جغرافيات تائهة .. خواصر الشمال الهشّة
حتى حدود سايكس بيكو لم تنجح في بناء دول تحتوي هذه التناقضات السكانية وتفرض حالة وئام وطني، بلحاظ أن الدول الراعية لهذه الحدود، ونقصد فرنسا وبريطانيا، لطالما غذّت بنفسها بواعث الاضطرابات والتمردات، وفتحت المناطق لتكون أشبه بحلبة ملاكمة للصراعات الدولية
كتب / سلام عادل
لم تكد مناطق شمال العراق تهدأ حتى اندلعت مناطق شمال سوريا، وهي حالة تكاد تتكرر خلال كل عقد منذ 100 سنة على الاقل، ابتداءً من تأسيس النظام الدولي وبداية ترسيم الحدود وحتى هذه اللحظة، وسبق ذلك قرون من النزاعات تأسست بموجبها العديد من الإمارات غير المستقرة في تلك المناطق، بما فيها التبعيات لدول وممالك وامبراطوريات الجوار القريبة والبعيدة.
ولعل الثابت الوحيد في تلك المناطق هو التعددية القومية والدينية والمذهبية، وهي المحرك ربما وراء الصراعات المستمرة على الارض وعلى الموارد وعلى السلطة، ما يجعل من (المواطنة والوطنية)، وفق قياسات العصر الحديث، حالة غير قابلة للتطبيق في تلك المساحات، بفعل التدافع ورغبات الاستحواذ والهيمنة وفرض هوية المتنفذين، ولو تطلب ذلك التماهي مع جميع أشكال التخادم والتخابر.
وحتى حدود سايكس بيكو لم تنجح في بناء دول تحتوي هذه التناقضات السكانية وتفرض حالة وئام وطني، بلحاظ أن الدول الراعية لهذه الحدود، ونقصد فرنسا وبريطانيا، لطالما غذّت بنفسها بواعث الاضطرابات والتمردات، وفتحت المناطق لتكون أشبه بحلبة ملاكمة للصراعات الدولية، اشترك فيها حتى الروس والألمان، فضلاً عن الإيرانيين والأتراك، ومن ثم دخلت عليها الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل في آخر نصف قرن.
ورغم سعي النظام الملكي العراقي والسوري، والنظام الجمهوري العراقي والسوري، بمختلف أيديولوجياتهما المتعاقبة، يشمل ذلك العلمانية والديمقراطية، إلى صياغة عقد اجتماعي في اكثر من مرة، يتيح لسكان مناطق شمال العراق وشمال سوريا الاندماج في نظام الدولة، مثلما اندمج سكان جنوب الدولتين، إلا أن الصراعات السياسية، بل والمواجهات العسكرية، حالت دون تحقيق هذا الهدف.
ومن هنا ظلت عواصم البلدين تتفاوض وتتفاهم، وتعطي امتيازات تلو الاخرى لعدد ممن يدعون تمثيل الأقليات والسكان المحليين، سمحت لهم بتأسيس احزاب ونقابات وجمعيات، علاوة على حصص وتمثيل في مناصب وزارية وسفارات، ولكن ذلك لم ينهِ نوازع الانشقاق بقدر الدفع نحو المزيد من الاعتراضات، ما أجّج سلسلة اصطدامات سياسية وعسكرية فتحت الباب أمام المخابرات الدولية للعبث بوحدة واستقلال الدولتين.
ولهذا ليس مستغرباً تحول مناطق شمال سورياً وشمال العراق إلى ساحة لعب ومرتع للجماعات الارهابية، وليس تنظيم داعش ببعيد عنا، الذي كسر حدود سايكس بيكو أمام أنظار العالم قبل سنوات قريبة، او عملية كسرها مرة اخرى هذه الايام، بحجة المعارضة لأنظمة الدولة الوطنية في الاولى وفي الثانية، مما يؤكد ان
هذه المناطق اختير لها أن تبقى بوابات اختراق، لكونها خواصر هشّة في جسد الدولتين.
وبالتالي لابد من معالجة مرض سايكس بيكو، الذي فُرض على جميع دول الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل، التي ظلت كياناً بلا حدود على مدار 75 سنة، تمددت خلالهم ومازالت تريد أن تتمدد، ومحرضة في نفس الوقت، ودافعة، لمناطق شمال سوريا والعراق، للتحول الى كيانات عدوانية تستهدف أمن واستقرار الأنظمة، التي لوحدها تمتلك الطابو التاريخي لهذه الجغرافية الممتدة من البحر إلى الخليج.