توقعات بانكماش كبير.. بعد فترة من التفاؤل.. الاقتصاد العراقي يعود لمناطق الخطر متأثراً بعوامل داخلية وخارجية

انفوبلس..
في ظل تراجع أسعار النفط وتفاقم الدين الداخلي، يواجه الاقتصاد العراقي تحديات حادة تهدد استقراره المالي. صندوق النقد الدولي يتوقع انكماشاً بنسبة 1.5% في 2025، ويحذر من مخاطر تصاعد العجز وتزايد الديون، في وقت تعجز فيه الإيرادات عن مجاراة النفقات الحكومية المرتفعة.
أرقام متشائمة
توقع صندوق النقد الدولي، في أحدث تقرير له أمس الثلاثاء، انكماش الاقتصاد العراقي بواقع 1.5% هذا العام، على أن يعود للنمو في 2026 بمعدل 1.4%، على خلفية تراجع أسعار النفط وتوقعات بتباطؤ الطلب بسبب ركود الاقتصاد العالمي المحتمل الناتج عن الحرب التجارية.
واللافت في توقعات الصندوق بتقرير آفاق الاقتصاد العالمي لشهر نيسان/ أبريل الجاري، هو التراجع الكبير عن تقديراته في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 والتي كانت تقدر نمو اقتصاد العراق بنسبة 4.1% خلال 2025.
ويعتمد الاقتصاد العراقي بشكل كبير على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي، حيث تشكل عائدات النفط أكثر من 90% من إيرادات الدولة، ما يجعله عرضة للتأثر بالتقلبات في أسعار النفط العالمية.
وشهدت أسعار النفط تراجعاً حاداً هذا الشهر، لامست خلاله أدنى مستوياتها في أربع سنوات، وسط مخاوف المستثمرين من أن يؤدي التصعيد المتبادل في الرسوم الجمركية بين أميركا وشركائها التجاريين إلى تراجع الطلب على الخام.
وزادت الضغوط مع قرار تحالف "أوبك+" بإعادة الإنتاج بوتيرة أسرع من المتوقع، ما أعاد إلى الواجهة المخاوف من تخمة محتملة في المعروض. قرر التحالف رفع إنتاج النفط بنحو 411 ألف برميل يومياً اعتباراً من شهر أيار/ مايو المقبل، أي ما يعادل ثلاثة أشهر من الزيادات المخطط لها.
وفي ظل مطالبات متزايدة للالتزام بحصته الإنتاجية ضمن اتفاق "أوبك+"، كشف مسؤول مطلع، طلب عدم الكشف عن هويته نظراً لسرية الأرقام، أن العراق يخطط لخفض صادراته النفطية بحوالي 100 ألف برميل يومياً إلى 3.2 مليون برميل يومياً في المتوسط خلال الشهر المقبل، حسبما ذكرت "بلومبرغ".
ويقدّر صندوق النقد الدولي أن العراق يحتاج إلى سعر نفط يبلغ 92 دولاراً للبرميل لتغطية الإنفاق الحكومي العام الجاري، فيما يجري تداول عقود خام برنت المستقبلية قرب مستوى 65 دولاراً.
ويتوقع الصندوق أن يبلغ متوسط سعر النفط هذا العام 66.9 دولارا للبرميل، بانخفاض نسبته 15.5% عن العام الماضي. على أن ينخفض مجدداً إلى 62.4 دولار للبرميل في2026.
توقع سابق
وتجدر الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي قال، في أيار الماضي، إن الاقتصاد العراقي انكمش بنسبة 2.2 في المائة عام 2022، متوقعاً نموه بنسبة 1.4 في المائة في 2024 و5.3 في المائة في 2025. كما توقع اتساع عجز الموازنة العراقية إلى 7.6 في المائة في 2024 من 1.3 في المائة في 2023. وأشار الصندوق إلى أن هناك حاجة إلى تعديل مالي تدريجي، لكن كبير، في العراق لتحقيق الاستقرار في الديون على المدى المتوسط وإعادة بناء الاحتياطيات المالية.
وكان المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي اختتم مشاورات المادة الرابعة مع العراق، وأشار في بيان إلى تحسن الاستقرار الداخلي منذ أن تولت الحكومة الجديدة مهامها في أكتوبر (تشرين الأول) 2022؛ مما سهّل إقرار أول موازنة للعراق مدتها ثلاث سنوات، والتي استلزمت توسعاً مالياً كبيراً بدءاً من عام 2023. وقد دعم ذلك التعافي القوي في الاقتصاد غير النفطي في العراق بعد انكماش في عام 2022 – 2023، في حين لم يتأثر العراق إلى حد كبير بالصراع الدائر في المنطقة.
وقال الصندوق، إن التضخم المحلي في العراق انخفض إلى 4 في المائة بحلول نهاية عام 2023؛ مما يعكس انخفاض أسعار المواد الغذائية الدولية، وإعادة تقييم العملة ابتداءً من فبراير (شباط) 2023، وعودة تمويل التجارة إلى طبيعته.
لكنه أشار إلى تفاقم الاختلالات بسبب التوسع المالي الكبير وانخفاض أسعار النفط، متوقعاً أن يؤدي التوسع المالي المستمر إلى تعزيز النمو في عام 2024، على حساب المزيد من التدهور في الحسابات المالية والخارجية وضعف العراق أمام تقلبات أسعار النفط. وقال: «من دون تعديل السياسات، فإن مخاطر ضغوط الديون السيادية متوسطة الأجل مرتفعة ويمكن أن تنشأ مخاطر على الاستقرار الخارجي. وتشمل المخاطر السلبية الرئيسية انخفاض أسعار النفط بشكل كبير أو انتشار الصراع في غزة وإسرائيل».
كما توقع أن يبلغ دين الحكومة العراقية 48.2 في المائة من الناتج المحلي في 2024 و54.6 في المائة في 2025. وأكد المديرون في بيانهم أن هناك حاجة إلى تعديل مالي تدريجي، لكن كبير، لتحقيق استقرار الدين على المدى المتوسط وإعادة بناء هوامش الأمان المالية، وشجّعوا السلطات على التركيز على السيطرة على فاتورة الأجور العامة، والإلغاء التدريجي لسياسات التوظيف الإلزامية، وتعبئة الإيرادات غير النفطية، مع توجيه المساعدات الاجتماعية بشكل أفضل. واتفق المديرون على أن التنفيذ الفوري لإصلاحات إدارة الجمارك والإيرادات، والتنفيذ الكامل لحساب الخزانة الموحد، والرقابة الصارمة والحد من استخدام الأموال من خارج الميزانية والضمانات الحكومية، هي أمور أساسية لدعم ضبط أوضاع المالية العامة. ومن المهم أيضاً الحد من التمويل النقدي وإصلاح نظام التقاعد.
وأشاد المديرون بجهود المصرف المركزي لتشديد السياسة النقدية وتعزيز إطار إدارة السيولة. ومن شأن تحسين التنسيق بين العمليات المالية والنقدية أن يساعد على امتصاص السيولة الفائضة وتعزيز انتقال السياسة النقدية. واتفقوا على أن تسريع عملية إعادة هيكلة البنوك الكبيرة المملوكة للدولة أمر ضروري أيضاً. وشجعوا على مواصلة تحديث القطاع المصرفي الخاص، من خلال تسهيل إنشاء علاقات مصرفية مراسلة، والحد من الشكوك التنظيمية، وتعزيز كفاءة البنوك الخاصة وقدرتها التنافسية.
وشدد المديرون على ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية لإطلاق العنان لتنمية القطاع الخاص، وشجعوا على تكافؤ الفرص بين الوظائف العامة والخاصة، وتعزيز مشاركة المرأة في القوى العاملة، وإصلاح قوانين التعليم والعمل. واتفق المديرون على أن تحسين الحوكمة ومكافحة الفساد أمران أساسيان أيضاً، وشجعوا على مواصلة تعزيز إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز أنظمة المشتريات العامة والأعمال التجارية، ومعالجة أوجه القصور في قطاع الكهرباء.
ورحب المديرون بالجهود المتجددة نحو الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. كما شجعوا السلطات على تحسين تغطية الإحصاءات وتوقيتها.
أزمة الدين الداخلي
أطلقت العديد من الهيئات المالية الدولية وخبراء الاقتصاد، صرخات تحذير من كارثة تهدد مستقبل الاقتصاد العراقي نتيجة ارتفاع الدين الداخلي إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، لتغطية العجز الكبير في الميزانية، وسط نقص السيولة المالية ومخاوف حقيقية من انخفاض متوقع لأسعار النفط العالمية، ما يعرض الرواتب والمشاريع إلى مخاطر عميقة.
وتسود هذه الفترة لدى الموظفين والمتقاعدين في العراق مخاوف جدية من عدم تمكن الحكومة من دفع رواتبهم في حال استمرار مستوى الإنفاق الحكومي المرتفع مقابل تدني الموارد المالية، وخاصة بعد أن أطلق العديد من الخبراء الاقتصاديين تحذيرات من عواقب انخفاض أسعار النفط العالمية لأقل من 60 دولارا، حيث سيشكل ذلك أعباء ثقيلة على الاقتصاد العراقي ويضع الحكومة في موقف صعب في توفير مستحقات الرواتب والمشاريع.
تحذيرات الخبراء من الكارثة
وفي ضوء المخاوف من تزايد أعباء الدين الداخلي، حذر العديد من خبراء الاقتصاد والمال من المخاطر المتوقعة لارتفاع الدين العام.
وحذر الخبير الاقتصادي، منار العبيدي، من «خطورة» ارتفاع الدين الداخلي في العراق، الذي أكد أنه شهد ارتفاعًا خلال سنة واحدة، ما يعادل 4 سنوات من 2020 إلى 2023.
وذكر العبيدي في تدوينة على مواقع التواصل، أنه "خلال عام واحد، شهد الدين الداخلي للعراق زيادة كبيرة بمقدار 13 تريليون دينار عراقي، وهو ما يمثل 4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي"، مبينًا أن "هذه الزيادة في الدين الداخلي خلال سنة واحدة فقط فاقت حجم الزيادة المسجلة خلال أربع سنوات كاملة من 2020 إلى 2023، حيث ارتفع الدين الداخلي خلال تلك الفترة بـ 6 تريليون دينار فقط، أي ما يعادل 2 في المئة من الناتج المحلي".
وبالنسبة للعبيدي، فإن "اللافت أن هذه الزيادة جاءت رغم ارتفاع أسعار النفط في عام 2024 مقارنة بالسنوات الأربع السابقة، ما كان من المفترض أن يخفف من الحاجة إلى الاقتراض الداخلي، إلا أن زيادة الدين الداخلي رفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لتصل إلى 25 في المئة". ونوه العبيدي إلى "أن استمرار النمو السنوي للدين بنفس الوتيرة، إلى جانب احتمال انخفاض أسعار النفط في المستقبل، قد يؤدي إلى تجاوز نسبة الدين 60 في المئة من الناتج المحلي، وهو مستوى خطير ربما يعرضه إلى خفض تقييمه الائتماني الدولي".
ويوضح العبيدي الخلل في "كيفية توجيه الدين الداخلي، حيث يتم إنفاق معظم هذه الأموال على نفقات تشغيلية بدلاً من توجيهها نحو مشاريع استثمارية إنتاجية»، مؤكدًا أن «هذه النفقات التشغيلية لا تخلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني ولا تسهم في تحسين الناتج المحلي، ما يجعل عملية سداد هذا الدين أكثر تعقيدًا في المستقبل"، مبينًا أن "13 تريليون دينار عراقي كزيادة سنوية في الدين الداخلي ليس مجرد رقم، بل جرس إنذار يتطلب من صناع القرار إعادة النظر في استراتيجيات الإنفاق. من الضروري توجيه هذه الأموال نحو مشاريع استثمارية يمكنها تعزيز الاقتصاد الوطني ورفع الناتج المحلي، بدلاً من الاعتماد عليها لتغطية النفقات التشغيلية المتزايدة".
وكشف العبيدي أن "كل هذه التحديات الاقتصادية تعود إلى ارتفاع النفقات العامة، ما يستدعي ترشيد الانفاق وتوجيهه بالاتجاه الصحيح. إذا لم يتم اتخاذ خطوات فورية لضبطه، سنواجه في المستقبل القريب مستويات غير متوقعة من الدين، ما سيضع الاقتصاد العراقي في وضع لا يُحمد عقباه"، مؤكدا أن "معالجة مشكلة الدين الداخلي تتطلب إرادة سياسية قوية وخططًا اقتصادية مستدامة، لأن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية أعمق لا يمكن الخروج منها بسهولة".
وكشف الخبير الاقتصادي محمود داغر، عن وصول الاقتصاد العراقي إلى حالة الحرج، لافتاً إلى أن الوضع المالي لا يسمح بدفع غير الرواتب، والدين العام الداخلي ازداد من 69 ترليون دينار إلى 85 ترليونا، ولا توجد مبالغ لأي شيء آخر للمشاريع، مذكراً بوضع العراق أيام التسعينات (الحصار) في حال فرضت عقوبات على مصارف مهمة، فيما نصح الحكومة باعتماد سعر 60 دولاراً لبرميل النفط في موازنة 2025، كما دعا النواب الذين يفهمون في الاقتصاد إلى تشكيل لوبي لتغيير الاتجاهات الاقتصادية والضغط للحد من الانفاق الاستهلاكي.
وكشف داغر وخبراء اقتصاد آخرون سبب لجوء حكومة بغداد إلى الاقتراض الداخلي وليس الخارجي، وهو ان البنك الدولي يضع العراق ضمن الدول المتوسطة في الاقتصاد، وهو مستوى يمنع البنك من منح القروض لتلك الدول لكون وضعها المالي غير سيء، في ضوء حجم تصديرها للنفط.