تراجع الانحياز العالمي تجاه "إسرائيل".. طلبات الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت تعصف بموقف أوروبا وتثير جدلاً عالمياً
انفوبلس..
احتاجت المحكمة الجنائية الدولية أكثر من 7 أشهر من العدوان المتواصل والإبادة الشاملة للاحتلال الصهيوني بحق المدنيين في غزة، لكي تلاحظ بأن قادة الكيان مجرمي حرب، ويطلب مدعيها العام إصدار طلبات اعتقال بحقهم، وذلك بتطور لافت في تغيير مسار التوجه العالمي العام تجاه القضية الفلسطينية من جهة، وعلامة على انقسام الموقف الغربي من الكيان المحتل من جهة أخرى.
طلب المدعي العام
أمس الإثنين، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أنه قدّم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال بتهم ارتكاب جرائم حرب، وإبادة ضد الإنسانية، في ما يتعلق بالحرب في غزة وهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وقال خان، إن رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، يتحملان المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة. وأضاف، إن الأدلة خلصت إلى أن مسؤولين إسرائيليين حرموا بشكل ممنهج فلسطينيين من أساسيات الحياة، وإن نتنياهو وغالانت متواطئان في التسبب بمعاناة وتجويع المدنيين في غزة.
وأشار إلى، أنه "استنادا إلى الأدلة التي جمعها مكتبي وفحصها، لديَّ أسباب معقولة للاعتقاد أن نتنياهو وغالانت، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أراضي دولة فلسطين اعتبارا من الثامن أكتوبر 2023 على الأقل".
وتشمل الجرائم، وفق المدعي العام، "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب، وتعمّد إحداث معاناة شديدة، أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة، والقتل العمد، وتعمّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين باعتباره جريمة، والإبادة أو القتل العمد، والاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، وأفعالا لا إنسانية أخرى".
مساواة الضحية والجلاد
وفي المقابل، قال خان، إن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد أن كلا من زعيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة يحيى السنوار ومحمد دياب إبراهيم المصري المعروف بمحمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري للحركة ورئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، مسؤولون عن ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية في إسرائيل، حسب تعبيره.
وشدد خان في كلمته على أن القانون يجب أن يسري على الجميع، ولا يمكن السماح بهروب أحد من العقاب، حتى لو كان رئيسا.
وتعليقا على هذا القرار، قال سامي أبو زهري القيادي في حركة حماس لرويترز، إن قرار الجنائية الدولية طلب إصدار مذكرة اعتقال بحق 3 من قادة الحركة الفلسطينية "مساواة بين الضحية والجلاد".
وأضاف، إن قرار المحكمة يشجع إسرائيل على الاستمرار في "حرب الإبادة".
الكيان يغلي
وفي ردود الفعل داخل إسرائيل، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مسؤول قريب من نتنياهو قوله، إن إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين "وصمة عار على مستوى عالمي".
أما الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، فوصف طلب المدعي اعتقال المسؤوليْن الإسرائيليين بأنه "في حد ذاته جريمة ذات أبعاد تاريخية".
وطالب وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير نتنياهو وغالانت بتجاهل المدعي العام "المعادي للسامية" وبتصعيد الهجوم ضد حماس.
ووصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إعلان المحكمة الجنائية الدولية بشأن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت بأنه "كارثة".
ماذا بعد طلب المدعي العام؟
خبير القانون الدولي، أيمن سلامة، أكد أن الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية ستنظر الآن في طلب خان لإصدار أوامر الاعتقال.
ويوضح، أن المحكمة بموجب المادة 57 من نظام المحكمة، تصدر بناءً على طلب المدعي العام مذكرات التوقيف، بعد أن يقدم "الأدلة المعقولة بأن هناك جرائم حرب أو ضد الإنسانية أو إبادة جماعية ارتُكبت من قبل متهم ملاحق أمام المحكمة".
ويضيف سلامة، أنه في نهاية المطاف لا تصدر مذكرة توقيف بحق أي متهم، إلا بعد تمحيص وتحقيق.
ويؤكد، أنها "لا تصدر من المدعي، ولكن من قبل الدائرة التمهيدية للمحكمة".
ويشير نظام عمل المحكمة على موقعها الإلكتروني إلى، أنه بعد جمع الأدلة وتحديد المشتبه فيه، يطلب الادعاء من قضاة المحكمة الجنائية الدولية إصدار، إما مذكرة اعتقال (تعتمد المحكمة الجنائية الدولية على الدول لإجراء اعتقالات ونقل المشتبه بهم إلى المحكمة الجنائية الدولية) أو استدعاء للمثول، وحينها يحضر المشتبه بهم طوعاً (إذا لم يكن الأمر كذلك، فقد يتم إصدار مذكرة اعتقال).
وفي مرحلة ما قبل المحاكمة، تُعقد جلسة المثول الأولي، وفيها يُجري 3 قضاة الإجراءات التمهيدية ويتأكدون من هوية المشتبه به ويتأكدون من فهمه للتهم الموجهة إليه.
وبعد الاستماع إلى الادعاء والدفاع والممثل القانوني للضحايا، يقرر القضاة (عادةً في غضون 60 يوما) ما إذا كانت هناك أدلة كافية لعرض القضية على المحكمة.
ويجب على الادعاء، أمام 3 قضاة، أن يثبت بما لا يدع مجالا للشك كون المتهم مذنباً.
وينظر القضاة في جميع الأدلة، ثم يصدرون حكما، وعندما يكون هناك حكم بالإدانة، يجوز للقضاة أن يحكموا على أي شخص بالسجن لمدة تصل إلى 30 عاما، وفي ظروف استثنائية، بالسجن مدى الحياة، ويمكن للقضاة أيضا أن يأمروا بتعويضات للضحايا.
وتاريخيا، كانت الدائرة التمهيدية تستغرق عدة أشهر لتقرر ما إذا كانت ستصدر مذكرة التوقيف أم لا. وتشمل الأمثلة السابقة أوامر اعتقال لرؤساء الدول، السوداني عمر البشير (من يوليو 2008 إلى مارس 2009) والروسي فلاديمير بوتين (من فبراير 2023 إلى مارس 2023).
وتخضع الأحكام للاستئناف من قبل الدفاع والمدعي العام.
ويجوز لكل من المدعي العام والدفاع استئناف قرار غرفة الدرجة الأولى بشأن الحكم (قرار إدانة المتهم أو براءته) والحكم.
ويجوز للضحايا، والشخص المدان، استئناف أمر التعويض.
ويوضح سلامة، أنه إذا رفضت المحكمة طلب المدعي العام محاكمة شخص بالتهم المحددة، يستطيع المدعي العام أن يستأنف هذا القرار بالرفض، أمام دائرة الرفض في المحكمة.
ويتم البت في الاستئناف من قبل 5 قضاة في غرفة الاستئناف، لا يكونون أبدا نفس القضاة الذين أصدروا الحكم الأصلي.
وتقرر دائرة الاستئناف ما إذا كانت ستؤيد القرار المستأنف أو تعدله أو تلغيه. وبالتالي فإن هذا هو الحكم النهائي، ما لم تأمر دائرة الاستئناف بإعادة المحاكمة أمام الدائرة الابتدائية، وفق موقع المحكمة.
ويوضح سلامة، أنه بعد صدور مذكرة الاعتقال، تصبح 124 دولة عضوا في المحكمة ملزمة جميعها، بلا استثناء، بالتعاون مع المحكمة لاعتقال المحكومين.
وليس ذلك فحسب، بل يكون عليها واجب موافاة المدعي العام بأي بيانات ومستندات وأدلة لديها بشأن الجرائم المدعى ارتكابها، وفق سلامة.
انقسام بالتوجه الغربي
وخلافا لمواقف القوى الغربية، أعربت فرنسا عن دعمها لاستقلالية المحكمة الجنائية الدولية بعد أن طلب المدعي العام لديها إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه.
وقال بيان صادر عن الخارجية الفرنسية، إن باريس "تدعم المحكمة الجنائية الدولية واستقلاليتها ومكافحة الإفلات من العقاب في جميع الحالات".
وأضافت، إنها حذرت إسرائيل بشأن "المستوى غير المقبول للضحايا المدنيين في قطاع غزة وعدم وصول المساعدات الإنسانية بشكل كاف".
وبحسب شبكة "سي إن إن"، فإن خطوة فرنسا تمثل انقساما كبيرا بين موقفها وحلفائها الغربيين، من بينها المملكة المتحدة وإيطاليا والولايات المتحدة.
إلى ذلك اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أن طلب إصدار مذكّرة توقيف بحق نتنياهو "شائن"، وشدّد لاحقا على أن هجوم إسرائيل في غزة "ليس إبادة جماعية".
من جانبه، قال وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس، إن "طلب مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت لن يؤثر على استمرار تصدير أسلحتنا إلى إسرائيل". وأضاف "ندعم إسرائيل كدولة بغض النظر عن الأفراد".
إشكالات محتملة
إن "إسرائيل" ليست عضوا في المحكمة، ولا تعترف بولايتها القضائية، لكن فلسطين أصبحت دولة عضوا فيها عام 2015.
وفي عام 2021، فتحت المحكمة تحقيقا رسميا في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقال خان في أكتوبر من العام الماضي، إن للمحكمة سلطانا قضائيا على أي جرائم حرب يُحتمل أن يكون قد ارتكبها إسرائيليون في قطاع غزة.
وفي بيانه الجديد، أكد خان أن "هذه الولاية سارية وتشمل تصعيد الأعمال العدائية والعنف منذ السابع من أكتوبر 2023. ولمكتبي أيضا الاختصاص فيما يتعلق بالجرائم التي يرتكبها رعايا الدول الأطراف ورعايا الدول غير الأطراف على أراضي دولة من الدول الأطراف".
وكتب سلامة في مقال سابق، إن نظام المحكمة "لا يُعفي إسرائيل كونها ليست عضوا، إذ يمكن لفلسطين باعتبارها دولة عضواً في نظام المحكمة أن تتقدم لمكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بعد توثيق جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل".
إضافة إلى ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية لا تمتلك قوة شرطة خاصة بها، لذا فهي تعتمد على الدول في تنفيذ أوامر الاعتقال التي تصدرها (أو على المشتبه بهم أن يقدموا أنفسهم إلى المحكمة طواعية).
والدول الـ124 التي انضمت إلى المحكمة الجنائية الدولية ملزمة قانونا بتنفيذ أوامر المحكمة (المادة 86 التي تنص على "تعاون الدول الأطراف معه تعاونا كاملا، وفقا لأحكام هذا النظام الأساسي في التحقيق والملاحقة القضائية للجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة".
ولكن تاريخيا كان هذا التعاون محل شكوك، ولايزال 17 شخصا صدرت بحقهم أوامر اعتقال طلقاء، وفق منتدى "جاست سيكوريتي" القانوني.
ويشير سلامة إلى، أنه "لا حصانة للصفة الرسمية للمتهم أمام المحكمة، سواء كان رئيسا أو رئيس وزراء أو وزيرا أو سفيرا أو قائد جيش أو قائد ميليشيات عسكرية.
"وهذه ليست بدعة من المحكمة ولكن المادة 27 في النظام الأساسي للمحكمة تنص على ذلك".
لكن في نهاية المطاف، واستنادا إلى التجارب السابقة للمحكمة الجنائية الدولية، فإن الإدانة لا تعني بالضرورة الاعتقال والمحاكمة الفورية.
وعلى سبيل المثال لم يتم القبض على البشير، أو محاكمته حتى الآن، على الرغم من صدور أمر اعتقاله في عام 2009.
ولفترة طويلة، قبل الإطاحة به، ظل البشير يسافر إلى "دول صديقة" التي لم تقم باعتقاله، وكانت حجتهم في ذلك هي أن أعراف القانون الدولي تقضي بحصانة رؤساء الدول.
وفي عام 2019، ذكرت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بوضوح أنه لا توجد مثل هذه الحصانة فيما يتعلق بالقضايا المعروضة على المحاكم الدولية، وخاصة المحكمة الجنائية الدولية.
وبالتالي فإن المشكلة المباشرة التي يواجهها المسؤولون الإسرائيليون بموجب أي مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية هي أن الدول الأعضاء في المحكمة ستكون ملزمة قانونا باعتقال هؤلاء المسؤولين إذا سافروا إلى أي من الدول الأعضاء.