تضخم يتراجع وذهب يرتفع وقطاع خاص ينتعش.. مؤشرات ربع أول 2025 تكشف تحولاً في بنية السوق

انفوبلس/..
في وقت كانت تتجه فيه الأنظار نحو أداء الاقتصاد العراقي في ظل التغيرات الداخلية والتقلبات الإقليمية، جاء تقرير البنك المركزي العراقي للربع الأول من عام 2025 ليحمل جرعة من التفاؤل، مدعومة بأرقام وبيانات واقعية تشير إلى تحسن ملموس في البيئة الاقتصادية والمالية للبلاد.
فمن تراجع معدلات التضخم إلى ارتفاع احتياطي الذهب، مرورًا بـ انخفاض تحويلات العملة إلى الخارج، ونمو التمويل الموجه للقطاع الخاص، تؤكد المؤشرات أن العراق بدأ يجني ثمار سياسات نقدية ومالية اتسمت بالانضباط والمرونة، في وقت حرج من مسيرته نحو تنويع مصادر دخله وتثبيت قواعد استقراره الاقتصادي.
*تراجع التضخم… نجاح للسياسة النقدية أم انعكاس لركود السوق؟
أبرز ما ورد في التقرير الصادر عن البنك المركزي العراقي كان انخفاض معدل التضخم إلى 2.2% خلال الربع الأول من عام 2025، مقارنة بـ 2.8% في الربع الأخير من عام 2024، مسجلاً بذلك تراجعًا بنسبة 21%، وهو ما يُعد تحوّلًا لافتًا في أداء السوق العراقي.
ووفقًا للمستشار المالي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح، فإن هذا الانخفاض يعود إلى ثلاثة عوامل مترابطة شكّلت ما وصفه بـ”المتلازمة الاقتصادية الفعالة”. أولها، كان القرار الحاسم بإغلاق نافذة بيع العملة الأجنبية في البنك المركزي، والتحول نحو الاعتماد على المصارف الوطنية والمراسلين الدوليين للحصول على الدولار، بما يتوافق مع معايير الامتثال المصرفي العالمية، وخصوصًا فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال.
هذا التحول في آلية بيع الدولار لم يؤثر فقط على حجم السيولة الأجنبية المتداولة، بل ساهم بشكل مباشر في تقليص زمن التحويلات الخارجية إلى النصف، وتقوية سعر الصرف الرسمي، وهو ما انعكس على انخفاض السوق الموازي بأكثر من 15 نقطة منذ بداية العام.
*دعم حكومي مركّز: توسيع برامج الرعاية وتثبيت الأسعار
العامل الثاني في انخفاض التضخم، بحسب صالح، كان تنفيذ سياسات مالية داعمة للاستهلاك العام. فقد اتجهت الحكومة إلى توسيع برامج الدعم في الموازنة العامة، لا سيما تلك المتعلقة بـ سلات الغذاء ودعم الوقود، فضلًا عن مضاعفة مخصصات الرعاية الاجتماعية للعائلات ذات الدخل المحدود، وهي برامج تمثل أكثر من 13% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما العامل الثالث، فيتعلق باستخدام الدولة لنظام “الهايبر ماركت” كأداة دفاعية لضبط السوق، من خلال تقديم السلع الأساسية بأسعار مدعومة ومنظمة، ما ساهم في زيادة العرض السلعي وخفض الضغط على الأسعار في السوق المفتوحة.
*تحويلات العملة إلى الخارج تنخفض.. والسيولة تحت السيطرة
من بين المؤشرات اللافتة التي حملها تقرير البنك المركزي العراقي، تراجع تحويل العملة إلى الخارج بنسبة 0.6%، حيث بلغ إجمالي التحويلات 99.9 تريليون دينار في الربع الأول من 2025، مقارنة بـ 100.5 تريليون دينار في الربع الأخير من 2024.
هذا التراجع الطفيف لكنه المعبّر، يعكس بحسب البنك المركزي ترشيدًا في إدارة العملة الأجنبية، وتعزيزًا لآليات تمويل التجارة الخارجية عبر القنوات النظامية، بعيدًا عن المضاربات وعمليات السوق غير الرسمية التي طالما أثّرت على استقرار الدينار في السنوات الماضية.
*القطاع الخاص يستفيد: قفزة في التمويل وتعزيز للثقة
أبرز إشارات التعافي ظهرت في ارتفاع الكتلة النقدية الممنوحة للقطاع الخاص، والتي بلغت 44.1 تريليون دينار في الربع الأول من 2025، بزيادة قدرها 1.1% مقارنة بالربع السابق الذي سجل 43.6 تريليون دينار.
رغم أن هذه النسبة تبدو محدودة من حيث الحجم، فإنها تحمل دلالات مهمة على دور القطاع المصرفي في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحسين قدرة الأفراد على الوصول إلى التمويل في ظل نظام مصرفي يسعى للتوسع والانتشار.
هذا التقدم، كما يوضّح التقرير، يأتي ضمن إطار تعزيز الشمول المالي في البلاد، وهو هدف استراتيجي للبنك المركزي ضمن رؤيته للمرحلة القادمة.
*الذهب يتلألأ في خزائن المركزي: نمو قوي في الاحتياطي
في مؤشر على قوة السياسة الاحتياطية وحرص العراق على تأمين غطاء نقدي آمن، سجّل احتياطي الذهب لدى البنك المركزي العراقي نموًا بنسبة 19%، ليصل إلى 21.2 تريليون دينار في الربع الأول من 2025، مقارنة بـ 17.8 تريليون دينار نهاية 2024.
هذه القفزة تعكس استراتيجية تنويع الأصول الاحتياطية وتحصين الاقتصاد أمام أي صدمات محتملة، سواء داخلية أو ناتجة عن تذبذب أسعار النفط أو الاضطرابات الجيوسياسية في المنطقة.
*تحليل موازٍ: العوامل الخارجية بين الفرصة والتهديد
الخبير الاقتصادي علي دعدوش قدّم قراءة موازية لهذه المؤشرات، لافتًا إلى أن تراجع التضخم لا يعود فقط إلى العوامل الداخلية والسياسات الحكومية، بل يتأثر أيضًا بـ تطورات جيوسياسية إقليمية، أبرزها الصراع القائم بين الكيان الإسرائيلي وإيران.
وبحسب دعدوش، فإن انقطاع سلاسل التوريد من إيران، التي يعتمد العراق على استيراد نسبة كبيرة من السلع منها، أدى إلى انكماش مؤقت في الطلب، ما دفع الكثير من التجار إلى تقليص الكميات المستوردة وتقليل النشاط التجاري، وبالتالي ساهم في انخفاض الأسعار محليًا بسبب ضعف الطلب، وفق قوله.
*تجربة نقدية ناجحة أم تحوّل مؤقت؟
من خلال المعطيات الواردة في التقرير الفصلي، يمكن القول إن العراق يعيش واحدة من أنجح فتراته في إدارة السياسة النقدية منذ سنوات. فالتوازن بين كبح التضخم، واستقرار سعر الصرف، وتحفيز التمويل المحلي، يمثل معادلة اقتصادية معقدة، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تضافر السياسات النقدية والمالية.
ومع ذلك، تبقى هذه النجاحات مهددة إذا لم يتم تعزيزها بخطوات استراتيجية طويلة الأمد، تشمل:
• تنمية القاعدة الإنتاجية المحلية
• تحسين بيئة الأعمال لجذب الاستثمار
• توسيع نظام الدفع الإلكتروني
• استمرار ضبط نوافذ بيع العملة والرقابة على السوق الموازي
*الطريق إلى اقتصاد أكثر توازنًا
يؤكد تقرير البنك المركزي أن الاقتصاد العراقي بدأ بالفعل في الخروج من عنق الزجاجة النقدية، مع ظهور مؤشرات تدل على انتقال تدريجي نحو اقتصاد أكثر توازنًا واستقرارًا.
ولكن يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن العراق من الحفاظ على هذا المسار التصحيحي؟ الجواب مرتبط بقدرة الحكومة على الاستمرار في تنفيذ سياسات متماسكة، بعيدة عن التجاذبات السياسية، وقريبة من أولويات المواطن والقطاع الخاص.
في الوقت الراهن، يبدو أن العراق أمام فرصة ذهبية – بكل معنى الكلمة – لتثبيت قواعد اقتصاده، والانطلاق نحو مرحلة جديدة عنوانها: التنمية المستدامة والتنويع الحقيقي لمصادر الدخل.