حصة الأسد لـ7 جهات.. الانفجار في الإنفاق على الرواتب وتداعياته على الاستدامة المالية في العراق

انفوبلس..
شهد الإنفاق الحكومي في العراق بين عامي 2019 و2024 تصاعداً حاداً في مخصصات الرواتب، حيث استحوذت سبع جهات فقط على 93% منها. هذا التمركز في النفقات التشغيلية، المصحوب بارتفاع غير مسبوق في رواتب بعض الوزارات، يثير مخاوف جدية بشأن الاستدامة المالية والعدالة الاقتصادية.
وحول الملف، كتب الخبر الاقتصادي منار العبيدي منشوراً على صفحته في فيسبوك تحدث فيه عن هي الجهات الحكومية التي استحوذت على النسبة الأكبر من الرواتب والزيادات بين عامي 2019 و2024.
وقال: "تشير مراجعة بيانات الإنفاق الحكومي في العراق بين عامي 2019 و2024 إلى أن سبع جهات حكومية فقط استحوذت على نحو 93% من مجموع الرواتب المركزية للدولة، مما يعكس تمركزًا شديدًا في توزيع النفقات التشغيلية".
وأضاف إنه "في مقدمة هذه الجهات، وزارة الداخلية التي تصدرت القائمة بحصة بلغت 22% من مجمل الرواتب في عام 2024، حيث وصلت قيمة رواتبها إلى نحو 13 تريليون دينار، مقارنة بـ 10.5 تريليون دينار في عام 2019".
وتابع: "تلتها وزارة التربية بنسبة 18% من مجموع الرواتب، إذ ارتفعت مخصصاتها من 1.74 تريليون دينار في 2019 إلى 10.7 تريليون دينار في 2024، أي بزيادة مذهلة بلغت 513%، وهي الأعلى بين جميع الوزارات".
وأشار إلى إن "رواتب حكومة إقليم كردستان، فقد ارتفعت من 4.58 تريليون دينار في 2019 إلى 9.2 تريليون دينار في 2024، مستحوذة بذلك على 15.3% من إجمالي الرواتب المركزية، وبنسبة نمو بلغت 101%".
وبين إنه "في قطاع الصحة، شهدت وزارة الصحة زيادة كبيرة في رواتبها بنسبة 466%، حيث ارتفعت من نحو 1 تريليون دينار في 2019 إلى 5.9 تريليون دينار في 2024".
ونوه إلى إن "الأمانة العامة لمجلس الوزراء والهيئات التابعة لها ارتفاعًا في رواتبها بنسبة 80%، لتنتقل من 3.5 تريليون دينار إلى 6.34 تريليون دينار خلال الفترة ذاتها".
وأكد إنه "في المقابل، لم تستحوذ باقي الوزارات والمحافظات مجتمعة سوى على 6.5% فقط من مجموع الرواتب المركزية، ويُشار إلى أن هذه الأرقام لا تشمل الوزارات والجهات ذات التمويل الذاتي، مثل بعض تشكيلات وزارات الكهرباء، النفط، والاتصالات".
وختم منشوره بالقول: "بذلك، فإن الزيادة الكلية في مخصصات الرواتب المركزية بين عامي 2019 و2024 بلغت نحو 48%، وهو معدل نمو مرتفع يُشكل عبئًا ثقيلًا على أي حكومة مستقبلية، نظرًا لتأثيره المباشر على استدامة الإنفاق العام والموارد المالية للدولة".
يشير الاستعراض الرقمي الذي قدّمه الخبير الاقتصادي منار العبيدي إلى تحول هيكلي مقلق في تركيبة الإنفاق الحكومي العراقي خلال السنوات الخمس الأخيرة، يُنذر بتحديات عميقة على صعيد الاستدامة المالية والتنمية الاقتصادية. وإذا كانت الزيادة في مخصصات الرواتب المركزية بنسبة 48% بين عامي 2019 و2024 تعكس تحسناً في بعض الجوانب المعيشية للموظفين، إلا أن هذه الزيادة تثير في الوقت ذاته تساؤلات جوهرية حول كفاءة الإنفاق العام، وغياب الإصلاح الهيكلي، وانزياح الأولويات نحو النفقات التشغيلية على حساب الاستثمار والتنمية.
خلل هيكلي
البيانات تُظهر أن 93% من إجمالي الرواتب المركزية تذهب لسبع جهات حكومية فقط، في مقدمتها وزارات الداخلية والتربية والصحة، إضافة إلى حكومة إقليم كردستان. هذا التركيز لا يُعبر فقط عن مركزية الدولة، بل يكشف أيضاً عن غياب توزيع عادل للموارد بين المؤسسات والمحافظات، ويُعيد فتح النقاش حول الفجوة بين المركز والأطراف، وبين القطاعات الخدمية والقطاعات الإنتاجية.
وإذا أخذنا وزارة التربية كمثال، فإن الزيادة التي تجاوزت 500% في مخصصاتها تُثير تساؤلات لا تتعلق فقط بعدد الموظفين، بل بكفاءة النظام التعليمي نفسه، ومستوى الخدمة المقدمة، والعائد الفعلي لهذا الإنفاق على جودة التعليم، الذي لا يزال يعاني من ضعف البنى التحتية وتدني الأداء في المؤشرات الدولية.
عبء التوظيف السياسي وضعف الإنتاجية
التضخم الوظيفي في الوزارات، وخصوصاً الأمنية والخدمية، يرتبط جزئياً بما يُعرف بـ"التوظيف السياسي" أو التعيينات الانتخابية، وهي ممارسات تُستخدم كأداة لكسب التأييد الشعبي على حساب الكفاءة المالية. ويُقدر أن أكثر من 60% من موازنة الدولة تُستهلك في النفقات الجارية، معظمها رواتب وأجور، مما يُقلل من حصة الاستثمار في البنية التحتية أو القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة.
وفي هذا السياق، تُظهر مؤشرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن العراق يواجه "مخاطر متزايدة في المدى المتوسط" في حال استمرار الإنفاق بهذا النمط دون تبني إصلاحات جذرية تشمل إعادة هيكلة القطاع العام، وتحويل جزء من العمالة إلى قطاعات إنتاجية تدعم الناتج المحلي الإجمالي.
اقتصاد ريعي ونفقات غير مستدامة
تعتمد الحكومة العراقية في تمويل موازناتها بشكل كبير على عوائد النفط، التي تمثل أكثر من 90% من الإيرادات العامة. هذا الاعتماد يُحوّل أي زيادة في الإنفاق، وخصوصاً في الرواتب، إلى عبء مُضاعف في حال انخفاض أسعار النفط أو تراجع الصادرات. وتجربة العراق في عام 2020، حينما هبطت الأسعار إلى أقل من 30 دولاراً للبرميل، كشفت مدى هشاشة النظام المالي وافتقاره للمرونة.
وفي ضوء هذه الحقائق، تُعد الزيادة السنوية في الرواتب بمعدل وسطي قدره 9.6% سنوياً (خلال خمس سنوات) غير متسقة مع معدل النمو الاقتصادي أو التضخم، وهي تسير عكس التوصيات الدولية التي تُشدد على ضبط النفقات الجارية وتوسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية.
التمويل الذاتي والشفافية الغائبة
لفت العبيدي إلى أن الأرقام لا تشمل الوزارات والجهات ذات التمويل الذاتي، مثل تشكيلات وزارات النفط والكهرباء والاتصالات، وهو ما يفتح باباً آخر للحديث عن الاقتصاد غير المُعلن (Off-budget expenditures)، الذي يمثل نسبة غير قليلة من الإنفاق العام ويعاني من غياب الرقابة والشفافية.
غياب بيانات دقيقة عن هذه المؤسسات يُضعف من قدرة صانعي السياسات على اتخاذ قرارات مستندة إلى أدلة، ويُبقي فجوات كبيرة في فهم الحجم الحقيقي للنفقات العامة في البلاد.
ما المطلوب؟ خطوات ضرورية لتصحيح المسار
1. إصلاح شامل للقطاع العام: يتطلب إعادة النظر في هيكل الوظائف الحكومية، وتحويل فائض العمالة إلى برامج تدريب وإعادة تأهيل في قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة والتكنولوجيا.
2. إصلاح نظام الرواتب والمخصصات: عبر توحيد سلم الرواتب وإلغاء الفروقات غير العادلة، وربط الأجور بالإنتاجية وليس بعدد السنوات أو الخلفية السياسية.
3. تنمية الإيرادات غير النفطية: بتفعيل الضرائب النوعية، وتحسين الجباية المحلية، وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل.
4. إعادة هيكلة الموازنة العامة: عبر زيادة نسبة الإنفاق الاستثماري وتقليل الإنفاق التشغيلي، وتوجيه الموارد نحو التعليم النوعي، والرعاية الصحية الفعالة، والبنى التحتية.
5. تحقيق الشفافية المالية: بنشر تقارير الإنفاق العام، بما في ذلك الجهات ذات التمويل الذاتي، وتعزيز الرقابة النيابية والشعبية على الموازنات.
بالمحصلة، تكشف الأرقام المعروضة ليس فقط عن تضخم في النفقات التشغيلية، بل عن اختلال عميق في فلسفة إدارة المال العام في العراق. إن استمرار هذا المسار دون مراجعة جادة ومعلنة سيقود إلى أزمة هيكلية، لن تنفع معها حتى أسعار نفط مرتفعة. العراق اليوم أمام فرصة نادرة لتصحيح مساره المالي في ظل وجود فوائض مالية مؤقتة.. لكن الوقت يمضي، والإصلاح المؤجل يُكلف أكثر مما يُنقذ.