أسعار السلع وقيمة الدولار.. ارتفعت بارتفاعه ولم تواكبه عندما انخفض.. تعرف على رأي الخبراء

انفوبلس..
رغم الانخفاض الواضح في سعر صرف الدولار في السوق العراقية خلال الأسابيع الأخيرة، والذي يفترض أن يؤدي إلى تراجع مماثل في أسعار السلع والخدمات، إلا أن الأسواق لا تزال تسجل مستويات سعرية مرتفعة، في مشهد يثير تساؤلات الشارع، ويكشف عن هشاشة المنظومة الاقتصادية القائمة على الاستيراد وسلوك السوق غير المنضبط.
هذه الظاهرة دفعت الحكومة للتوجيه بمحاسبة المتلاعبين بالأسعار ومراعاة انخفاض سعر الصرف، إلا أن خبراء الاقتصاد رأوا هذه التوجيهات “بلا جدوى”، لأن العراق يعتمد اقتصاد السوق وهو ليس اقتصادا اشتراكيا توجهه الدولة، فيما عزوا استمرار ارتفاع الأسعار إلى عدم تأثر المستوردين بانخفاض سعر الصرف، لأنهم استوردوا أغلب البضائع بسعر رسمي يختلف عن سعر الدولار الموازي الذي انخفض مؤخرا.
حالة من العُزلة
ويقول الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، إن “معظم الصفقات التجارية الكبرى والاستيرادات العراقية من السلع من قبل المستوردين والتجار الكبار، كانت تتم عن طريق المنصة الإلكترونية قبل أن تنتقل إلى عملية تعزيز الأرصدة والمراسلة مع مصرفي الستي بنك أو جي مورغان الأمريكيين”.
ويضيف المرسومي، أن “هذه الاستيرادات كانت تتم عبر سعر الصرف الرسمي الذي يعادل 132 ألف دينار مقابل كل 100 دولار، وبالتالي أسعار السلع الأساسية كانت معزولة عن الفجوة بين سعري صرف الدولار الرسمي والموازي”، لافتا إلى أن “هذا هو أحد العوامل والأسباب المهمة لعدم انخفاض أسعار السلع لأنها استوردت بالسعر الرسمي، وليس الموازي الذي انخفض في السوق”.
ويشير إلى أن “هناك مرونة سهلة في حالة صعود الأسعار، لكن هذه المرونة صعبة جدا نحو الانخفاض بسبب الاستقرار السعري في الأسواق وجشع التجار للحصول على هامش ربحي أكبر وهذا مبدأ اقتصادي معروف”.
وبشأن توجه السوداني الأخير بمحاسبة المتلاعبين، يتابع مستغربا “هذا يقودنا إلى التفكير بالفلسفة السياسية للبلد، فإما أن تؤمن الدولة بالاشتراكية وتتدخل في الاقتصاد، وبهذا يكون من حقها وضع تسعيرة ومحاسبة المخالفين، ولكن عندما يعتمد البلد على اقتصاد السوق فالأخير هو من يحدد الأسعار اعتمادا على العرض والطلب”.
ويضيف: “أما إذا تدخلت الدولة في ظل مبدأ اقتصاد السوق فإن هذا يؤدي إلى احتكار بعض السلع ويرفع أسعارها ويقلل جحم التعامل التجاري، لذا على الدولة أن ترفع يدها من السوق والاتجاه لإيجاد حلول أنجع كإنشاء التعاونيات أو دعم مواد البطاقة التموينية وبذلك تنخفض الأسعار”.
وما زال الدولار يواصل انخفاضه في العراق منذ أسابيع، إذ شهدت الأسواق العراقية خلال الأيام القليلة الماضية تراجعاً ملحوظاً في سعر صرف الدولار مقابل الدينار، بعد أشهر من التقلبات وارتفاع الأسعار التي أثارت مخاوف شعبية واضطراباً في السوق أدت الى ارتفاع أسعار السلع، لكن على الرغم من الانخفاض الحالي مازالت الأسعار مرتفعة.
وأصدر رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، الاثنين الماضي، توجيها “مهما” للدوائر المختصة بمكافحة الجريمة الاقتصادية لمتابعة ومحاسبة المتلاعبين بالأسعار، وخاصة أصحاب المواد الغذائية والأدوية والمخابز والأفران.
وبحسب كتاب صادر عن مكتبه فان توجيه السوداني “يأتي بعد أن شهدت الأسواق العراقية استقرارا ملحوظا في سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الدينار العراقي، في وقت ما زال فيه بعض ضعاف النفوس يصرون على بيع السلع بالأسعار السابقة التي شهدت ارتفاعا كبيرا إبان فترة انخفاض قيمة الدينار أمام الدولار”، مؤكدا، أن “هذا التلاعب يضر بشكل مباشر بالمواطن ويستوجب تدخلا حكوميا حاسما لفرض الرقابة وتطبيق القانون”.
تأثير جهة التصدير
من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي نبيل جبار التميمي، أن “معظم البضائع في السوق تم استيرادها عن طريق المنصة والحوالات الرسمية التي تستورد على السعر الثابت للبنك المركزي فهي لن تتأثر بانخفاض أسعار سعر الصرف في السوق السوداء، إذ لا تتأثر بارتفاعه ولا بانخفاضه”.
ويضيف التميمي، “أما الجزء الثاني من البضائع وخصوصا الإيرانية منها وبعض السلع الأخرى من بلدان مختلفة أو تلك المستوردة من إقليم كردستان فهي تتأثر بأسعار الصرف في السوق السوداء، وتنخفض بانخفاضه”.
لكنه يستدرك أن “هذا الانخفاض في السلع لا يظهر بشكل فوري في العراق، لمحدودية المنافسة وضعف ديناميكية السوق، لذا فإنه سيظهر في الأقل بعد نحو 3 أشهر وبشكل تدريجي”.
ومنذ عامين تراجع سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي بوتيرة تصاعدية وبشكل شبه يومي، حيث وصل سعر الصرف، إلى عتبة 170 ألف دينار، وبلغ في بعض الأسواق والبورصات المالية نحو 175 ألف دينار لكل 100 دولار، وهو رقم قياسي لم يسبق تسجيله من قبل.
وبات التذبذب في سعر الصرف يقض مضاجع العراقيين وشغلهم الشاغل لانعكاساته الكارثية على أوضاعهم المعيشية وقدراتهم الشرائية، التي تراجعت على وقع ارتفاع أسعار السلع والمواد والخدمات الأساسية، طردا مع تراجع قيمة الدينار مقابل الدولار.
حالة عدم اليقين
إلى ذلك، يرى الباحث في الشأن الاقتصادي مصطفى حنتوش، أن “انخفاض الدولار أمر غير واضح إذا ما كان سيستمر أم يعاود الارتفاع، لأنه غير مرتبط بمعالجات عراقية بحتة إنما بتأثير إقليمي خصوصا مع تأثير المفاوضات الإيرانية الأمريكية وارتفاع قيمة العملة الإيرانية”.
ويضيف حنتوش، أن “الأمر الآخر الذي ساهم في انخفاضه، انفتاح الحوالات، الذي قلل ضغط الطلب على الدولار، لذا ليس واضح فقد ينخفض أكثر أو ارتفع”.
ويشير إلى أنه “في حالة انخفاض الدولار يصعب تخفيض الأسعار من قبل التجار بشكل مباشر حتى يتم إنهاء المخزون المستورد والبدء باستيراد سلع جديدة، فسلاسل الإمداد لا تتم بشهر أو شهرين إنما تحتاج إلى وقت قد يستغرق 3 أشهر تقريبا”، مؤكدا أن “محاسبة المتلاعبين بالأسعار حاليا هو أسلوب غير مجد، فخفض الأسعار يجب أن يتم عن طريق المنافسة”.
فجوة بين السعر الرسمي والموازي
ويرى الاقتصاديون أن عدم انخفاض أسعار السلع يرتبط عضوياً بطبيعة الاستيراد، الذي يتم في معظمه عبر المنصة الإلكترونية وبسعر الصرف الرسمي (132 ألف دينار لكل 100 دولار)، ما يعني أن البضائع المستوردة لم تتأثر أصلاً بسعر الدولار الموازي، الذي شهد تذبذبات كبيرة في الأشهر الماضية، وبالتالي فإن انخفاضه لا ينعكس فورياً على أسعار هذه السلع.
هذا ما أكده الخبير الاقتصادي د. نبيل المرسومي، موضحاً أن هامش الربح لدى التجار، والجشع التجاري، يفرضان نوعاً من "المرونة غير المتكافئة"، حيث ترتفع الأسعار بسرعة مع صعود الدولار، لكنها لا تنخفض بنفس الوتيرة عند تراجعه، وهي سمة متكررة في الأسواق الحرة غير المنظمة.
الاقتصاد الحُر وحدود التدخل الحكومي
توجيهات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بمحاسبة المتلاعبين بالأسعار جاءت كرد فعل على هذا الانفصال بين سعر الصرف وسعر السوق، لكن الخبراء يعتبرون هذه التوجيهات "إجراءات غير فعالة" في ظل تبني العراق نظام اقتصاد السوق الحر. فالدولة، وفقاً للمبدأ الاقتصادي، لا تملك سلطة فعلية على التسعير إلا إذا تحولت إلى نموذج اقتصادي اشتراكي يسمح لها بتحديد الأسعار ومحاسبة المخالفين بشكل مباشر.
يؤكد المرسومي أن محاولة الدولة التدخل في تسعير السوق الحر قد تؤدي إلى نتائج عكسية، مثل احتكار بعض السلع أو تقليص حجم التعامل التجاري، داعياً إلى حلول بديلة مثل إنشاء تعاونيات استهلاكية أو تقوية نظام البطاقة التموينية لتأمين المواد الأساسية بأسعار مدعومة.
السوق بطيئة الاستجابة
في المقابل، يشير الخبير الاقتصادي نبيل جبار التميمي إلى أن بعض أنواع السلع، خصوصاً الإيرانية والمستوردة من إقليم كردستان، تتأثر بالفعل بسعر السوق الموازي، لكنها لا تشهد انخفاضاً سريعاً في الأسعار بسبب عوامل عدة، من بينها ضعف المنافسة، ومحدودية ديناميكية السوق العراقية، ووجود مخزونات مستوردة بأسعار مرتفعة لم تُستهلك بعد.
وهذا ما أكده أيضاً الباحث مصطفى حنتوش، الذي شدد على أن استجابة السوق لانخفاض الدولار تحتاج إلى وقت، قد يصل إلى ثلاثة أشهر على الأقل، نظراً لدورات الإمداد والتوريد المعقدة. كما لفت إلى أن خفض الأسعار لا يتم عبر التعليمات الحكومية بل من خلال خلق منافسة حقيقية تحفّز التجار على خفض هوامش أرباحهم لكسب السوق.
تقلب الدولار.. عامل حاسم
جانب آخر لا يقل أهمية، يتمثل في أن انخفاض الدولار لم يكن نتاج سياسة مالية أو نقدية عراقية صلبة، بل نتيجة عوامل خارجية، منها الانفراج النسبي في المفاوضات الإيرانية الأمريكية وانفتاح بوابات الحوالات المالية، ما يجعل هذا الانخفاض عرضة للتبدل في أية لحظة. هذا الغموض في استقرار الدولار يعزز من حالة التردد لدى التجار، الذين يفضلون الحفاظ على أسعارهم المرتفعة لتفادي الخسارة في حال عودة الدولار إلى الارتفاع.
توصيات الخبراء
- عدم الرهان على الإجراءات العقابية: بل التركيز على تعزيز آليات العرض والطلب، وضبط الاحتكار، ودعم الفئات الضعيفة بوسائل مستدامة.
- تنشيط التنافسية في السوق: عبر تسهيلات الاستيراد، ومحاربة الاحتكار، وتنمية القطاع الخاص الصناعي والإنتاجي لتقليل الاعتماد على الخارج.
- مراجعة السياسات الجمركية والضريبية: لتقليل كلفة استيراد السلع الأساسية.
- إطلاق حملات توعية وضغط شعبي: لتحفيز المستهلكين على مقاطعة المنتجات التي لا تعكس تراجع الدولار في أسعارها.
ما تشهده السوق العراقية اليوم من جمود في الأسعار رغم تحسن قيمة الدينار هو نتاج تركيبة اقتصادية معقدة تقوم على الاستيراد، وغياب أدوات رقابية فعالة، وضعف بيئة المنافسة. لذا فإن الحلول السريعة عبر القرارات الحكومية لن تنجح وحدها، ما لم تقترن بإصلاحات هيكلية تضع حجر الأساس لسوق أكثر عدالة واستجابة لمتغيرات الاقتصاد.