المالية تؤكد وتنفي والبرلمان "غاضب".. ما الجديد بملف نقص السيولة وتأخر الرواتب في العراق؟

انفوبلس/ تقرير
تتزايد التصريحات والمؤشرات والتلميحات الرسمية والحكومية، على وجود أزمة مالية في العراق، بعد أشهر من التصريحات التي كانت تقتصر على أعضاء في مجلس النواب والتي تحاول الحكومة ووزارة المالية نفيها بين الحين والآخر، لكن التصريحات الحكومية الرسمية بدأت تؤكد هذه المعلومات بقصد أو دون قصد، فما الجديد في هذا الملف؟
يشكو العديد من الموظفين في العراق من تأخر صرف رواتبهم عن موعدها المحدد، الأمر الذي أثار استياءً كبيرا بين الموظفين مؤخراً الذين يعتمدون بشكل أساسي على رواتبهم لتغطية احتياجاتهم المعيشية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد.
*ما الجديد؟
أكدت وزارة المالية العراقية، رسمياً، وجود عجز كبير لدى الخزينة في تمويل رواتب الموظفين والمتقاعدين ومتقاضي الإعانات الاجتماعية، بعد جدال طويل بهذا الشأن ونفي قطعي من قبل الجهات المعنية في الحكومة.
وأُعلن ذلك في مراسلة رسميّة بين وزارة المالية ومكتب رئيس الوزراء، وحملت توقيع وزيرة المالية طيف سامي، بشأن تثبيت عقود قراء المقاييس على الملاك الدائم.
صدر الكتاب بتاريخ 9 شباط/ فبراير الجاري 2025، ونُشر على المواقع اليوم الثلاثاء، حيث ردّت المالية العراقية على طلب رئاسة الحكومة بتعيين دفعة جديدة من المتعاقدين بصفة دائمة على ملاك وزارة الكهرباء. وجاء فيه: "في حالة الموافقة على إدراج نص يخص تثبيت العقود لقراء المقاييس في وزارة الكهرباء، سوف يؤدي هذا إلى تحمل الخزينة العامّة للدولة أعباءً مالية إضافية، كذلك يؤدي إلى مطالبة بقية الوزارات بالمثل في الوقت الذي تعاني منه الخزينة من عجز كبير في تمويل الرواتب والرواتب التقاعدية وشبكة الحماية الاجتماعية".
لكن بعد ساعات من انتشار الوثيقة على مواقع التواصل الاجتماعي، خرجت وزارة المالية، لتنفي بشكلٍ قاطع وجود أي عجز مالي يؤثر على نفقات الرواتب، واستمرار العمل على ضمان استقرار السياسة المالية وتوفير المستحقات وفق الخطط المعتمدة، وذلك خلال الإعلان عن تمويل رواتب موظفي الدولة لشهر شباط.
إذ ذكرت المالية في بيانها – ورد لشبكة "انفوبلس" - إن دائرة المحاسبة في وزارة المالية باشرت تمويل رواتب موظفي الدولة لشهر شباط الجاري، وفق السياقات المالية المعتمدة والتخصيصات المرصودة ضمن قانون الموازنة العامة، داعية وحدات الإنفاق في الوزارات والمحافظات والجهات غير المرتبطة بوزارة إلى إرسال مخوليهم لاستكمال متطلبات تمويل الرواتب واعتباراً من يوم غد الاربعاء، مع التأكيد على الالتزام بجدول التمويل الشهري المعتمد واستيفاء كافة الإجراءات المطلوبة.
وفي هذا السياق، تؤكد الوزارة التزامها الكامل بصرف مستحقات الموظفين والمتقاعدين والمشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية وفق الجداول الزمنية المحددة، دون أي تأخير أو نقص في التمويل. كما تنفي بشكلٍ قاطع وجود أي عجز مالي يؤثر على نفقات الرواتب، واستمرار العمل على ضمان استقرار السياسة المالية وتوفير المستحقات وفق الخطط المعتمدة، حسب ما جاء في البيان.
المالية النيابية تعلّق
علقت اللجنة المالية النيابية، على إعلان وزارة المالية العراقية العجز المالي لدفع الرواتب بأحد كتبها الرسمية، محذرة من توسّع الأزمة في الأشهر المقبلة. وقال عضو اللجنة محمد نوري، اليوم الثلاثاء، إنه "منذ فترة طويلة أشرنا لوجود عجز مالي حقيقي لدى وزارة المالية بشأن السيولة النقدية لدفع الرواتب، وقد تأخر صرف الرواتب في أحد الأشهر الماضية لأيام بسبب هذا العجز"، منوّهاً إلى أنه "رغم كل ذلك، تنفي وزارة المالية الامر وقد نفت ذلك اليوم أيضاً، رغم اعترافها بهذا العجز بكتاب رسمي صادر منها".
وأوضح نوري، إن "هذا العجز ليس له أي علاقة بقضية معاقبة المصارف العراقية من قبل أميركا، بل هو متعلق باعتماد العراق بشكل كلي على عائدات بيع نفط"، مردفاً أن "أي خلخلة بهذه الأسعار يؤثر على توفير السيولة كذلك على تأخّر إرسال الأموال للعراق أيضاً، فالعراق لا يملك أموال وسيولة نقدية وإنما يبيع النفط ويسدّد بتلك الأموال بشكل مباشر تلك الدفوعات الواجبة وعلى رأسها الرواتب".
وانتقد البرلماني موقف الوزارة وسط مخاوف من توسّع الأزمة خلال الأشهر المقبلة، قائلاً: "يفترض على وزارة المالية بدل تكرار نفي وجود العجز رغم صدور الاعتراف منها، إيجاد حلول سريعة وحقيقية لهذه الازمة التي نخشى أن تتوسع خلال الأشهر المقبلة. وأكيد أننا في اللجنة المالية البرلمانية سوف نتابع هذا الأمر مع الجهات المختصة الحكومية".
وبعد تصريحات وزارة المالية واللجنة المالية النيابية، كشف رئيس مؤسسة عراق المستقبل للبحوث والاستشارة الاقتصادية منار العبيدي، اليوم الثلاثاء، ان العراق شهد خلال عام 2024 تراجعًا ملحوظًا في احتياطياته الرسمية الاجنبية، حيث انخفضت إلى 130 تريليون دينار عراقي بحلول نهاية العام، مسجلة خسارة بلغت 6 تريليونات دينار عراقي خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر وحده، وهو ما يمثل 4% من إجمالي الاحتياطات.
ويقول العبيدي في تدوينة تابعتها شبكة "انفوبلس"، إنه على مدار العام، خسر العراق ما مجموعه 15 تريليون دينار عراقي، أي ما يعادل 10% من احتياطياته الرسمية، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من عامين، حيث كانت الاحتياطيات عند هذا المستوى في نهاية عام 2022، قبل أن ترتفع إلى 147 تريليون دينار عراقي في نوفمبر 2023، ومن ثم تعاود الانخفاض مجددًا مع نهاية 2024.
ويعود هذا التراجع إلى عدة عوامل رئيسية، في مقدمتها ارتفاع النفقات الحكومية، حيث لم تتمكن الإيرادات من تحقيق مستويات كافية لتغطية المصاريف المتزايدة، مما استدعى اللجوء إلى الاحتياطيات لسد العجز المالي وتمويل النفقات التشغيلية والاستثمارية التي لا تزال في تصاعد مستمر. إلى جانب ذلك، هناك عوامل أخرى ساهمت في هذا الانخفاض، مما يفرض تحديات اقتصادية تستوجب مراجعة السياسات المالية لضمان استقرار الاحتياطات النقدية في المستقبل، بحسب العبيدي.
*تصريحات وتلميحات تؤكد الأزمة
وفي تعليق قد يبدو هامشيًا، إلا أنه يكشف عن حجم الخطورة المالية التي تشهدها الدولة، ففي مناشدة وردت من أحد المواطنين على الحساب الرسمي لوزير الإعمار والإسكان بنكين ريكاني مؤخراً، طالبه بـ"تبليط" الأنفاق الموجودة على شارع القناة، حيث يتضح من الطلب مدى بساطته حيث تحتاج المشكلة الى "تبليط جزئي وإعادة ترقيع لمسافات صغيرة للأنفاق فقط".
لكن وزير الإعمار والإسكان بنكين ريكاني رد على طلب المواطن بالقسم على عدم وجود الأموال قائلا: "والله ماعدنا فلوس"، ما يكشف حجم الأزمة المالية التي لا تستطيع أن تعيد ترقيع التبليط في بعض الشوارع.
ويأتي هذا التعليق الصادرة من وزير الإعمار والإسكان ليعزز ما كشفه محافظ واسط محمد المياحي قبل أيام عندما "صارح" جمهور المحافظة بأن عام 2025 قد يكون بلا مشاريع للمحافظة لأن بغداد لديها أزمة مالية.
ويعلق الخبير في الشأن المالي والاقتصادي نبيل جبار التميمي، على آلية معالجة الحكومة لأزمة نقص السيولة المالية والتي تسببت بتأخير صرف رواتب الموظفين. ويقول التميمي، إن "وجود أزمة في السيولة بالعادة يكون نتيجة لواحد من سببين، أما لخلل في إعداد الموازنة التي عادة ما تكون تقديرية (واقعية) للإيرادات وتصميم النفقات استنادا للإيرادات"، موضحا "أو لسبب آخر وهو حدوث أمر ما عطّل تدفق النقود الى خزينة الدولة وتسبب في تغيير حجم الإيراد للدولة".
ويضيف التميمي، إنه "لا يمكن القول بوجود السبب الثاني، فالخلل الأساس هو بتصميم الموازنة وإدارتها خلال السنة، فموازنة الحكومة وضعت تقديرات إنفاق كبيرة تتجاوز حجم إيراداتها بكثير"، مستدركا بالقول، إن "هذا هو السبب المباشر الذي أحرجت به الحكومة نفسها من خلال هذا الحجم من الإنفاق في ظل ضعف تدوير الأموال داخليا ومنها الأموال النفطية والتي يتطلب تدويرها وتحويلها من دولار الى دينار الى وجود حوالات أكبر صادرة من البنك المركزي وتدوير ديناميكي للإيراد غير النفطي وتفعيل حساب الخزينة الموحد".
ويتابع الخبير في الشأن المالي والاقتصادي، إن "الكثير من الخطوات التي تستطيع من خلالها الحكومة توفير السيولة"، مشددا على أنها "لم تصل الى حد الأزمة الكبيرة بل أصبح تحديا مستمرا لها".
في حزيران 2023، أقرّ مجلس النواب العراقي الموازنة المالية العامة للبلاد لسنوات 2023 و2024 و2025، عقب سلسلة جلسات عقدها البرلمان. وتعتبر الموازنة المعتمدة، الأضخم في تاريخ البلاد، حيث تبلغ قيمتها نحو 153 مليار دولار لكل عام، مع تسجيل عجز مالي كبير يقدر بنحو 48 ملياراً سنوياً، وهو الأعلى حتى الآن ويزيد على أكثر من ضعفي العجز المسجل بآخر موازنة لعام 2021.
وفي حزيران 2024، أقر مجلس النواب الموازنة العامة الاتحادية للعام الحالي، وتضمّنت 156 تريليون دينار موازنة جارية، و55 تريليوناً للجانب الاستثماري موزعة بين الوزارات والمحافظات.
وكان أستاذ الاقتصاد الدولي، نوار السعدي، قد كشف مؤخراً، أسباب فشل السياسة النقدية في العراق، فيما بين الجهة التي تتحمل مسؤولية هذا الفشل. ويقول السعدي، إن "هناك عدة أسباب لفشل السياسة النقدية، منها التضخم الكبير في الإنفاق الحكومي، حيث يتجاوز الإنفاق الحكومي الإيرادات المتاحة، لذا تأثرت السياسة النقدية بزيادة الإنفاق على البنية التحتية والخدمات العامة دون توافر مصادر تمويل كافية".
ويبين، إن "السبب الثاني هو الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية حيث يجعل الاقتصاد العراقي عرضة لتقلبات أسعار النفط، مما يؤثر سلبًا على قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات نقدية فعالة. بالإضافة إلى ضعف البنية التحتية المالية حيث يعاني النظام المصرفي والمالي في العراق من نظام تقليدي يفتقر إلى الحداثة في تقديم الخدمات المالية المتطورة، مما يجعل من الصعب على البنك المركزي تنفيذ سياسات نقدية فعالة بما يضمن الاستقرار الاقتصادي".
ويكشف، إنه "في حالة العراق، البنك المركزي في البلد هو الجهة المسؤولة عن وضع وتنفيذ السياسة النقدية، بما في ذلك تحديد سعر الفائدة وإدارة العرض النقدي، ومع ذلك، أيضا لدى الحكومة لها دور في تحديد السياسات الاقتصادية العامة التي قد تؤثر على السياسة النقدية، مثل الإنفاق الحكومي وسياسات التجارة الخارجية وغيرها".
ويكمل، إن "أبرز سلبيات وأخطاء ومشاكل السياسة النقدية في العراق، هو ان العراق يعاني الان من التضخم المفرط فهناك زيادة كبيرة في العرض النقدي والطلب في التضخم المفرط، مما يؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين ويضعف الاستقرار الاقتصادي، ناهيك عن العجز الحاصل في الميزانية كنتيجة لتفاوت الإنفاق والإيرادات، يواجه العراق عجزًا في الميزانية يتطلب تمويلًا إضافيًا من البنك المركزي أو الاقتراض الخارجي كما حصل في السنوات السابقة وخاصه فترات انخفاض النفط والحروب مع داعش، وبالطبع أيضا تقلبات سعر الصرف في السنتين الأخيرة لعبت دور كبير في عدم الاستقرار في الأسواق المالية وتأثير سلبي على الاستثمار والتجارة الخارجية".
وختم أستاذ الاقتصاد الدولي قوله: "أعتقد من الصعب تحديد الخسائر بدقة بسبب تعدد العوامل والتفاوت في التقديرات وايضا تضارب الأرقام من الجهات المعنية، ولكن يمكن أن تتضمن الخسائر فقدان الثقة في العملة، وتداول غير مستقر، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وزيادة الدين العام نتيجة لعجز الميزانية وزيادة التضخم، كما يمكن أن تصل هذه الخسائر إلى مليارات الدولارات سنويًا، مما يجعل الحاجة إلى إصلاحات جدية في السياسة النقدية أمرًا ملحًا في العراق".
وفي تقرير نشرته مؤسسة "عراق المستقبل" المستقلة المعنية بالشؤون الاقتصادية مؤخرا، كشف عن أن العراق يُعد الدولة الأكبر بعدد الموظفين الحكوميين نسبة إلى مجمل القوى العاملة، بالاعتماد على دراسة أعدّتها منظمة العمل الدولية وبيانات المؤسسة.
وفي نهاية العام الماضي 2024، أكد الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، أن رواتب الموظفين والرعاية الاجتماعية تلتهمان الموازنة العامة للعراق، حيث بلغت رواتب الموظفين 49.456 تريليون دينار حتى أكتوبر 2024، فيما وصل الإنفاق على الرعاية الاجتماعية إلى 22 تريليون دينار، ليشكل الإجمالي أكثر من 71% من الإنفاق التشغيلي.
وذكر المرسومي في تدوينة عنوانها "الرواتب والرعاية الاجتماعية يلتهمان الموازنة العامة!!"، تابعتها شبكة "انفوبلس"، "بلغت رواتب الموظفين على الملاك الثابت فقط 49.456 تريليون دينار لغاية شهر تشرين الأول 2024 وبمتوسط شهري بلغ 4.9 تريليون دينار وهو الأعلى في تاريخ العراق، فيما وصل الإنفاق على الرعاية الاجتماعية خلال نفس الفترة إلى 22 تريليون دينار.
وأضاف، "مجموع هاتين الفقرتين يبلغ 71.456 تريليون دينار ويشكلان أكثر من 71% من الإنفاق التشغيلي ويستحوذان على ثلثي الإيرادات النفطية التي تحققت خلال تلك الفترة".