الأحزاب تبني تحالفاتها.. والبلدية تتساقط مع النفايات في شوارع الأنبار: هل انتهى عهد الخدمات؟

انفوبلس/ تقارير
رغم ما ترفعه الأحزاب الحاكمة في الأنبار من شعارات عن "الإعمار" و"الاستقرار"، يغرق الواقع الخدمي للمحافظة في حالة من التدهور المخزي، تتصدره أزمة إنسانية صادمة يعيشها عمال الأجور اليومية في البلديات، بعد تأخر رواتبهم لأكثر من شهرين دون أي تدخل فاعل من السلطة المحلية. وبينما تتراكم النفايات في شوارع الرمادي والبغدادي وهيت، ويتحول ملف النظافة إلى خطر بيئي وصحي حقيقي، ينشغل القادة المحليون بالصراعات الحزبية وتقاسم النفوذ، متجاهلين أبسط حقوق المواطنين والعاملين. ويُنظر إلى هذا المشهد باعتباره انعكاساً صارخاً لعجز الحزب المهيمن على القرار الإداري في الأنبار، الذي فشل في ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الخدمي، وسط اتهامات متزايدة بإدارة هشة، وفساد في توزيع الموارد، وغياب الشفافية في التعامل مع الأزمات.
ضائقة إنسانية على هامش الوظيفة
"نواصل عملنا رغم كل شيء، لكننا لا نملك ما نُطعم به أطفالنا"، بهذه العبارة البسيطة والموجعة في آن، اختصر أحد عمال الأجور اليومية معاناته، وهو صوت واحد من بين عشرات، وربما مئات، من العمال الذين يواصلون أداء واجباتهم البلدية اليومية من تنظيف الشوارع، ورفع النفايات، وصيانة البنى الخدمية، دون أن يتسلموا مستحقاتهم الشهرية التي يعتمدون عليها في تأمين أساسيات الحياة.
يؤكد هؤلاء العمال أنهم لم يتلقوا رواتبهم منذ أكثر من شهرين، الأمر الذي دفع العديد منهم إلى التوقف عن العمل مضطرين، أو التقليل من عدد ساعات العمل اليومية، وسط ضغوط متصاعدة من العوائل والمحيط الاجتماعي، إذ لم يعد بالإمكان توفير الطعام أو شراء الأدوية أو دفع الإيجار، ما دفع بعضهم للاستدانة أو حتى بيع ممتلكاتهم الشخصية.
بلدية الرمادي: التأخير خارج عن إرادتنا
من جهتها، أصدرت بلدية الرمادي بيانًا توضيحيًا قبل أيام، بشأن أسباب تأخر صرف الرواتب، أشارت فيه إلى أن المسألة تتعلق بإجراءات فنية وإدارية خارجة عن إرادة الدائرة، وتحديدًا تلك المرتبطة بإصدار أو تجديد بطاقات "الماستر كارد"، والتي يُصرف عبرها الأجر الشهري للموظفين والعمال.
وزعمت البلدية أن الجهود مستمرة لمعالجة الإشكال الفني والإداري، بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، على أمل صرف المستحقات المالية في أقرب وقت ممكن.
لكن هذا التوضيح لم يخفف من حالة الاحتقان والغضب لدى العمال الذين يعتبرون أن تكرار هذه الأزمة بات عادة موسمية، وأن "الماستر كارد" بات شماعة تعلق عليها الإدارات البلدية فشلها في التخطيط المالي والإداري.
الشارع يختنق.. النفايات تتحول إلى أزمة صحية
على الأرض، تتحدث المشاهد عن نفسها، ففي أحياء عدة وسط الرمادي، مثل التأميم والجزائر والملعب، يمكن رصد أكوام القمامة وهي تتراكم على الأرصفة وفي الساحات العامة. وفي مدينة هيت، تحولت حاويات النفايات إلى بؤر تعج بالحشرات وتفوح منها روائح كريهة، لا سيما في ظل موجة الحر التي تجتاح المحافظة، وتُسرّع من تحلل النفايات وانتشار الأمراض.
يقول المواطن علي أحمد، وهو من سكان حي البكر وسط الرمادي: "لم نعد نحتمل هذا الوضع، الرائحة تزكم الأنوف منذ الصباح، وأطفالنا يعانون من التحسس. كيف يمكن لمحافظة مثل الأنبار أن تكون بهذا المستوى من الإهمال؟".
وفي مدينة البغدادي، أفادت تقارير محلية بوجود شكاوى واسعة النطاق من المواطنين بسبب ما وصفوه بـ"الغياب شبه الكامل" للفرق الخدمية، ما انعكس سلبًا على الصحة العامة وجمالية المدينة، وولّد موجة من الانتقادات ضد المسؤولين المحليين، وصلت إلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث عبّر العديد من السكان عن سخطهم حيال ما وصفوه بـ"اللامبالاة" و"انعدام الرقابة".
عمال بلا صوت.. ونقابات غائبة
في خضم هذه الأزمة، تغيب أصوات النقابات المهنية المعنية بالدفاع عن حقوق هذه الشريحة، وهو ما يزيد من حالة التهميش التي يعانيها عمال الأجور اليومية في الأنبار. إذ لا توجد جهة واضحة تمثلهم أمام الحكومة المحلية أو المركزية، ما يجعلهم في مهب الريح كلما وقعت أزمة أو خلل إداري.
ويعزو بعض المتابعين هذا الغياب إلى ضعف البنى النقابية والهياكل التمثيلية في القطاع البلدي، إضافة إلى ضعف الثقافة القانونية لدى العمال أنفسهم، حيث لا يدرك الكثيرون منهم ما هي حقوقهم الحقيقية أو كيف يطالبون بها ضمن الأطر القانونية.
خبراء يحذرون: الإهمال الإداري خطر مزدوج
يرى المختص في الشأن الخدمي، المهندس عمر الجميلي، أن تأخر صرف رواتب عمال النظافة لا يمثل فقط انتهاكًا لحقوق إنسانية أساسية، بل يشكل خطرًا بيئيًا مباشرًا على المدن.
ويقول الجميلي: "ما يجري في الأنبار خطير، لأنه يضرب نسيج المدينة من زاويتين: أولاً بتقويض الخدمات الأساسية، وثانياً بتجويع شريحة مهمة تعتمد عليها المنظومة الخدمية بأكملها".
ويضيف، أن الجهات المعنية يجب أن تُفعّل خططاً بديلة لضمان عدم توقف خدمات النظافة، من خلال تعزيز الرقابة، وتوفير السلف الطارئة، أو تسريع الإجراءات التقنية الخاصة بالدفع الإلكتروني، مؤكداً أن "العذر المتكرر ببطاقات الماستر كارد لا يمكن أن يكون مقبولاً في إدارة مدن بهذا الحجم".
دعوات للتحقيق والمحاسبة
على وقع الغضب الشعبي المتصاعد، بدأت بعض الأصوات البرلمانية والمحلية تُطالب بفتح تحقيق حول أسباب هذا التأخير المزمن.
إذ دعا عدد من أعضاء مجلس محافظة الأنبار إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق لمتابعة أسباب الأزمة ومحاسبة المقصرين، مشددين على أن عمال النظافة هم العمود الفقري لأي مشروع خدمي، ولا يجوز تركهم فريسة للجوع أو الاستغلال.
وطالب هؤلاء، وزارة الإعمار والإسكان، بالتدخل العاجل لتسوية ملف الرواتب المتأخرة، وفتح قنوات مباشرة مع المصارف المعنية لحل الإشكالات الفنية، لافتاً إلى أن "المجالس المحلية باتت عاجزة عن احتواء الأزمة".
في النهاية، تتجلى أزمة عمال الأجور اليومية في الأنبار كصورة مكثفة من أزمات أوسع تعانيها المحافظات العراقية، حيث يتقاطع الإهمال الإداري مع غياب الضمانات الاجتماعية، وينعكس ذلك مباشرة على نوعية الخدمات المقدمة للمواطن. ورغم كل المناشدات، ما زال العمال يعملون بصمت، متشبثين بالأمل، فيما تتراكم النفايات وتتعالى صرخات الشوارع، بانتظار مَن يسمع.