جنوب أفريقيا تفعل ما تنصل منه كل العرب.. "إسرائيل" وجدت نفسها مجبرة بالمثول أمام "العدل الدولية"
انفوبلس/ تقرير
قلق "إسرائيلي" جِدّي من القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضدها بسبب الحرب على قطاع غزة واتهامها "تل أبيب" بتنفيذ عملية إبادة جماعية، وينبع قلق "إسرائيل" من الإعداد الجيد للقضية من قِبل بريتوريا ودعم دول أخرى لها، والسوابق التاريخية، ويسلط تقرير شبكة "انفوبلس"، الضوء على كامل حيثيات ملف القضية وتفاصيلها.
جنوب أفريقيا دخلت في معركة قانونية كبرى مع "إسرائيل" بعد أن تقدمت بعريضة دعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية
تبدأ جلسات محكمة العدل الدولية في لاهاي للنظر في دعوى جنوب أفريقيا على "إسرائيل"، حيث تعرض جنوب أفريقيا، غدا الخميس 11 يناير/ كانون الثاني 2024، اتهاماتها لـ"إسرائيل" بارتكاب "إبادة جماعية" في قطاع غزة، وفي اليوم التالي تُقدم "إسرائيل" حُججها الدفاعية.
وأعلن الناطق باسم وزارة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب أفريقيا، كلايسون مونيلا، في تدوينة على منصة "إكس"، أنه من المقرر أن تنطلق الجلسة الأولى للمحاكمة في 11 يناير/ كانون الثاني الجاري، بمدينة لاهاي الهولندية، وتتواصل في اليوم التالي، وأوضح أن بلاده تواصل تحضيراتها في هذا الخصوص.
محكمة العدل الدولية، والتي يطلق عليها أيضاً اسم المحكمة العالمية، هي أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة، تأسست عام 1945 للتعامل مع النزاعات بين الدول. وتتعامل هيئة المحكمة المؤلفة من 15 قاضياً- والتي سيُضاف إليها قاضٍ واحد من كل طرف في قضية إسرائيل- مع النزاعات الحدودية والقضايا المتزايدة التي ترفعها الدول لاتهام أخرى بانتهاك التزامات معاهدة الأمم المتحدة.
وقَّعت كل من جنوب أفريقيا و"إسرائيل" على اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للفصل في النزاعات على أساس المعاهدة. وبينما تدور القضية حول الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليس للفلسطينيين أي دور رسمي في الإجراءات، لأنهم ليسوا دولة عضواً في الأمم المتحدة.
وتُلزم اتفاقية الإبادة الجماعية جميعَ الدول الموقّعة، ليس فقط بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية، بل وبمنعها والمعاقبة عليها. وتُعرّف المعاهدة الإبادة الجماعية بأنها "الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية".
كانت "إسرائيل" قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، معلنةً عن هدفين رئيسيين هما: تدمير المقاومة، وتحرير الأسرى بالقوة العسكرية.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية حماس على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر ذلك اليوم، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنَّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
وحتى اليوم الأربعاء 10 يناير/ كانون الثاني، ارتقى أكثر من 23 ألف شهيد فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، إضافةً إلى إصابة عشرات الآلاف وتدمير كامل لغالبية مباني القطاع وبنيته التحتية المدنية، بخلاف الحصار المطبق وحرمان أكثر من 2.3 مليون فلسطيني فيه من أساسيات الحياة.
*تفاصيل قضية جنوب افريقيا
قدمت جنوب أفريقيا -وليست دولة عربية- طلباً إلى محكمة العدل الدولية لبدء إجراءات ضد "إسرائيل"؛ لقيامها بأعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حسبما أعلنت المحكمة الدولية، في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023.
ودخلت جنوب أفريقيا في معركة قانونية كبرى مع "إسرائيل" بعد أن تقدمت بعريضة دعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية، دعت فيها المحكمة إلى التحقيق فيما إذا كانت "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في هجومها المتواصل على قطاع غزة.
وتُعدُّ العريضة، المكونة من 84 صفحة، أبرز دعوة علنية حتى الآن لوصف تصرفات "إسرائيل" في غزة بأنها إبادة جماعية، ويأتي ذلك في وقت يقارب فيه عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة 23 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وتقول عريضة الدعوى، إن تصرفات "إسرائيل" تحمل طابع الإبادة الجماعية؛ لأنها تنطوي على نية إبادة جزءٍ كبير من الجماعة القومية والعنصرية والإثنية الفلسطينية.
ووصفت صحيفة The Guardian البريطانية الادعاء المقدم في العريضة بأنه، موضوعي ومبني على حجج قوية ومليء بإشارات مفصلة إلى كبار مسؤولي الأمم المتحدة وتقاريرها، والذي نادراً ما يحيد عن هدفه الأساسي الضروري المتمثل في السعي لإثبات نية "إسرائيل" للإبادة الجماعية. والمحامون الذين ترسلهم جنوب أفريقيا إلى لاهاي هم أفضل المحامين لديها. الكثير من حجج جنوب أفريقيا مستمدة من حكم محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة التي أصدرتها في قضية غامبيا ضد ميانمار في عام 2020.
كما جرت صياغة الوثيقة المؤلفة من 84 صفحة بدقة على يد خبراء دوليين في الإبادة الجماعية. وتأتي الوثيقة مليئةً بالأدلة الداعمة. كما جرى نقاش جوانبها القانونية بعناية. لهذا تحمل حجةً قويةً بحقائقها المُرَّة والوحشية والباردة.
وقسّمت الوثيقة سيل الأدلة على أعمال الإبادة الجماعية المتعمّدة إلى سبع فئات رئيسية. ويجدر بنا سردها على النحو التالي:
1- أدلة على حجم القتل الذي تجاوز الـ22.000 حالة وفاة حتى الآن، ويشكل النساء والأطفال 70% منها.
2- أدلة المعاملة القاسية وغير الإنسانية لأعداد كبيرة من المدنيين -وبينهم أطفال- الذين تعرضوا للاعتقال وتعصيب الأعين، وأُجبروا على خلع ثيابهم والبقاء في العراء وسط الجو البارد، قبل اصطحابهم إلى أماكن غير معلومة.
3- أدلة الحنث المستمر بوعود توفير الأمان، مع قصف "إسرائيل" للمناطق التي أوصت السكان بالفرار إليها في المنشورات.
4- أدلة الحرمان من الوصول إلى الطعام والماء، وهي السياسة التي دفعت بسكان غزة إلى حافة المجاعة.
5- أدلة الحرمان من الوصول إلى الملاذ، والثياب، ووسائل النظافة الشخصية المناسبة. كما أدى هجوم "إسرائيل" على منظومة الرعاية الصحية إلى بقاء 13 من أصل 36 مستشفى فقط في الخدمة بشكل جزئي، مع استهداف القوات الإسرائيلية لموّلدات المستشفيات، وألواح الطاقة الشمسية، ومحطات الأكسجين، وخزانات الماء، وسيارات الإسعاف، والقوافل الطبية، والمستجيبين الأوائل.
6- أدلة تدمير الحياة الفلسطينية في غزة -بما في ذلك البلدات، والبيوت، والمجمعات السكنية، والبنية التحتية، والجامعات، والثقافة.
7- أخيراً وليس آخراً، أدلة تعبر عن نية الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني على لسان مسؤولي الحكومة، بما في ذلك إشارات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى قصة توراتية عن تدمير بني "إسرائيل" للعماليق بالكامل. وتشمل هذه الأدلة كذلك تصريح الرئيس إسحق هرتسوغ بأن "الشعب بأكمله يتحمل المسؤولية"، فضلاً عن تأكيد وزير الدفاع يوآف غالانت على أن إسرائيل تحارب "حيوانات بشرية".
على الرغم من أن جنوب أفريقيا أول دولة تتقدم بهذه الدعوى لاتهام "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية، فإن كثيراً من الدول والأفراد والمنظمات وصفت تصرفات "إسرائيل" في غزة بأنها إبادة جماعية.
لماذا رفعت جنوب أفريقيا من بين كل دول العالم هذه الدعوى؟
أيَّدت جنوب أفريقيا القضية الفلسطينية طيلة عقود، ودعمت مساعي الفلسطينيين لإقامة دولتهم في المحافل المحلية والدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة. ولطالما شبَّهت جنوب أفريقيا الاضطهاد الذي يتعرض له الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي بما تعرض له مواطنوها السود خلال حقبة الفصل العنصري، وأعلنت توافقها مع ما ذهبت إليه منظمات حقوقية دولية بارزة في وصف معاملة إسرائيل للفلسطينيين بأنها تمييز عنصري.
وقد تناولت جنوب أفريقيا، في عريضتها المقدمة إلى محكمة العدل الدولية، بعض وقائع هذه المعاملة التي كان الفلسطينيون يلقونها من الإسرائيليين قبل الحرب، وعدَّتها مستنداً أولياً على ما تصفه بالإبادة الجماعية المستمرة للفلسطينيين.
وقالت جنوب أفريقيا في العريضة: يسبق هذه الحرب "تاريخ من الفصل العنصري والتهجير والتطهير العرقي والضم والاحتلال والتمييز والحرمان المستمر للشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، وقد تقاعست إسرائيل، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 خصوصاً، عن منع الإبادة الجماعية" المرتكبة بحق الفلسطينيين.
وأشارت جنوب أفريقيا في عريضتها إلى أنها خاطبت "إسرائيل" أكثر من مرة بشأن مخاوفها من العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ولم تتلقَّ أي رد. وأوضحت أنها أرسلت مذكرة شفوية -مذكرة دبلوماسية رسمية غير موقعة- إلى السفارة الإسرائيلية استدعت فيها المخاوف من أن أفعال "إسرائيل" توشك على بلوغ عتبة الإبادة الجماعية، إلا أن إسرائيل لم ترد رداً عاجلاً على المذكرة.
وبناء على ذلك، قرَّرت جنوب أفريقيا في نهاية المطاف أن تتقدم بهذا الطلب، لحثِّ المحكمة الدولية على الاستماع إلى ادعائها بارتكاب "إسرائيل" الإبادة الجماعية، وإجبار "إسرائيل" على الرد على هذا الادعاء.
كما أصدر عدة مسؤولين بارزين بالأمم المتحدة تحذيرات علنية من أن "إسرائيل" في غزة قد تصل إلى حدِّ الإبادة الجماعية. وقال ثمانية مقررين تابعين للأمم المتحدة في 2 نوفمبر/تشرين الثاني، إنهم "مقتنعون بأن الشعب الفلسطيني معرض لخطر الإبادة الجماعية". وفي 16 نوفمبر/تشرين الثاني، حذر 15 مقرراً تابعاً للأمم المتحدة من أن تصرفات إسرائيل بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول "يمكن أن تندرج في أفعال الإبادة الجماعية".
*توافر نية الإبادة الجماعية تفضحه تصريحات المسؤولين الإسرائيليين
غالباً ما يصعب إثبات الاتهام بالإبادة الجماعية، لأن التعريف الوارد في الاتفاقية يشترط استدعاء مرتكب الجريمة لنيةِ الإبادة الجماعية. وقد زعم الجيش الإسرائيلي مراراً طوال عمليته العسكرية بأنه لا ينوي قتل المدنيين الفلسطينيين، وإنما يستهدف حماس فقط.
إلا أن عريضة جنوب أفريقيا أوردت تصريحات عديدة لمسؤولين إسرائيليين بارزين تبرهن على أن إسرائيل انتوت "ارتكاب أعمال إبادة جماعية أو تقاعست عن منعها".
ومن الأمثلة المذكورة التصريح الذي أدلى به الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في 12 أكتوبر/تشرين الأول، والذي قال فيه إنه لا فرق بين المقاتلين المسلحين والمدنيين في غزة، "إنها مسؤولية شعب [غزة] بأكمله. والحديث المتداول عن عدم علم المدنيين أو عدم مشاركتهم ليس صحيحاً. إنه غير صحيح على الإطلاق… لذا سنقاتلهم حتى يجثوا على الركب!".
وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت أن إسرائيل ستفرض حصاراً شاملاً على غزة، وستقطع الكهرباء والمياه عن القطاع، بل بلغ به الأمر أن وصف أهل غزة بأنهم "حيوانات بشرية".
وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير في خطاب متلفز إن إسرائيل عندما تقول إنها ستدمر حماس، فإنها تقصد أن هذا التدمير سيشمل "الذين احتفلوا [بهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول]، والذين أيَّدوا، والذين وزعوا الحلوى، فكلهم إرهابيون، وكلهم يجب تدميرهم أيضاً".
وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني، قال وزير الزراعة الإسرائيلي: "نحن الآن في الواقع نلحق نكبة ثانية بغزة"، وهو يقصد بذلك إلى القتل الجماعي للفلسطينيين وتهجيرهم القسري وغيرها من الشنائع التي ارتكبتها إسرائيل قبيل إعلان دولتها في عام 1948.
*ما أهمية الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على "إسرائيل" بالعدل الدولية؟
تُعد محكمة العدل الدولية، ومقرها لاهاي بهولندا، الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وتقوم بتسوية النزاعات بين الدول وإبداء الرأي الاستشاري في المسائل القانونية الدولية.
وبعد تقديم طلبها إلى محكمة العدل الدولية، قالت رئاسة جنوب أفريقيا في بيان لها إن البلاد ملزمة "بمنع حدوث الإبادة الجماعية للفلسطينيين". وأضافت الرئاسة أن "جنوب أفريقيا تشعر بقلق بالغ إزاء محنة المدنيين المحاصرين وسط الهجمات الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، بسبب الاستخدام العشوائي للقوة والتهجير القسري للسكان".
ويقول خبراء بالقانون الدولي إن الخطوة التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا، والتي طال انتظارها، تعكس اعترافاً حاسماً بالدور الذي يلعبه المجتمع الدولي في حل الصراعات وحماية حقوق الإنسان، حيث يمكن أن يمثل قرار دعم الإجراء القانوني الذي اتخذته جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية خطوة مهمة نحو دعم القانون الدولي والعدالة، ومحاسبة "إسرائيل" على أفعالها.
ويقول المحامي البريطاني، الطيب علي، مدير المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين في لندن، بمقال له بموقع MEE البريطاني، إن الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا ليس مجرد اتهام؛ بل وثيقة شاملة مكونة من 84 صفحة ومتاحة للجمهور، وترتكز على تحليل واقعي وقانوني مفصل، يمكنه منع المزيد من الخسائر في الأرواح لدى الفلسطينيين من خلال إصدار محكمة العدل الدولية تدابير مؤقتة عاجلة لـ"إسرائيل" تكبح جماح حربها.
ويضيف علي أن اتهام "إسرائيل" بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية يشكل ادعاء خطيراً عليها، وهو ادعاء تتمتع محكمة العدل الدولية بمؤهلات فريدة لتقييمه دون أي تحيز سياسي. ومن الأهمية بمكان أن نفهم أن مُساءلة دولة ما أمام القانون الدولي، كما تسعى جنوب أفريقيا، لا يشكل عملاً من أعمال التشهير، بل سعياً لتحقيق العدالة.
حيث إن القرار الذي اتخذته المحكمة البريطانية في عام 2009 بإصدار مذكرة اعتقال بحق الوزيرة الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، بتهمة ارتكاب جرائم حرب غزة حينها، شكَّل شهادة على ضرورة التدقيق القانوني فيما يتعلق بالحصانة السياسية للمسؤولين الإسرائيليين.
خاصةً أن التصريحات الأخيرة التي أطلقها الساسة الإسرائيليون المتطرفون، والتي يحمل بعضها تهديدات محتملة للإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، قد تدين "إسرائيل" بالفعل، ولا بد أن تخضع أيضاً للفحص القضائي من قبل محكمة العدل الدولية.
*ما الذي يمكن أن تحققه الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا؟
الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية (ICJ) يمكن أن تكون النتائج المحتملة لهذه الدعوى إذا استمرت ذات أهمية، ولكنها تظل غير مؤكدة، لكن هناك بعض النتائج المحتملة لهذه الخطوة، تشمل التالي:
*من المرجح أن تحدث جلسة لطلب أمر مؤقت لحماية حقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة ومنع ومعاقبة جريمة الإبادة في الأيام أو الأسابيع القادمة، إذا تم منحه يمكن أن يصدر أمر مؤقت لوقف الحرب خلال أسابيع.
*إجابة نهائية حول ارتكاب جريمة الإبادة: يمكن أن تقدم القضية إجابة نهائية حول ما إذا كانت إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
*عملية قانونية طويلة: إذا تقدمت القضية، فقد تستغرق سنوات للفصل فيها، في هذه الحالة، قد تأمر المحكمة "إسرائيل" باتخاذ تدابير معينة لوقف الجرائم، مثل وقف حملتها العسكرية في غزة، أو تقديم تعويضات للضحايا، والأخطر هو وصم "إسرائيل" للأبد بأنها دولة مدانة بارتكاب عمليات إبادة جماعية، ما قد يزيل غطاء الدعم الدولي عنها.
*تحقيقات موازية: يمكن أن تتطور التحقيقات فيما تقدم لمحكمة العدل الدولية، بالتوازي مع التحقيقات بالمحكمة الجنائية الدولية (ICC) التي تحقق بالفعل في إمكانية ارتكاب "إسرائيل" لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة والضفة الغربية.
*وبشكل عام، يمكن أن تؤدي الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في المحكمة الدولية للعدل إلى عواقب قانونية ودبلوماسية كبيرة على تل أبيب، ولكن النتائج الدقيقة تظل غير مؤكدة حتى يتم النظر في القضية واتخاذ قرار من قبل المحكمة.
"إسرائيل" وجدت نفسها مجبرة بالمثول أمام "العدل الدولية"
وكانت "إسرائيل" قد هاجمت جنوب أفريقيا، بعد رفع الأخيرة دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تتهم فيها تل أبيب بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" في قطاع غزة. حيث قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان إن إسرائيل ترفض (باشمئزاز) ما وصفتها بـ"مؤامرة الدم التي قامت بها جنوب أفريقيا في طلبها المقدم إلى محكمة العدل الدولية".
وزعمت يوم السبت 30 ديسمبر/كانون الأول 2023، أن "حجة جنوب أفريقيا تفتقر إلى أساس واقعي وقانوني، وتشكل استغلالاً رخيصاً لمحكمة العدل الدولية". وادَّعت الخارجية الإسرائيلية أن جنوب أفريقيا "تتعاون مع منظمة إرهابية تدعو إلى تدمير دولة إسرائيل (في إشارة إلى حركة حماس)".
لكن تل أبيب عادت وقررت، الثلاثاء 2 يناير/كانون الثاني 2024، المثول أمام العدل الدولية، حيث قال مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي ليديعوت أحرونوت إن "الخطوة غير معتادة"، مضيفاً أن "إسرائيل قررت المثول لأنها وقّعت على اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية منذ عقود، ونحن بالتأكيد لا نقاطعها، سنقف وسنردّ الدعوى العبثية التي تشكل مؤامرة دموية"، حسب تعبيره.
وأضاف هنغبي: "لقد عانى الشعب اليهودي أكثر من أي أمة أخرى من الإبادة، لقد ذُبح ستة ملايين من شعبنا بقسوة لا نهاية لها، لقد استُخدمت قسوة مماثلة ضد مواطني إسرائيل في مجزرة 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أننا هذه المرة لدينا القدرة على الدفاع عن أنفسنا ضد أولئك الذين يسعون لتدميرنا". وأضاف أن "الادعاء الذي لا أساس له ضد حق الضحية في الدفاع عن نفسه هو وصمة عار، ونتوقع من جميع الدول المتحضرة أن تتعاطف معنا"، على حد وصفه.
وأفادت تقارير بأنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يريد من المحامي الأمريكي آلان ديرشوفيتز تمثيل "إسرائيل" في جلسة استماع مقبلة في لاهاي (مقر محكمة العدل الدولية)، بشأن الاتهام بارتكاب جرائم إبادة جماعية خلال حربها على غزة، وفق ما نقل موقع Middle East Eye البريطاني.
كما قال مسؤول إسرائيلي، في 7 يناير/كانون الثاني 2024، إن "إسرائيل" اختارت رئيس المحكمة العليا السابق أهارون باراك للانضمام إلى هيئة قضاة بمحكمة العدل الدولية.
وبموجب النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن الدولة التي ليس لديها قاضٍ يحمل جنسيتها في هيئة المحكمة، يمكنها أن تختار قاضياً خاصاً للجلوس في قضيتها.
"إسرائيل" تخشى من التبعات وتريد إحباط قرار وقف إطلاق نار محتمل من "العدل الدولية"
وتقول يديعوت أحرونوت قد تستمر جلسات الاستماع في الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" ما بين أربع وست سنوات، إلا أن الجهود الإسرائيلية تهدف الآن إلى إحباط أمر مؤقت من المحكمة قد يُجبر "إسرائيل" على التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة بشكل فوري.
وتضيف الصحيفة أن "إسرائيل" ستستخدم أيضاً أدوات الضغط الدبلوماسي لتعبئة الدول ضد جنوب أفريقيا وضد هذه الخطوة. مضيفة أن "لدى إسرائيل حججاً قانونية قوية لرفض ادعاء جنوب أفريقيا، أحدها هو الادعاء بأن إسرائيل لم ترتكب إبادة جماعية في غزة، وأنه حتى جنوب أفريقيا لم تقدم مثل هذا الادعاء في الماضي".
من جهتها، قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية٬ إن حقوقيين إسرائيليين لفتوا إلى وجود مخاوف في تل أبيب من إدانتها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، بعد تقديم جنوب إفريقيا شكوى ضدها، مضيفة أن المؤسسة الأمنية ومكتب المدّعي العام يعشرون بالقلق من أن محكمة العدل الدولية في لاهاي ستتهم "إسرائيل" بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
وبحسب الصحيفة "حذّر خبير قانوني كبير (لم تذكر اسمه) في الأيام الأخيرة، ضبّاط الجيش الإسرائيلي، بمن فيهم رئيس الأركان هرتسي هاليفي، من وجود خطر حقيقي بأن تصدر المحكمة أمرا قضائيا يدعو "إسرائيل" لوقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن إسرائيل ملتزمة بأحكام المحكمة".
ولفتت الصحيفة إلى أن الجيش ومكتب المدّعي العام بدأوا بالفعل الاستعداد للتعامل مع الشكوى، وسيتمّ عقد جلسات استماع حول الأمر بوزارة الخارجية الإسرائيلية. مضيفة أنه وفقاً لخبراء القانون الدولي، فإن هذا الإجراء قد يعزز مزاعم الإبادة الجماعية ضد "إسرائيل"، وبالتالي يؤدي إلى عزلتها الدبلوماسية ومقاطعتها أو فرض عقوبات عليها أو ضد الشركات الإسرائيلية.
*"إسرائيل" تخسر صورتها وحرب العلاقات العامة
وفي حربها الجارية على غزة لم تتمكن "إسرائيل" من إحراز تقدم كبير فيما يتعلق بهدفها العسكري الأساسي؛ القضاء على حماس، وبينما تواجه "إسرائيل" انتكاسات عسكرية عديدة في غزة فإنها تكافح أيضاً لحشد الدعم العالمي لقصفها العشوائي للفلسطينيين، لكن يبدو أنها خسرت معركة العلاقات العامة وصورتها العالمية، التي تُوجت بالدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضدها.
ولا شك أن استطلاعات الرأي العامة في أوروبا الغربية تكشف لنا عن الكثير، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 35% فقط من الألمان يؤيدون موقف حكومتهم المؤيد لـ"إسرائيل"، وأن الشعب في إسبانيا أكثر ميلاً إلى تأييد فلسطين من تأييد "إسرائيل"، وأن الأغلبية الساحقة من الأيرلنديين تُعارض العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.
فالبريطانيون منقسمون فعلياً بشأن "إسرائيل" وفلسطين، وهو الواقع الذي يمثل ابتعاداً عن الدعم الشعبي البريطاني الساحق السابق لـ"إسرائيل". وتحكي بيانات استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة قصة مماثلة. على سبيل المثال أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة هارفارد وهاريس مؤخراً، أن الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 24 عاماً منقسمون بالتساوي بين دعم حماس ودعم "إسرائيل".
ولعل الأمر الأكثر دلالة هو أن حوالي 60% من الشباب الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً يشعرون بأن هجوم حماس على "إسرائيل"، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان مبرَّراً، حيث يشعر ما يقرب من نصف أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عاماً و40% من الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عاماً بالشعور نفسه.
في النهاية، يبدو أن "إسرائيل" تدرك أنها تخسر أرضها في معركة الرأي العام وصورتها بين الدول. على المدى الطويل، هناك خطر حقيقي من أن تفقد "إسرائيل" كل ما تبقى لها من مكانة، وهو أمر يمكن أن يؤثر على الحقائق السياسية على الأرض، خاصةً إذا تمت محاكمتها في العدل الدولية.
ما هي محكمة العدل الدولية؟ وما تأثير أحكامها؟
محكمة العدل الدولية من الهيئات الرئيسية الست للأمم المتحدة، وهي تختلف عن المحكمة الجنائية الدولية، التي تتولى محاكمة الأفراد بتهمة ارتكاب جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية.
وتتمتع المحكمة بسلطة تسوية النزاعات بين الدول، إلا أنها لا تملك سلطة إنفاذ قراراتها على الدول، وإن كانت هذه القرارات ذات إلزام قانوني.
ومع ذلك، قال خبراء لموقع MEE إنه على الرغم من صعوبة فرض قرارات محكمة العدل الدولية على الدول لتنفيذها، فإن هذه القرارات لها تأثير كبير في تغيير السرديات المتداولة بشأن النزاعات ذات الصلة في جميع أنحاء العالم. وإذا أصدرت المحكمة حكماً يُدين إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فإن ذلك سيلحق ضرراً جسيماً بسمعة إسرائيل الدولية وعلاقاتها مع الدول الأخرى.
وقال طارق كيني الشوَّا، زميل السياسات في مؤسسة "شبكة السياسات الفلسطينية" بالولايات المتحدة، "إن قرار محكمة العدل الدولية بإدانة إسرائيل سيكون انتصاراً رمزياً للفلسطينيين على الساحة الدولية، وإن كان من المستبعَد أن يكون له تأثير يعتدُّ به في إيقاف ما يتعرض له الفلسطينيون الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري".
ولفت كيني الشوَّا إلى أنه إذا أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً بإدانة "إسرائيل"، فمن المتوقع أن يكون عدم تنفيذ القرار "مثالاً آخر على القصور المتأصل في النظام القانوني الدولي، والذي يوقف تنفيذ أحكام القانون الدولي على عدد قليل من الدول القوية، أبرزها الولايات المتحدة والغرب، وهي أشد الدول دفاعاً عن إسرائيل".
يُذكر أن محكمة العدل الدولية حكمت لمصلحة أوكرانيا في مارس/آذار بعد أن قدمت كييف طلباً يتهم روسيا بارتكاب إبادة جماعية بسبب غزوها للبلاد. وأمرت المحكمة روسيا بوقفِ عملياتها العسكرية في الأراضي الأوكرانية. إلا أن روسيا لا تزال تواصل عملياتها العسكرية في أوكرانيا بعد عامين تقريباً من هذا الحكم، فضلاً عن أن الصراع لا تلوح له نهاية قريبة في الأفق.
ومع ذلك، فإن القضية المرفوعة على "إسرائيل" جعلتها تتخلى عن تجاهلها المستمر منذ عقود للمحكمة، واضطرَّتها إلى تقديم دفاع عن نفسها أمام هذه الاتهامات، خشيةَ تزايد عزلتها على الساحة الدولية بسبب هجومها على غزة، لا سيما بعد أن أعلنت بعض الدول، مثل تركيا وماليزيا، دعمها للقضية التي رفعتها جنوب أفريقيا.
وقال فرانسيس بويل، محامي حقوق الإنسان الدولي الذي عمل سابقاً في قضية الإبادة الجماعية في البوسنة، لموقع Democracy Now في مقابلة: إن "جنوب أفريقيا ستحصل من المحكمة على أمر قضائي بإدانة إسرائيل".