هيمنة بدأت عام 2003.. متى يتحرر العراق مالياً من قبضة الاحتياطي الفدرالي الأميركي؟

انفوبلس/ تقرير
منذ عام 2003 وبعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، سعت القوة المحتلة إلى إقامة نظام سياسي بحيث يضمن هيكلياً نفوذها في مستقبل العراق، وكان النظام الاقتصادي من أهم الإجراءات في هذا المجال، والذي تمّ من خلال دور بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في السيطرة على عائدات مبيعات النفط العراقي، وسعر صرف الدينار، وغير ذلك من الأمور التي مكّنت الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على الاقتصاد العراقي.
فلماذا لا تزال بغداد خاضعة لهذا الترتيب المالي رغم مرور عقدين على الغزو؟ ولماذا لا تستطيع استلام عائداتها النفطية بشكل مباشر كما تفعل باقي الدول المنتجة؟ ولماذا لم تنجح الحكومات المتعاقبة في التحرر من الهيمنة المالية الأميركية؟
خلفية تاريخية
في مايو/أيار 2003، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1483 الذي قضى بإيداع الإيرادات المتأتية من صادرات العراق من النفط والغاز في حساب خاص لدى الفدرالي الأميركي تحت اسم "صندوق تنمية العراق".
وقد خُصص جزء من هذه الإيرادات -بنسبة 5% من مجمل الصادرات النفطية والغازية- لتعويض الكويت عن أضرار غزو 1990، وهو ما استمر حتى عام 2022 حين أكمل العراق سداد تعويضاته التي بلغت نحو 52.4 مليار دولار.
وبحسب الدكتور مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي، فإن بقية الأموال كانت تُحوّل إلى حساب البنك المركزي العراقي، الذي يتولى تمويل الحكومة ووزارة المالية بالسيولة، باعتبار أن الدينار العراقي مسعّر بالدولار.
ويضيف صالح، أن الأمم المتحدة كانت قد أمنت حماية قانونية لهذه الأموال بموجب القرار 1483، إلى أن انتهى العمل بها عام 2011، عقب تنفيذ قرار مجلس الأمن 1956. بالتوازي، أصدر الرئيس الأميركي قرارا تنفيذيا رقم 13303 لحماية الأموال العراقية، وهو قرار لا يزال ساريا حتى اليوم رغم بعض التعديلات.
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة لا تزال تمسك بإحدى أقوى أوراق الضغط على العراق: التحكم بوارداته المالية المتأتية من صادرات النفط عبر الاحتفاظ بها في حسابات البنك الفدرالي الأميركي منذ عام 2003.
حديث الخبراء والنواب
يرى خبراء أن العراق، رغم انتهاء العديد من الأسباب القانونية التي فرضت هذا الترتيب المالي، لا يزال خاضعا لمراقبة مالية مشددة من واشنطن، تختلف عن الإجراءات المعتادة في النظام المصرفي الدولي.
ويوضح عبد الرحمن المشهداني، أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية ببغداد، أن العراق لا يتمتع بنفس أريحية الدول الأخرى في التصرف بإيراداته، ويعاني من عجز في الميزان التجاري لمصلحته، إضافة إلى قيود على استخدام عملات أخرى أو نظام تبادل متكافئ مع الدول، ما يضعف قدرته على الاستقلال المالي.
ويحذر المشهداني من أن فرض عقوبات اقتصادية أميركية على العراق ليس مستبعداً، مشيرا إلى أن 32 مصرفا عراقيا تخضع لعقوبات أميركية حتى الآن، ولم تتمكن بغداد من رفع أي منها رغم مرور سنوات.
من جانبه، يشير عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر إلى أن غالبية الدول النفطية تودع أموالها في الفدرالي الأميركي كون النفط يُباع بالدولار، لكن العراق يعاني من تبعية كاملة لعائدات النفط دون وجود موارد بديلة معتبرة.
ويحذر عضو تحالف الفتح علي حسين، من السيطرة الامريكية على الإيرادات المالية النفطية في البنك الفيدرالي، متهماً واشنطن باستغلال هذه السيطرة لممارسة الضغط على العراق. ويقول إن "أمريكا تستغل هذه السيطرة بفرض إرادتها في الكثير من الملفات منها التسليح، فضلا عن ضغطها على الورقة الاقتصادية".
ويدعو الحكومة الى "التحرر من هذا الضغط، وأن يكون لها رأي بإعادة صياغة العلاقة مع الامريكان". ويبين ان "النظام المالي العراقي والدولي أسير لدى الإدارة الامريكية، ما يُحتّم اللجوء الى طرق أخرى لضمان تحرير المال من سلطتها، والتفاهم عبر نوافذ أخرى بعيداً عن الضغوط التي تمارسها ضد بغداد".
الى ذلك، يحذر رئيس الهيئة التنسيقية للحراك الشعبي من أجل الحزام والطريق، حسين الكرعاوي، من استمرار الهيمنة الأميركية على المال العراقي المودع لدى البنك الفيدرالي الأميركي. ويقول إن "الرئيس الأميركي دونالد ترامب غالباً ما كان يبحث عن فرض عقوبات ورسوم على العراق، خصوصاً أن أميركا لديها السيطرة على المال العراقي الموجود لدى البنك الفيدرالي".
ويضيف أن "الرسوم التي فرضها بنسبة 30 بالمئة على الصادرات العراقية باتجاه الولايات المتحدة، ورغم تأثيراتها، إلا أن الأثر الأكبر يكمن في سيطرة ترامب على الأموال العراقية في البنك الفيدرالي وعدم السماح للعراق بالتصرف بأمواله".
ويبين الكرعاوي أن "الحكومة ينبغي أن تتخذ موقفاً حازماً إزاء الإجراءات اللاإنسانية تجاه العراق من قبل الرئيس الأميركي، خصوصاً أن الإدارة الأميركية حرمت العراق من الذهاب نحو المجتمع الدولي من أجل إجراء تعاقدات في مختلف القطاعات، وخصوصاً التسليح".
من ناحية أخرى، فإن السيطرة على النظام المالي العراقي توفر للولايات المتحدة أداة ضغط للسيطرة على شراكات العراق الخارجية، من أجل منع هذا البلد من التحرك نحو تعاون مكثف مع منافسين مثل الصين، التي تعمل على تطوير نفوذها ووجودها في غرب آسيا والخليج، وهذا الموضوع يمنع بغداد من الاستفادة من الفرص الاقتصادية، ولا سيما المشاركة في مشروع الحزام والطريق الصيني. وقد عزز هذا الوضع الآن المطالبة العامة بإنهاء الهيمنة المالية الأمريكية على عائدات النفط العراقي.
بينما يرى الباحث في الشأن الاقتصادي أنمار العبيدي أن المشكلة ليست في إيداع الأموال لدى الفدرالي الأميركي، بل في القيود المفروضة على إمكانية التصرف بها بحرية، على عكس ما تتمتع به الدول الأخرى. ويقول العبيدي إن الهشاشة السياسية في العراق، واستمرار عدم الاستقرار، منعا الحكومات المتعاقبة من تسوية ملف التعويضات العالقة، مشددا على أن معالجة هذا الملف ستمكّن العراق من التحرر المالي تدريجيا.
ويشير العبيدي إلى أن إجراءات الحكومة في مكافحة غسل الأموال وتهريب العملة حققت تحسنا ملحوظا خلال العامين الماضيين، إلا أن البلاد لا تزال بحاجة إلى إصلاحات مصرفية وأتمتة شاملة لأنظمتها لتعزيز الثقة الدولية.
من جانبه، يرى المستشار الاقتصادي مظهر محمد صالح أن التخلص من الرقابة الأميركية ممكن مستقبلا، لكنه يتطلب إجراءات سياسية واقتصادية متدرجة، تبدأ باستعادة الثقة الدولية.
ويتفق معه المحلل الاقتصادي سامان شالي، الذي يعتقد أن إنهاء الوصاية الأميركية يحتاج إلى قرار سياسي شجاع من مختلف الكتل، بالإضافة إلى العمل على ترشيد الإنفاق وتسوية الديون المتعلقة بتعويضات الشركات الدولية. ويقترح شالي الاستعانة بمكاتب محاماة دولية للتفاوض مع هذه الشركات، على غرار ما حدث في ملف تعويضات الكويت، مؤكدا أن العملية -رغم صعوبتها- ستمهّد الطريق أمام العراق لاستعادة سيادته المالية.
خيارات التحرر والاستقلال المالي
يرى اقتصاديون أن تحرير العراق من قبضة الفدرالي الأميركي يتطلب خطة متكاملة تشمل:
-إصلاح النظام المصرفي العراقي بالكامل
-أتمتة الإجراءات المالية والحسابية
-الحد من الفساد في المؤسسات المالية
-تسوية المطالبات التعويضية عبر أدوات قانونية دولية
-تنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط
ويعتقد المحللون أن استمرار الاعتماد على النظام المالي الأميركي دون إصلاحات جذرية سيبقي العراق رهينة لأجندات خارجية تقيد قدرته على الحركة.
نحو استقلال مالي مشروط بالإرادة السياسية
رغم انتهاء أغلب القيود القانونية التي فرضها المجتمع الدولي على أموال العراق بعد 2003، فإن البلاد لا تزال تخضع لرقابة مالية مشددة من الولايات المتحدة، ما يعكس هشاشة البنية الاقتصادية والسياسية العراقية.
ويرى خبراء أن الفرصة لا تزال سانحة للتحرر من هذه الهيمنة، لكن الأمر مرهون بإرادة سياسية موحدة، ورؤية اقتصادية صارمة تعيد بناء الثقة الدولية في الجهاز المالي العراقي.
ويبقى السؤال المطروح: هل تملك الحكومة العراقية الإرادة والقدرة على انتزاع سيادتها المالية، أم أن النفوذ الأميركي سيبقى يتحكم في شريان اقتصاد البلاد لعقود مقبلة؟