الشوارع مرآة المجتمع.. اختلال العلاقة بين المواطن والفضاء المشترك يشوه وجه بغداد بملايين الإعلانات العشوائية

انفوبلس..
في قلب العاصمة بغداد، تتفاقم أزمة التلوث البصري مع انتشار الإعلانات العشوائية على الجدران وأعمدة الشوارع، وسط غياب التنظيم وضعف الرقابة البلدية. مشهد يومي يعكس فوضى حضرية متراكمة، ويهدد الهوية المعمارية للمدينة، ويؤثر سلباً في الصحة النفسية ونمط الحياة لسكانها.
في مشهد يتكرر يوميًا في شوارع بغداد، تتراكم الإعلانات الورقية على الجدران والأعمدة وأكشاك الكهرباء، بلا نظام ولا رقابة، حتى باتت ملامح المدينة تختفي خلف فوضى بصرية متفاقمة. إعلانات ملونة، مطبوعة أو مكتوبة بخط اليد، تروّج لدروس خصوصية، وخدمات إلكترونية، وأخرى لمكاتب سفر وهجرة، وقروض مالية، وأحيانا لأمور غير قانونية، تنتشر بطريقة عشوائية، تُلصق فوق بعضها وتُترك حتى تتحلل أو تُنتزع بالقوة.
الجدران التي من المفترض أن تعكس هوية المدينة وتاريخها الحضري، تحوّلت إلى منصات غير شرعية للإعلان، تُشوّه المشهد العام وتُفاقم من التدهور البصري، في ظل غياب واضح للتنظيم البلدي، وضعف تطبيق القوانين المتعلقة بالإعلانات العامة.
ورغم وجود تعليمات رسمية تنظّم هذا النوع من الأنشطة، إلا أن الجهات الرقابية تعاني من نقص في الموارد، وغياب التنسيق بين الدوائر المعنية، ما فتح الباب أمام ظاهرة الإعلانات العشوائية لتنتشر على نطاق واسع، وتصبح جزءًا من المشهد اليومي الذي اعتاد عليه الناس.
على أحد الأرصفة المزدحمة في بغداد، يقف "أبو حسين"، صاحب دكان صغير لبيع العصائر الطازجة، يتأمل جدار متجره بامتعاض واضح. كان الجدار نظيفًا ذات يوم، لكنه اليوم بات مغطى بطبقات متراكمة من الإعلانات الورقية، التي تُلصق بشكل عشوائي من دون إذن أو اعتبار للمكان.
ورقة صفراء باهتة تعلن عن "خصم 50% لتصليح الثلاجات"، تتدلى نصفها ممزقة، فيما إعلان آخر مكتوب بخط اليد يروّج لـ"شاي أعشاب للتنحيف" يحتل وسط الجدار. يقول أبو حسين وهو يهز رأسه: "هذا الجدار كان نظيفًا… الآن أصبح لوحة مشوهة للملصقات، وكل يوم تظهر إعلانات جديدة".
فجأة تمر شاحنة تابعة للبلدية، ويترجل منها عاملان مزودان بأدوات قشط، يبدآن بإزالة بعض الإعلانات القديمة. إلا أن العملية لا تخلو من فوضى، فقصاصات الورق الممزق تتطاير في الهواء، وتتساقط على الرصيف، مضيفة مشهدًا آخر من التلوث البصري.
من بين المارة، يعلق مصطفى عبد الله بسخرية: "ينظفون اليوم، وغدًا تعود الإعلانات أكثر من قبل… كأنها لا تنتهي".
تعكس هذه الصورة اليومية صراعًا مستمرًا في شوارع بغداد، بين الحاجة الملحة لدى البعض للترويج لخدماتهم في ظل غياب منصات بديلة، وبين الرغبة العامة في الحفاظ على مظهر حضاري للعاصمة. وبين هذا وذاك، تحاول بغداد، بكل تناقضاتها، أن تتنفس وسط زحام بصري يزداد اتساعًا يومًا بعد آخر.
يرى المهندس المعماري أحمد سعد العبادي أن العاصمة بغداد تمرّ اليوم بمرحلة خطيرة من التدهور البصري والعمراني، أثرت بشكل مباشر على ملامحها الحضرية وأفقدتها هويتها المعمارية المميزة.
ويقول العبادي: "التشوهات البصرية أصبحت عنصرًا دخيلاً يشوّه النسيج الحضري للمدينة، ويؤثر سلبًا في المشهد العام. نرى ذلك واضحًا في حجم التجاوزات، وعدم وجود وحدة تنظيمية في واجهات المباني والشوارع الرئيسة، وهو ما جعل بغداد تفتقد لطابعها المعماري الخاص والعريق".
وأشار إلى أن الإعلانات العشوائية تُعد من أبرز مظاهر هذا التلوث البصري، قائلًا: "من الصعب اليوم أن تجد مساحة فارغة لا تحتلها إعلانات مختلفة الأشكال والأحجام، تُثبت بطريقة غير مدروسة، وغالبًا في مواقع خاطئة، مثل أمام المعالم المعمارية أو الأماكن السياحية، ناهيك عن تساؤلات تتعلق بسلامة هذه الإعلانات على ارتفاعات شاهقة وأحجام مبالغ فيها".
ويؤكد العبادي أن الحلول متوفرة، لكنها تتطلب إرادة حقيقية وتعاونًا بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني، مشددًا على ضرورة "وضع قوانين صارمة وغرامات واضحة للمخالفين، وتنظيم حملات توعية تُشرك المواطن في تحمّل جزء من المسؤولية تجاه مدينته".
ويختتم العبادي حديثه بالتأكيد على أهمية توحيد العناصر المعمارية في المدينة، وإلزام أصحاب البنايات والمحال التجارية بالمعايير التصميمية، مع إعادة رسم الهوية البصرية للعاصمة بما يتناسب مع إرثها وتاريخها.
ويقول: "نحن نعيش داخل هذه التشوهات التي لا تُشعر بالراحة، بل تؤثر في الصحة النفسية والجسدية من خلال زيادة التلوث، وارتفاع درجات الحرارة الناتج عن فوضى التخطيط والمساحات المغلقة والمزدحمة بالإعلانات واللافتات".
وفي هذا السياق، يؤكد حسن كريم، وهو عضو في إحدى المبادرات البيئية، أن التلوث البصري في بغداد لا يقتصر على الإعلانات العشوائية فحسب، بل يشمل أيضًا لافتات غير مناسبة، ونفايات متناثرة تشوّه المشهد العام وتسيء إلى الوجه الحضاري للعاصمة.
وقال كريم: "نحتاج إلى جهد جماعي يشارك فيه المواطن، إلى جانب مؤسسات الدولة، من أجل إعادة الاعتبار لشوارع بغداد. التوعية المجتمعية ضرورية، كما أن تنظيم حملات تنظيف دورية يمكن أن يحدث فرقًا ملموسًا في تحسين المظهر العام".
وأشار إلى أن من أهم الخطوات لمعالجة هذه الظاهرة، تخصيص مناطق محددة للإعلانات التجارية، بشكل يخفف من الفوضى البصرية، إضافة إلى سنّ قوانين واضحة تنظم مواقع وحجم اللوحات الإعلانية، ومنع وضع الإعلانات في الأماكن التي تعيق الرؤية أو تؤثر في جمالية الشارع.
وشدد على ضرورة فرض غرامات حقيقية على المخالفين، لضمان احترام المعايير البصرية وحماية الفضاء الحضري، مشيرًا إلى أن "القضية ليست جمالية فقط، بل تتعلق بجودة الحياة والراحة النفسية لسكان المدينة".
يُسلّط الناشط البيئي أنس الطائي الضوء على جانب مهم وغير ظاهر غالبًا من تداعيات التكدس العشوائي للافتات والإعلانات في شوارع بغداد، خصوصًا في المناطق التجارية المكتظة.
وقال الطائي: "تُعد ظاهرة كثرة اللافتات والإعلانات العشوائية من الناحية الجمالية سلبية للغاية، إذ تسهم في تشويه المنظر العام للمدن. ولكن هناك أيضًا تأثيرات نفسية وسلوكية تؤكدها دراسات علمية، حيث إن الفوضى البصرية الناتجة عن هذه الظاهرة تؤدي إلى سلوك عدائي وزيادة النزعة العصبية بين السكان، نتيجة لغياب التنسيق والتنظيم في الفضاء الحضري، وهو ما يؤثر بشكل مباشر في النسيج الاجتماعي".
وأكد الطائي ضرورة تدخل الحكومة بشكل فعّال لتنظيم واجهات المباني وتوحيد النمط العام للشوارع، مضيفًا: "هذا النهج معمول به في العديد من المدن العالمية ذات الكثافة السكانية والحركة التجارية العالية، حيث تُوضع خطط واضحة تشمل معايير لاختيار الإعلانات، كأن تكون الألوان موحدة، والنماذج متناسقة، إلى جانب تنظيم خطوط الشوارع والإضاءة".
واختتم حديثه بالقول: "الوضع الحالي في بغداد يفتقر إلى التخطيط السليم، ما جعل الشوارع تغص بالإعلانات غير المنظمة، وكل محل يعرض إعلانه الخاص بشكل عشوائي، وهذا يتنافى مع أسس التخطيط الحضري الصحي ويضر بجمالية المدينة وراحتها".
في إطار جهودها المتواصلة للحد من التشوهات البصرية في العاصمة، تنفذ أمانة بغداد حملات شبه يومية على مستوى القواطع البلدية، عبر شعبة الذوق العام الموجودة في جميع الدوائر البلدية.
وقال المتحدث باسم الأمانة، عدي الجنديل: "تشمل هذه الحملات جولات يومية لإزالة الإعلانات غير المستحبة والمخالفة للأصول، بهدف توحيد شكلها وتقليل التشوهات البصرية داخل المدينة".
وأكد الجنديل، إن هناك خطة واضحة يتم تنفيذها بتوجيهات مباشرة من أمين بغداد، تشمل رفع جميع الإعلانات التي تتجاوز المعايير المشرفة على المظهر العام للعاصمة. مضيفًا: "تشمل الإجراءات حملات مستمرة لإزالة التجاوزات، بالإضافة إلى التعامل مع بعض الأرقام الهاتفية التي تُكتب على السيارات بغرض تقديم خدمات أو سحبها، حيث نقوم بإعادة صبغ الجدران لإزالة هذه التشوهات".
وأشار إلى أن الأمانة قامت بتنفيذ تجربة اجتماعية مبتكرة، تضمنت الاتصال بأحد أصحاب هذه الأرقام هاتفيًا، وفتح حوار توعوي معه بهدف زيادة وعي المواطنين بضرورة عدم الكتابة على الجدران أو وضع إعلانات مشوهة داخل المدينة.
في بغداد، لم تعد الجدران مجرد عناصر إنشائية تحدد معالم الأبنية وتفصل بينها، بل تحولت إلى لوحات مكتظة بإعلانات متنافرة الألوان والغايات، بعضها يعلن عن تصليح أجهزة منزلية، وآخر عن قروض مالية، وثالث يروج لمنتجات "طبية" مشكوك بأمانها. هذا التداخل غير المنظم بين المصلحة الفردية والفراغات العامة، يعكس جانبًا عميقًا من أزمة المدينة: اختلال العلاقة بين المواطن والفضاء المشترك.
ما يبدو في ظاهره فعلًا بسيطًا – لصق إعلان على جدار – هو في حقيقته تمثيل حي لتراكم الإهمال، وتراجع الشعور بالانتماء، وانهيار منظومة الذوق العام. ليس صدفة أن الإعلانات تلصق على الجدران دون إذن، بل هو مؤشر اجتماعي على تآكل مفهوم "الملكية العامة"، حيث لم يعد الفضاء المشترك ملكًا للجميع، بل مساحة متروكة لمن يسبق إلى احتلالها.
حين يعلق أحدهم رقم هاتفه على صندوق كهرباء، أو يلصق منشورًا ورقيًا فوق جدارية فنية أو واجهة متجر، فإن هذا السلوك لا ينبع فقط من غياب القوانين أو ضعف متابعتها، بل من افتقار للوعي بقيمة المكان. إنها "فوضى منظمة" تعكس احتياجًا اقتصاديًا من جهة، وتقصيرًا حكوميًا ومجتمعيًا من جهة أخرى.
في علم الاجتماع الحضري، يُنظر إلى المشهد العام للمدن باعتباره انعكاسًا مباشرًا للبنية الاجتماعية والثقافية لسكانها. وشوارع بغداد اليوم تبدو كأنها تعاني من أزمة هوية؛ ازدحام بصري، غياب في التنسيق، وتراجع في الجماليات. هذه المظاهر ليست عَرَضًا عابرًا، بل هي نتاج تراكمي لمشكلات أعمق: انشغال الدولة بمعارك السياسة على حساب تفاصيل الحياة اليومية، وتراجع الإحساس الجمعي بمسؤولية الحفاظ على المدن.
اللافتات والإعلانات لا تغزو الجدران فحسب، بل تغزو وعي الناس، فتفرض فوضى على البصر، وتربك الإحساس بالراحة والانتماء.
تقول الدراسات إن الفوضى البصرية في المدن الكبرى تسهم في ارتفاع مستويات التوتر والقلق، وتؤثر في سلوك السكان، حتى في طريقة تفاعلهم مع بعضهم البعض.
الواقع أن الكثير من مُلصقي الإعلانات هم أشخاص يبحثون عن رزقهم اليومي، أو أصحاب مشاريع صغيرة لا يملكون ميزانيات للإعلانات الرسمية. ومن هنا تبرز المفارقة: كيف نوازن بين حق الأفراد في الترويج لأعمالهم، وحق المجتمع في بيئة حضرية نظيفة ومنظمة؟
الحل لا يكمن فقط في فرض الغرامات، بل في خلق بدائل حضارية: لوحات مخصصة للإعلانات المجانية في كل حي، منصات إلكترونية بإشراف البلديات، حملات توعية تشجع السكان على احترام الجدران بوصفها جزءًا من "البيت الكبير" الذي نسكنه جميعًا.
حين يشتكي "أبو حسين"، بائع العصائر، من تشوه جدار متجره، فإنه لا يتحدث عن جماليات مجردة، بل عن مشهد يومي يشعره بالعجز. الجدران التي كانت بالأمس تحكي قصص المكان، تحولت اليوم إلى مساحة مشوهة، تتراكم فوقها إعلانات ممزقة، تعلن عن خصومات وتخفيضات وهمية، وتُنسى بعد أن تتحلل بفعل الشمس والمطر.
والمفارقة أن محاولات التنظيف، وإن كانت مستمرة، غالبًا ما تأتي متأخرة أو غير منهجية. شاحنة البلدية تمر، تزيل بعض الأوراق، ثم تعود الفوضى في اليوم التالي، لتُعيد تشكيل المشهد ذاته. وكأن المدينة تدور في دائرة مغلقة من الإهمال والتنظيف المؤقت، بلا حلول جذرية.
الخبراء يؤكدون أن حل هذه الإشكالية يتطلب تغييرًا في نمط التفكير، لا في آلية التنظيف فقط. يجب أن نُعيد تعريف علاقة الناس بالمدينة، وأن نعلّم الأطفال احترام الجدران كما نعلّمهم احترام الآخرين. وأن يشعر كل مواطن بأن لصق إعلان عشوائي، يشبه الكتابة على جدار منزله الخاص.
وفي الوقت ذاته، على السلطات أن تكون أكثر جدية في تنظيم الفضاء العام، لا عبر فرض القوانين فقط، بل من خلال إشراك المجتمع المحلي، وتشجيع المبادرات الشبابية والفنية التي تُعيد الحياة إلى الجدران عبر جداريات ثقافية، ومساحات حرة للتعبير، تُعيد للمدينة وجهها الإنساني.
الإعلانات العشوائية في بغداد ليست مجرد فوضى ورقية، بل انعكاس لأزمة متعددة الأوجه: إدارية، ثقافية، اقتصادية، ونفسية. إنها قصة مدينة تبحث عن ذاتها بين جدران تُهمل وتُستباح، وشوارع تختنق بما لا يُرى بقدر ما يُلصق.
بغداد، التي ألهمت الشعراء والمهندسين يومًا، تستحق أن تُنقذ من هذا الزحام البصري. فإعادة الاعتبار لملامحها، ليست ترفًا عمرانيًا، بل خطوة في طريق إعادة الروح إلى مدننا، ومصالحة الإنسان مع المكان.