بنسبة 80%.. بين أرقام الوزارة ووجع المواطن: هل تراجُع الإخلاء الطبي انتصار أم قصة أخرى من "التجميل الإعلامي"؟
انفوبلس..
أعلنت وزارة الصحة عن انخفاض "كبير" في معدلات الإخلاء الطبي للمرضى إلى خارج البلاد بنسبة 80%، مؤكدة أن هذا التراجع ناتج عن خطط استراتيجية لتعزيز البنى التحتية وتوفير علاجات تخصصية واستقدام فرق طبية أجنبية. وبينما تُعد هذه الأرقام إيجابية على الورق، فإن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو: هل تعكس هذه الإحصاءات الواقع الحقيقي للقطاع الصحي في العراق، أم أنها قد تخفي وراءها تحديات قائمة؟
إنجازات على الورق: رؤية الوزارة
وبحسب مدير قسم الاستقدام والإخلاء الطبي في الوزارة، الدكتور أحمد عدنان الطباطبائي، فإن نسبة الاستقدام للعلاج داخل العراق بلغت 80% من إجمالي الحالات، مقابل 20% فقط لحالات الإخلاء الطبي التي تم حصرها بالحالات النادرة والمعقدة جداً. وأضاف الطباطبائي، أن الفرق الطبية التي تم استقدامها تنوعت جنسياتها لتشمل خبراء من الهند، تركيا، روسيا، سويسرا، بريطانيا، وأميركا. وقد أجرت هذه الفرق عمليات دقيقة في اختصاصات متعددة، شملت:
-تشوهات قلب الأطفال.
-تعديل العمود الفقري.
-زراعة القرنية.
-جراحة كسور الأطفال.
-العلاج الإشعاعي للأورام.
-تنظيم أجهزة الأشعة الحديثة.
-زراعة النخاع ونخاع العظم.
وأوضح الطباطبائي، أن الوزارة ركزت بشكل كبير على تقليل نسبة الإخلاء الطبي الخارجي، ليقتصر على الحالات المستعصية التي تتطلب تقنيات غير متوفرة محلياً. مشيراً إلى أن نحو 900 حالة فقط تم إخلاؤها إلى مستشفيات في تركيا والهند ومصر خلال الفترة ذاتها.
ويتابع، أن مركز أمراض الدم وزراعة نخاع العظم استقدم فرقاً أجنبية لتقديم خدمات متكاملة للمصابين، تشمل المطابقة الجينية، واستنباط الخلايا، ومعالجات ما قبل زراعة النخاع، ضمن منظومة علاجية متطورة تقدم مجاناً للمريض باستثناء كلفة العملية، مع استمرار إشراف الفرق على الحالة لحين مغادرتها المستشفى.
ويشير الطباطبائي إلى أن الظروف المرتبطة بالأوضاع السياسية والأمنية في روسيا وأوروبا أثرت في إمكانية الإخلاء الطبي إلى تلك الدول، ما دفع الوزارة إلى تعزيز استقدام الفرق الطبية لتقليل التكاليف وتوفير العلاج داخل البلاد.
تساؤلات مطروحة
على الرغم من هذه الأرقام المشجعة، فإن هناك تساؤلات مشروعة حول ما إذا كانت الإحصاءات تعكس الصورة الكاملة للواقع الصحي المعقد في العراق، وهي هل يواكب تحسن الخدمات التخصصية ارتفاعاً في جودة الخدمات الصحية الأولية والعامة التي يحتاجها غالبية المواطنين؟ وهل المستشفيات الحكومية الأخرى على مستوى يمكن أن يمنع الحاجة إلى الإخلاء حتى في الحالات الأقل تعقيداً؟
وعلى الرغم من الحديث عن تعزيز البنى التحتية، فهل تم حل مشاكل النقص في الأجهزة والمعدات المتطورة في جميع المحافظات؟ وهل هناك عدد كافٍ من الكوادر الطبية العراقية المؤهلة لسد الفجوة بعد رحيل الفرق المستقدمة؟وكيف يتم تحديد الحالات التي تستدعي الإخلاء الخارجي؟ وهل المعايير واضحة وتُطبق بشفافية لتجنب أي تهم بالتمييز أو المحسوبية؟
وهل الانخفاض في الإخلاء الطبي يعود بالكامل إلى تحسن الخدمات الداخلية، أم أن ارتفاع تكاليف العلاج في الخارج وصعوبة الحصول على التأشيرات قد دفعت بعض المرضى للتخلي عن فكرة السفر، حتى لو كانت حالتهم تستدعي ذلك؟ وهل الخدمات التخصصية المستقدمة متاحة بسهولة لجميع المرضى في عموم العراق، أم أنها تتركز في بغداد أو مدن رئيسية، مما قد يحرم مرضى الأطراف من الاستفادة منها؟
منتقدون يرون أن الإحصاءات قد لا تعكس الواقع الحقيقي، خاصة في ظل استمرار معاناة كثير من المرضى من نقص المعدات الطبية الحديثة، والأدوية، وكذلك ضعف بعض المستشفيات في المحافظات. ويشير البعض إلى أن تراجع الإخلاء الطبي قد يكون مرتبطًا بضعف التمويل أو تعقيدات الإجراءات الرسمية، ما يجعل المرضى يضطرون للتأقلم مع الوضع الحالي بدلًا من الحصول على العلاج المطلوب خارج البلاد. وهناك من يرى أن الوزارة تسعى من خلال هذه الأرقام إلى تحسين صورتها أمام الرأي العام ووسائل الإعلام، بينما لا تزال المشاكل الصحية الحقيقية قائمة.
أعرب بعض المواطنين عن تفاؤلهم وحرصهم على دعم التوجه الحكومي الجديد. حيث يرى المؤيدون أن هذه الخطوة إيجابية للغاية وتستحق الثناء للأسباب التالية:
"سمعتُ عن حالات كانت تضطر لبيع كل ما تملك لعلاج فرد واحد في الخارج. إذا أصبح العلاج متاحاً هنا، فهذا سيخفف عبئاً لا يطاق عن كاهل العائلات الفقيرة والمتوسطة." يقول أبو علي، موظف متقاعد من بغداد.
تؤكد سارة، وهي مدرّسة من بغداد، "من المهم أن نثق بأطبائنا ومستشفياتنا. استقدام الفرق الأجنبية خطوة ممتازة لتبادل الخبرات وتطوير كوادرنا، وهذا سيجعلنا نفكر ألف مرة قبل أن نسافر للخارج". بينما يرى المواطن أحمد، "لم نكن نتخيل يوماً أن عمليات معقدة مثل زراعة النخاع أو تعديل العمود الفقري ستُجرى هنا.
هذا تقدم كبير
في المقابل، أبدى عدد كبير من المواطنين تشككاً في الأرقام المعلنة، مشيرين إلى أن الواقع على الأرض لا يعكس بالضرورة هذا التحسن الشامل، وأن العديد من التحديات ما زالت قائمة، إذ يقول علي، سائق سيارة أجرة من مدينة الصدر، "صحيح أنهم يستقدمون فرقاً لعمليات معقدة، لكن ماذا عن المستشفيات الحكومية العادية؟ لا يزال الازدحام ونقص الأدوية وسوء الرعاية أمراً يومياً. هل يعكس هذا حقاً تحسناً بنسبة 80%؟".
ويعبّر حسين، مزارع من ذي قار، عن قلقه، "الفرق الطبية المستقدمة تعمل في مراكز محددة ببغداد أو المدن الكبرى. ماذا عن المحافظات النائية؟ هل يستطيع مريض من الأرياف أن يصل إلى هذه الخدمات بسهولة؟".
يرى الدكتور فاضل، طبيب عام، في رأي يشاركه كثيرون، أن "الوضع الاقتصادي يحد من الخيارات: "الكثير من الناس لم يعد يسافر للعلاج في الخارج ليس لأن الخدمات هنا أفضل، بل لأنهم ببساطة لا يملكون المال الكافي للسفر أو تكاليف العلاج الباهظة في الخارج. هذا ليس إنجازاً طبياً بقدر ما هو إحصاء للقدرة الشرائية".
تقول مريم، ناشطة مدنية، إن "المشكلة ليست فقط في البنية التحتية، بل في الإدارة والفساد. كم من الأدوية والمعدات يتم هدرها أو بيعها في السوق السوداء؟ نحتاج إلى إصلاح جذري وليس فقط إحصاءات"، وتضيف، "هل نحن نعتمد بشكل دائم على الفرق الأجنبية؟ ماذا عن تدريب وتأهيل أطبائنا وممرضينا بشكل كافٍ ليقوموا بهذه العمليات بأنفسهم مستقبلاً؟".
ويضيف أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي، "لا يزال نسمع عن حالات وفاة بسبب الإهمال أو الأخطاء الطبية. هل هذا الانخفاض يعني أن هذه الحالات توقفت؟".
وتُظهر آراء المواطنين أن هناك شعوراً مختلطاً بين التفاؤل الحذر بالنوايا الحكومية والجهود المبذولة، والتشكك في مدى انعكاس هذه الإنجازات على جودة الحياة الصحية اليومية للجميع. يظل التحدي الأكبر لوزارة الصحة هو تجاوز مرحلة الأرقام والإحصاءات إلى واقع ملموس يشعر به كل مواطن، وأن يتم العمل على معالجة المشاكل الهيكلية لضمان نظام صحي شامل وعادل للجميع.
والخلاصة، فإن إعلان وزارة الصحة عن انخفاض كبير في معدلات الإخلاء الطبي للخارج هو بلا شك مؤشر إيجابي على جهود تُبذل لتحسين القطاع الصحي. ومع ذلك، لكي يكون هذا الإنجاز حقيقياً ومستداماً، يتطلب الأمر معالجة شاملة للتحديات الهيكلية في القطاع الصحي، وتعزيز الشفافية، وضمان أن تكون جودة الخدمات المقدمة على مستوى يُلبّي طموحات وتوقعات جميع المواطنين، وليس فقط النخبة أو الحالات التي تستفيد من برامج الاستقدام المحدودة. يبقى التحدي الأكبر هو تحويل هذه الأرقام إلى واقع ملموس يشعر به كل مريض عراقي.