترض ان تستغل الحكومة الظروف الدولية الحالية لتقوية علاقاتها الدولية وتوسيع قدراتها في تنويع مصادر السلاح وبناء علاقة متوازنة مع العملاق الصيني القادم وروسيا، كما يتطلب الأمر متابعة الاشخاص الذين اسهموا في هذه العملية قانونيا وقضائيا، فالعراق دولة عريقة وليست ضيعة من ضياع واشنطن.