استعادة "ذاكرة مسلوبة" بعد "إبادة أثرية".. أين وصل ملف الآثار العراقية المهربة بعد 2003

انفوبلس/ تقرير
لقد شهدت السنوات التي تلت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فوضى عارمة، استغلها لصوص الآثار والمتاجرون بها لنهب كنوز لا تُقدر بثمن من متاحف ومواقع أثرية لا حصر لها، تاركين خلفهم فراغًا هائلاً في السجل التاريخي والحضاري للبلاد. هذه الكارثة، التي تعد واحدة من أكبر عمليات النهب الثقافي في التاريخ الحديث، أدت إلى تشتت جزء كبير من التراث العراقي في أيدي مهربين وتجار ومقتنين حول العالم.
اليوم، يخوض العراق سباقًا مع الزمن، مدعومًا بجهود حكومية ودولية، لاستعادة هذه القطع الأثرية. فرغم التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد، تضع الحكومة الحالية ملف استعادة الآثار على رأس أولوياتها، إدراكًا منها بأن كل قطعة مستعادة هي بمثابة جزء من روح العراق التي تعود إلى جسدها.
إن هذه الجهود، التي تشمل التعاون مع منظمات دولية وحكومات أجنبية، تهدف إلى إعادة آلاف القطع الأثرية إلى موطنها الأصلي، لتروي قصص حضارات بلاد الرافدين العريقة للأجيال القادمة، وتُعيد للعراق جزءًا من ذاكرته وهويته التي سُلبت قسرًا.
"إبادة أثرية"
منذ العام 2003، تعرضت الآثار العراقية لما وصفه الخبير الآثاري الدكتور عامر عبد الرزاق بـ"إبادة أثرية"، تمثلت في نهب آلاف المواقع وسرقة ملايين القطع التي هربت إلى الخارج، ليبدأ العراق بعدها سباقاً شاقاً نحو استعادة ذاكرته المسلوبة.
وقال عبد الرزاق إن "جميع القطع المسروقة هي جزء من جسدنا، ومن تراثنا العريق. وقد تمكنا من استرداد قطع نادرة من الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، ودول أخرى، لكن الطريق مازال طويلا".
وأوضح أن القطع المسروقة من المتحف العراقي تجاوزت 14 ألف قطعة، تم استرجاع أكثر من 11 ألفاً منها، فيما بقيت آلاف القطع التي سُرقت من مواقع أثرية غير موثَّقة أو غير معروفة بالصور، ما يجعل عملية استردادها شديدة الصعوبة، وتتطلب جهداً دبلوماسياً وتقنياً هائلاً.
العراق يستعيد أكثر من 12 ألف قطعة
مستشار رئيس الوزراء لشؤون السياحة والآثار، عمر العلوي أكد أن ملف استعادة الآثار يمثل أولوية لدى الحكومة الحالية برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، مشيراً إلى أنه تم خلال هذه الحكومة استعادة ما يزيد عن 12,000 قطعة أثرية سُرقت وهُرّبت إلى خارج البلاد.
وأوضح العلوي أن هيئة الآثار تمكنت من تحقيق هذا الإنجاز بالتعاون مع وزارة الخارجية، والسفارات العراقية، والمنظمات والجامعات والمعاهد المختصة التي لديها شراكات فاعلة مع الهيئة العامة للآثار والتراث.
وأضاف: "من المتوقع خلال الأشهر المقبلة استعادة عدد مهم من الآثار المهرّبة والمسروقة من دول مثل بريطانيا وهولندا وبلجيكا، أما القطع التي تم استردادها حتى الآن فجاءت من أميركا واليابان، وبلدان أوروبية عدة، إضافة إلى لبنان والأردن".
وأشار إلى أن هناك نوعين من الآثار المسروقة: الأولى تعود إلى القطع التي نُهبت من المتحف العراقي خلال الاحتلال عام 2003، والثانية هي قطع سُرقت من مواقع أثرية داخل البلاد، وهذه العمليات مازالت مستمرة، في مقابل جهود دؤوبة وموازية لاستعادتها.
وشدد العلوي على أن هناك تنسيقاً عالي المستوى مع وزارتي الثقافة والخارجية في هذا الملف، مع تأكيد أهمية دور السفارات العراقية في الخارج في إطار المفاوضات والجهود الدبلوماسية. وقال العلوي: "كل قطعة أثرية تُسترد تُعدُّ مصدر جذب سياحي، وهناك خطط قائمة منذ أكثر من سنتين للارتقاء بواقع الآثار وجعل مواقعها مؤهلة لاستقبال الزوار".
وكشف عن العمل على مشروع معرض متجول للآثار العراقية في أوروبا تحت عنوان "بلاد ما بين النهرين"، وهو أقرب إلى "متحف متنقل"، مؤكداً أن المشروع يخضع لمفاوضات مستمرة منذ فترة طويلة، وأنه سيوفر فوائد كبيرة للعراق.
وأشار إلى أن من التحديات الكبيرة التي تواجه السياحة الأثرية أن الكثير من دول أوروبا مازالت تضع العراق في "الدائرة الحمراء"، ما لا يشجع مواطنيها على زيارة البلاد، موضحاً أن هذا النوع من الأنشطة الثقافية والدبلوماسية سيكون له دور مساعد في رفع هذا الحظر وتحسين صورة العراق خارجياً.
وختم العلوي تصريحه بالقول: إن هناك جهوداً حكومية مستمرة لتعديل بعض القوانين، إلى جانب تحديث الإجراءات الخاصة بحماية الآثار ومنع تهريبها، مؤكداً أن ذلك يجري ضمن خطة شاملة تشهد تنفيذ خطوات متتالية في ظل الحكومة الحالية.
ولا يزال عدد القطع المستعادة قليلاً مقارنةً بالملايين التي يُقدر أنها نُهبت من المتاحف والمواقع الأثرية بعد عام 2003، وتفاقم الوضع بعد سيطرة تنظيم "داعش" الارهابي على مناطق واسعة في 2014.
كوادر فنية وقانونية
من جانبه، أكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الثقافة والسياحة والآثار، أحمد العلياوي، أن جهود استرداد الآثار المهرّبة تعتمد على قسم الاسترداد في الهيئة العامة للآثار والتراث، الذي يعمل ضمن منظومة تخصصية تضم كوادر فنية وقانونية، تُعنى برصد القطع الأثرية ذات الخصائص العراقية المعروضة في المتاحف والأسواق والجامعات والمراكز البحثية الدولية.
وأوضح العلياوي أن القسم يتابع بشكل دقيق كل قطعة يُشتبه بأنها عراقية الأصل، ليُعِدّ لها ملفاً قانونياً وفنياً مفصلاً، سواء كانت مسروقة منذ عقود أو هُرِّبت مؤخراً، تمهيداً للتنسيق مع وزارة الخارجية والسفارات في الدول المعنية، من أجل استعادتها.
وأضاف أن قسم الاسترداد يعدُّ من الأقسام الحيوية في الهيئة العامة للآثار والتراث، وقد لعب دوراً محورياً خلال السنوات الأربع الماضية في استعادة أكثر من 40,000 قطعة أثرية، بالتعاون مع وزارة الخارجية، وبدعم مباشر من وزير الثقافة، مشيراً إلى أن هذه الجهود تنوعت بين المراسلات الرسمية، والزيارات الميدانية، واللجوء إلى القضاء الدولي عند الحاجة.
وبيّن أن العراق يلجأ أحياناً إلى تقديم شكاوى إلى جهات دولية مثل الشرطة الدولية (الإنتربول)، لملاحقة القطع الأثرية المسروقة أو المهرَّبة، خصوصاً في حال امتناع الدولة المعنية عن التعاون.
وأشار العلياوي إلى أن العديد من الدول أبدت تعاوناً مع العراق في هذا الملف، بعضها أعاد القطع مباشرة، وأخرى قدمت دعماً لاحقاً، فيما لا تزال بعض الدول تمتنع عن إعادة الآثار، موضحاً أن الجانب الدبلوماسي يلعب دوراً حساساً في هذا الشأن، ولهذا لا تُعلن الوزارة عادةً عن أسماء الدول المتعاونة أو الرافضة، احتراماً للسياقات الدبلوماسية الجارية.
وأكد أن جميع القطع المستعادة، والمحفوظة حالياً في خزائن المتحف العراقي، ذات أهمية كبيرة، ومن بينها قطع نادرة مثل "لوح جلجامش" و"الكبش السومري"، وهي من أندر الشواهد الأثرية في العالم.
كما شدد العلياوي على أن الوزارة، بالتعاون مع الجهات الأمنية المختصة، تعمل على تأمين المتحف العراقي باعتباره الخزان الرئيس للقطع الأثرية، إضافة إلى تأمين المواقع المكتشفة وغير المكتشفة التي قد تكون عرضة للنبش العشوائي والسرقة.
وقال: "هناك خطط موضوعة لتأمين المواقع الأثرية وملاحقة الشبكات التي تتاجر بالآثار، ونعمل على رصد دائم لأي عملية تهريب أو نبش أو بيع غير شرعي"، مشيراً في هذا الصدد إلى أن ظاهرة النبش العشوائي ما زالت واحدة من أبرز التحديات التي تواجه حماية الآثار، داعياً المواطنين في المناطق القريبة من المواقع الأثرية إلى التعاون مع الجهات الأمنية والإبلاغ الفوري عن أي نشاط مشبوه أو عملية حفر غير قانونية.
وبحسب قانون الآثار والتراث رقم 55 لسنة 2002، فإن سرقة الآثار من الجرائم الخطيرة التي تهدد الإرث الحضاري، وتنص المادة 40 من القانون على "عقوبات صارمة تتراوح بين السجن لمدة لا تقل عن 7 سنوات ولا تزيد على 15 سنة، مع تعويض مقداره ستة أضعاف القيمة المقدرة للأثر أو المادة التراثية في حالة عدم استردادها"، وتشدد العقوبة إلى السجن المؤبد إذا كان مرتكب الجريمة من المكلفين بإدارة أو حراسة الأثر.
أسس قانونية معترف بها دولياً
من الناحية القانونية، أكد الخبير القانوني جبار الشويلي أن العراق يعتمد في استرداد آثاره المهربة على أسس قانونية معترف بها دولياً، ترتكز على ما هو مُسجل رسمياً لدى هيئة الآثار والتراث، وخاصة القطع المصنَّفة ضمن النفائس العراقية ذات التوثيق التاريخي.
وقال الشويلي "العراق يحتفظ بأرشيف ضخم يوثق العديد من القطع التي سُرقت في ظروف مختلفة، مما يمنحه الحق القانوني في المطالبة بها، وفق الضوابط المعتمدة في هيئة الآثار". وأضاف أن الخارجية تعتمد أيضاً على مبدأ المعاملة بالمثل مع الدول التي تحتفظ بآثار عراقية، كما يمكنها الاستعانة بـالشرطة الدولية (الإنتربول) لتقديم شكاوى رسمية والمطالبة بتلك القطع، لا سيما عندما تتعذر الحلول الدبلوماسية.
وأشار الشويلي إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه العراق في هذا الملف هو أن عدداً كبيراً من القطع سُرق نتيجة النبش العشوائي، وهي غالباً غير موثقة رسمياً، ما يجعل إثبات عراقيتها أمراً بالغ الصعوبة. وبيّن إمكانية المطالبة ببعض هذه القطع غير المسجلة، إذا تمكن من إثبات أصلها عبر مطابقتها بقطع مشابهة أو من خلال السمات الأثرية، لكن ذلك يتطلب معلومات دقيقة وتقارير فنية موثوقة.
وأكد أن العراق يمتلك اتفاقيات دولية ثنائية ومتعددة الأطراف تدعم موقفه في استرداد الآثار، مشيراً إلى أن بعض الدول وقّعت هذه الاتفاقيات، بينما هناك دول أخرى يمكن التعامل معها عبر الإجراءات القانونية الدولية ومبدأ المعاملة بالمثل.
وأضاف أن القضايا المتعلقة باسترداد الآثار لا تخضع لجدول زمني محدد، فبعضها يُحسم خلال أسابيع، بينما يمتد بعضها الآخر إلى أشهر أو سنوات تبعاً لطبيعة القضية ومدى تعاون الدولة المعنية.
وختم الشويلي تصريحه بالتأكيد على أن قانون الآثار والتراث الحالي بحاجة إلى تعديل شامل، لأنه قديم ولا يواكب التطورات القانونية والميدانية في ملف حماية الآثار، داعياً إلى تحديث التشريعات والضوابط بما يتلاءم مع الممارسات الحديثة لمكافحة التهريب وصون الإرث الثقافي العراقي.
تبقى قضية استعادة الآثار العراقية معركة مستمرة تهدف إلى إعادة جزء حيوي من تاريخ وحضارة بلاد الرافدين إلى موطنها الأصلي.