بعد عقود من القتال... حزب العمال الكردستاني يختار السلام ويعلن حلّ نفسه

من الجبال إلى السياسة
انفوبلس..
في خطوة وُصفت بأنها تحول تاريخي غير مسبوق في المشهد الكردي التركي، أعلنت قيادة "حزب العمال الكردستاني" رسميًا حلّ الحزب وإنهاء الكفاح المسلح الذي استمر لعقود، معلنةً بذلك إسدال الستار على فصل دامٍ من الصراع الداخلي في تركيا.
وجاء الإعلان عبر بيان مفصّل نُشر في وسائل إعلام تركية وكردية، أوضح قرارات المؤتمر الثاني عشر للحزب، الذي انعقد بين 5 و7 مايو الجاري، وخرج بسلسلة من القرارات الجذرية أبرزها التخلي الكامل عن العمل المسلح والتوجّه نحو النضال السياسي السلمي والديمقراطي.
وأكد البيان، أن هذا القرار يأتي تتويجًا لمسار طويل من النضال السياسي والعسكري، وأن الحزب، الذي لطالما كان في صلب التوترات الأمنية والسياسية في تركيا منذ الثمانينيات، يرى أن مهمته التاريخية قد أُنجزت.
الاعتراف بأوجلان كفاعل سياسي
أعلن حزب العمال رسمياً حلّ بنيته التنظيمية وإنهاء جميع الأنشطة التي كانت تُمارس باسمه، مشيرًا إلى أن عملية التطبيق ستُدار من قبل الزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان
وأوضح المؤتمر أن "سياسات الإنكار والإبادة" التي فُرضت على الشعب الكردي قد كُسرت، وأن القضية الكردية بلغت مرحلة يمكن حلها بالوسائل السياسية، لا عبر السلاح وفي هذا السياق، أعلن الحزب رسمياً حلّ بنيته التنظيمية وإنهاء جميع الأنشطة التي كانت تُمارس باسمه، مشيرًا إلى أن عملية التطبيق ستُدار من قبل الزعيم الكردي المسجون عبد الله أوجلان.
وحمّل البيان البرلمان التركي مسؤولية تاريخية في هذه المرحلة المفصلية، داعيًا إلى الاعتراف بأوجلان كفاعل سياسي وضمان حقوقه القانونية والسياسية لقيادة المرحلة الانتقالية نحو السلام.
كما دعا إلى تعزيز العلاقات التركية-الكردية، وإعادة بنائها على أسس من التفاهم والشراكة والعدالة الاجتماعية، مؤكداً أن الأحزاب الكردية الأخرى مطالبة بتحمّل مسؤولياتها في المرحلة القادمة لضمان استمرار العملية الديمقراطية.
إلقاء السلاح وإنهاء صراع
ويأتي هذا الإعلان تتويجًا لرسائل سابقة من أوجلان، الذي كان قد حضّ في شباط الماضي جماعته على عقد مؤتمر تاريخي يتّخذ قراراً نهائياً بحلّ الحزب، فيما اعتُبر حينها تمهيدًا لإنهاء صراع أودى بحياة عشرات الآلاف على مدار أكثر من أربعة عقود.
كما سبق للحزب أن أعلن وقف إطلاق نار من طرف واحد مطلع آذار الماضي، مشروطاً بإطار قانوني واضح للمفاوضات.
ويمثّل هذا القرار نقطة تحوّل كبرى، لا فقط في تاريخ "العمال الكردستاني"، بل في تاريخ تركيا الحديث، ويُنتظر أن يشكل أرضية حقيقية لانطلاق مرحلة جديدة من الاستقرار، إن توفرت الإرادة السياسية من جميع الأطراف المعنية.
رد حزب "العدالة والتنمية"
وفي أعقاب إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) حلّ نفسه رسمياً والتخلي عن الكفاح المسلح، جاء ردّ حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا ليُرحّب بالخطوة، معتبراً إياها تطوراً محورياً نحو تحقيق هدف "تركيا خالية من المسلحة".
وعبّر المتحدث باسم الحزب، عمر تشيليك، عن أهمية هذا القرار، مؤكداً أن إنهاء وجود "بي كي كي" المسلح بشكل كامل، بما يشمل جميع امتداداته وهياكله غير القانونية، سيكون بمثابة نقطة تحول حاسمة في تاريخ البلاد الحديث.
وأشار تشيليك في بيانه إلى أن هذه المرحلة تتطلب تنفيذًا فعليًا وجادًا على أرض الواقع، داعياً إلى إغلاق جميع الفروع التابعة للتنظيم، وتسليم السلاح بشكل نهائي دون مماطلة أو تراجع.
وأكد أن حزب العدالة والتنمية سيتابع هذا المسار ميدانياً، بالتنسيق مع المؤسسات الحكومية، وسيعرض مستجداته بشكل مباشر على الرئيس رجب طيب أردوغان، ما يعكس جدية الدولة التركية في مراقبة تطبيق هذه التحولات عملياً.
وأوضح المتحدث أن "السياسة الديمقراطية يجب أن تكون الإطار الجامع لمعالجة كل القضايا"، مشيراً إلى أن "الحوار بين الأحزاب والتشاور السياسي سيساهمان في تعزيز الوحدة الوطنية، وحماية ركائز الجمهورية التركية"، كما شدد على "ضرورة ترسيخ الوعي بأن "الجمهورية سقفنا المشترك، والديمقراطية أرضيتنا التي ننطلق منها لحلّ كافة التحديات".
وفي هذا السياق، ربط حزب "العدالة والتنمية" هذه الخطوة بمشروع "مئوية الجمهورية التركية" الذي أعلنه أردوغان، معتبرًا أن بناء "تركيا بلا إرهاب" سيكون من بين أبرز وأهم الإنجازات الاستراتيجية التي ترافق هذه المرحلة الوطنية الكبرى.
انسحاب تركي من العراق
وفي سياق التطورات المتسارعة المتعلقة بإعلان "حزب العمال الكردستاني" حلّ نفسه والتخلي عن العمل المسلح، تبرز تساؤلات جوهرية حول التداعيات الإقليمية المحتملة، لا سيما ما يتعلق بالوجود العسكري التركي في العراق، وخاصة في إقليم كردستان، حيث تنتشر القواعد التركية منذ سنوات تحت ذريعة مكافحة عناصر الحزب.
وفي هذا الصدد، يرى رئيس المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، الدكتور غازي فيصل، أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة في ضوء ما سيصدر عن الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، المسجون في تركيا، من توجيهات نهائية لأنصاره، لا سيما أن أغلب البنية العسكرية والتمركز المسلح لحزب العمال الكردستاني تقع في جبال قنديل على الحدود العراقية – التركية، وتمتد أذرعها إلى الأراضي السورية أيضاً.
ويشير فيصل في تصريح صحفي سابق إلى أن دعوة صريحة من أوجلان لوقف العمليات المسلحة ضد الدولة التركية، قد تمهّد فعلياً إلى انسحاب تركي من بعض قواعدها العسكرية داخل العراق، خصوصاً في إقليم كردستان.
إلا أن هذه الخطوة، وفقاً له، ستكون مشروطة بوضوح الاتفاقات بين الطرفين، لا سيما ما يتعلق بنزع سلاح الحزب بشكل فعلي وتثبيت ضمانات حقيقية لوقف دائم لإطلاق النار.
ويؤكد الخبير العراقي أن "نجاح المرحلة السياسية المقبلة مرهون بتبلور اتفاق شامل يعالج جوهر القضية الكردية في تركيا، سواء عبر منح الكرد شكلاً من أشكال الحكم الذاتي، أو عبر توسيع الحقوق الثقافية والسياسية في إطار الدولة التركية"، مضيفاً أن التقدّم في هذا المسار سيفضي بالضرورة إلى عودة تدريجية للحياة السياسية الطبيعية في المناطق الكردية، كما سيُضعف الذرائع التي استخدمتها أنقرة لتبرير وجودها العسكري خارج حدودها.
ويختم فيصل تحليله بالتأكيد على أن انسحاب تركيا من الأراضي العراقية والسورية لا يرتبط فقط بقرارات تركية داخلية، بل يتطلب موقفاً عراقياً واضحاً وضاغطاً على المستويين الدبلوماسي والسيادي، خصوصاً في ظل تغير المعطيات الجيوسياسية التي قد تفرض ترتيبات أمنية جديدة في مرحلة ما بعد "حلّ حزب العمال الكردستاني"، وبناء مسارات للتفاهم الإقليمي بدلاً من التصعيد.