هل يتساوى الموازي والرسمي؟ خبراء يحللون أسباب الانخفاض المتسارع للدولار وسط آمال بتحقق الاستقرار الاقتصادي

انفوبلس..
خلال الأسابيع الأخيرة، شهد السوق العراقي تراجعاً متسارعاً في سعر صرف الدولار أمام الدينار، مدفوعاً بجملة عوامل محلية أبرزها تراجع الطلب، وتنوع قنوات الحصول على الدولار، وتقلص الكتلة النقدية، وسط تحذيرات من اعتبار هذا الانخفاض مؤشراً على استقرار دائم.
وجاء هذا التراجع بعد فترة طويلة من الاستقرار على أسعار مرتفعة او الانخفاض البطيء جدًا، وسط توقعات بأن يشهد الدولار في السوق الموازية انخفاضا إضافيا ربما.
قبل شهر رمضان، كان سعر الدولار يحوم حول الـ150 الف دينار لكل 100 دولار، وفي شهر رمضان كانت أسعار الدولار مستقرة نسبيا حول الـ147 الى 149 الف دينار لكل 100 دولار، لكن مع بداية شهر نيسان الماضي وبالتزامن مع اعلان ترامب فرض حرب الرسوم الجمركية، انخفضت أسعار الدولار في العراق بشكل متسارع، حتى إنها وصلت الآن الى حدود 142 الف دينار لكل 100 دولار.
تسعة أسباب
ويستعرض خبراء اقتصاديون أسبابا كثيرة ومتنوعة لاحتمالية انخفاض الأسعار، حيث يشير الباحث الاقتصادي منار العبيدي الى ان تراجع أسعار الدولار في العراق يعكس متغيرات متعددة في الطلب والعرض داخل السوق المحلي.
وأضاف، أن هذه الأسباب تتمثل بالآتي:
أولا: تراجع الطلب مقابل وفرة في العرض.
السبب الأساسي لهذا الهبوط يعود إلى انخفاض الطلب على الدولار في السوق الموازي، بالتوازي مع زيادة ملحوظة في عرض العملة الصعبة داخل السوق. وهذا التوازن الجديد ساهم في تقليص الفجوة بين السعر الموازي والسعر الرسمي.
ثانياً: تحول المستثمرين نحو الذهب.
شهدنا تراجعا في ثقة بعض المستثمرين المحليين بالدولار كأداة ادخار، خاصة مع تزايد التوقعات بانخفاض قيمته مقابل الذهب. هذا الاتجاه دفع العديد منهم إلى تصريف ما بحوزتهم من الدولار وتحويله إلى الذهب كملاذ آمن، مما زاد من عرض الدولار في السوق.
ثالثاً: تدفق الدولار من مصادر غير نفطية.
ارتفعت كميات الدولار القادمة من خارج العراق، خصوصا من الاستثمارات الأجنبية والتحويلات المالية للشركات الدولية العاملة داخل البلاد، وهو ما عزز من حجم المعروض من الدولار دون ارتباط بمبيعات النفط.
رابعاً: تقلص الكتلة النقدية من الدينار.
قام البنك المركزي العراقي بخفض الكتلة النقدية من الدينار المصدرة بأكثر من 6 تريليونات دينار خلال الأشهر الستة الماضية، لتنخفض من 104 تريليونات إلى نحو 98 تريليون دينار. هذا الانكماش أدى إلى ارتفاع قيمة الدينار بشكل نسبي، ما ضغط على سعر الدولار نحو الأسفل.
خامساً: تراجع الاستيراد والانكماش التجاري.
رغم ارتفاع الواردات من الصين بنسبة 6%، إلا أن الصادرات من دول رئيسية كالهند، تركيا، والولايات المتحدة شهدت انخفاضا. ننتظر كذلك بيانات الاستيراد من الإمارات – الشريك التجاري الأكبر للعراق – والتي تمثل 30% من إجمالي وارداته. من المرجح أن تكشف الأرقام عن تراجع، مما يعكس انكماشا اقتصاديًا وانخفاضا في الطلب العام، وبالتالي تراجع الحاجة للدولار.
سادساً: تنوع قنوات الحصول على الدولار بالسعر الرسمي.
شهدت الفترة الأخيرة توسعا في قنوات الوصول إلى الدولار بالسعر الرسمي، من خلال الحوالات المصرفية، البطاقات، والتحويلات المباشرة. وقد تكيف العديد من التجار مع هذه القنوات، مما قلل من لجوئهم للسوق الموازي.
سابعاً: تأثير الأوضاع الإقليمية.
تدهور الوضع الاقتصادي في إيران أدى إلى انخفاض الطلب على السلع المستوردة من العراق، خصوصًا أن نسبة من هذه السلع كانت تعاد تصديرها إلى إيران. كذلك، فإن توقف النشاط التجاري مع سوريا – التي كانت تستقبل أيضا جزءا من السلع العراقية عبر إعادة التصدير – ساهم في تقليل الطلب على الاستيراد، وبالتالي على الدولار.
ثامناً: الضغط على تجارة النفط المهرب.
شهدت الأسواق أيضًا تضييقا على قنوات تهريب النفط الإيراني، والتي كانت تستخدم السوق العراقي للحصول على الدولار. هذا التضييق قلص من حجم الدولارات المطلوبة لهذه الأنشطة، وأسهم بالتالي في تخفيف الضغط على العملة الأجنبية.
تاسعا: تراجع التجارة غير القانونية نتيجة توقف مصادرها ومنها تجارة المخدرات وماشابهها والتي كان يتم جزء كبير منها مع سوريا والتي كانت تضغط بشكل كبير على سعر الدولار في السوق الموازي اذ كانت تغطية هذه التجارة تتم عبر السوق الموازي.
واعتبر ان "جميع هذه العوامل مجتمعة خلقت بيئة دفعت بسعر صرف الدولار إلى الانخفاض، ومن المتوقع، في ظل استمرار هذه المؤشرات، أن يواصل تراجعه ليقترب من مستويات 1395 دينارًا للدولار في الفترة المقبلة، ما لم تحدث تغييرات جوهرية في السياسة النقدية أو الوضعين الإقليمي والدولي".
انخفاض غير مستقر
إلى ذلك، أوضح الخبير المالي العراقي، محمود داغر، أن الانخفاض الحالي في سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي لا يعكس استقراراً حقيقياً، بل يأتي نتيجة مضاربات متواصلة في السوق، فيما حذر من قراءة متفائلة مبكرة لهذا التراجع.
وقال داغر في لقاء متلفز إن "سعر الدولار ما يزال مرتفعاً مقارنة بالسعر المستهدف وهو مستوى يعزز من نشاط المضاربين ويؤثر سلباً على استقرار السوق".
وأضاف أن "ما يحدث حالياً لا يُعد انخفاضاً مستقراً"، مشيراً إلى أن "الاستقرار الحقيقي يبدأ عندما ينخفض سعر الدولار تدريجياً ليستقر عند حدود 1320 ديناراً، أما التذبذب الحاصل بين 1440 و1460 فيعكس حالة مضاربات لا أكثر".
تساؤلات
الانخفاض المفاجئ أثار تساؤلات حول أسبابه الحقيقية، وما إذا كان يمثل بداية لاستقرار نقدي أم أنه مجرد تراجع مؤقت. ويرى مختصون أن الأسباب محلية بالدرجة الأولى، وليست ناتجة عن تطورات إقليمية أو عالمية.
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني إن "الظروف الجيوسياسية مثل التوتر بين الهند وباكستان عادة ما ترفع الطلب على الدولار، لكن ما حدث في العراق يشير بوضوح إلى أن العوامل الداخلية هي المحرك الأساسي لانخفاض السعر".
وأوضح المشهداني أن من أبرز هذه العوامل، القرار السابق للبنك المركزي بتنظيم بيع وشراء العقارات، والذي قلل من استخدام الدولار في المعاملات العقارية، ما خفف الضغط على العملة الأجنبية.
كما أشار إلى أن توسع المصارف المخولة بتنفيذ التحويلات الخارجية، واعتماد آلية تعزيز الأرصدة، أدى إلى مبيعات كبيرة من الدولار تجاوزت 300 مليون دولار يومياً في فترات سابقة. لكن كثيراً من هذه الأموال لم يُستخدم في استيراد السلع، بل بقي في حسابات خارجية، وهو ما يُعرف بـ"الراجع"، الذي لا يعكس طلباً حقيقياً داخل السوق.
وأشار المشهداني إلى أن الإدارة الجديدة للبنك المركزي اعتمدت سياسة أكثر انفتاحاً في ضبط السوق، وتشديد الرقابة على التحويلات وتهريب العملة، ما ساهم في تعزيز الثقة ورفع مستوى الاحتياطي النقدي.
ورغم هذا التحسن، يحذر مراقبون من اعتبار انخفاض الدولار مؤشراً على استقرار دائم، خصوصاً مع استمرار التحديات السياسية والاقتصادية، واعتماد السوق على الاستيراد، ما يجعل أي تراجع في عائدات النفط أو تدفق العملة الأجنبية مصدر قلق.
ويؤكد المختصون أن استدامة انخفاض سعر الدولار تتطلب مواصلة الإصلاحات الاقتصادية والنقدية، وتعزيز دور القطاع المصرفي، وضبط السوق الموازي، إلى جانب دعم الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الدولار.