تصاعد الدعوات لاستحداث محافظات جديدة في العراق بين آمال التنمية ومخاوف التقسيم

أقضية تطالب بالاستقلال الإداري
انفوبلس/..
شهدت الأيام الأخيرة تصاعدًا في الدعوات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لاستحداث محافظات جديدة في العراق، ما أثار جدلًا واسعًا بين مؤيدين يرون في الخطوة تعزيزًا للتنمية الإدارية والخدمية، وبين معارضين يحذرون من أبعاد سياسية وتقسيمات إدارية قد تزيد من تعقيد المشهد العراقي.
وتركزت أبرز الدعوات حول تحويل أقضية في محافظات معينة، إلى محافظة جديدة، وكذلك المطالبة بترقية قضاءي "تلعفر" و"سنجار" في نينوى إلى محافظة مستقلة لكل منهما، كما دعت أطراف سياسية في البصرة، الى تحويل قضاء الزبير الى محافظة، وحتى الآن، تبقى هذه المطالبات في إطار الرغبة السياسية والشعبية، دون أن تقترن بخطوات تشريعية أو تنفيذية رسمية.
سياق تاريخي لتحولات الخريطة الإدارية
المتابع لتاريخ العراق الإداري يلحظ أن فكرة استحداث وحدات إدارية ليست جديدة، ففي العصور الإسلامية الأولى، قُسم العراق إلى ولايتي البصرة والكوفة، وفي العهد العباسي أصبحت بغداد (الزوراء) عاصمة الخلافة الإسلامية.
وفي العهد العثماني، كان العراق يتألف من ثلاث ولايات رئيسية: الموصل وبغداد والبصرة، وتمتعت هذه الولايات بنوع من الاستقلال المالي والإداري رغم تبعيتها للسلطنة العثمانية.
أما بعد الاحتلال البريطاني ونشوء الدولة العراقية الحديثة، فقد شهد العراق ثورة إدارية كبرى عبر إنشاء أربعة عشر لواءً، منها السليمانية وأربيل وكركوك والموصل، وكان الهدف من ذلك تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي، عبر تعزيز الإدارة المحلية وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية للمواطنين.
وجهتا نظر: التنمية أم التقسيم؟
يرى المؤيدون لفكرة استحداث محافظات جديدة أن استحداث محافظات جديدة يُعد حقًا دستوريًا وطبيعيًا، ويعزز من حضور الدولة في جميع مناطقه
المؤيدون لفكرة استحداث محافظات جديدة يعتبرون أن هذه الخطوة ستساهم في تعزيز التنمية الإدارية وتقديم الخدمات بشكل أكثر قربًا وفاعلية للمواطنين، لا سيما في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية أو المناطق التي تعاني من تهميش تاريخي.
ويرى المؤيدون لفكرة استحداث محافظات جديدة أن استحداث محافظات جديدة يُعد حقًا دستوريًا وطبيعيًا، ويعزز من حضور الدولة في جميع مناطقها، بما يحقق مبادئ العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
في المقابل، يرى المعارضون أن فتح باب استحداث محافظات جديدة دون دراسة معمقة قد يؤدي إلى تفتيت الخريطة الإدارية للعراق، ويخلق أزمات إضافية مرتبطة بالموارد المالية والإدارية.
كما يُحذر بعضهم من أن هذه المطالب قد تُوظف سياسيًا لتعزيز نفوذ قوى معينة أو لترسيخ واقع التقسيم الطائفي والقومي.
تحديات مقبلة
من جهة أخرى، يشير خبراء إلى أن استحداث محافظات جديدة يجب أن يتم وفق معايير واضحة تراعى فيها الكثافة السكانية، والموارد الاقتصادية، والجاهزية الإدارية، وليس فقط عبر استجابة لضغوط سياسية أو مطالبات شعبية.
ومع استمرار الجدل حول الموضوع، تبقى الكرة في ملعب الحكومة والبرلمان العراقي، اللذين تقع عليهما مسؤولية دراسة هذه المطالب بجدية وتقييم مدى انسجامها مع مصلحة البلاد العليا، وفق رؤية علمية وإدارية متكاملة.
قانون "استحداث محافظات"
ويستعد مجلس النواب العراقي لطرح مجموعة من مشروعات القوانين المثيرة للجدل خلال جلساته المقبلة، يأتي في مقدمتها مشروع قانون "استحداث محافظات جديدة"، وسط حالة من الترقب بين الأوساط السياسية والشعبية على حد سواء.
وتتزامن هذه التطورات مع اقتراب وصول جداول الموازنة العامة للدولة، ما ينبئ بتصاعد الخلافات بين الكتل السياسية مع اقتراب موعد التصويت.
ويتهم عدد من النواب والمراقبين أطرافًا سياسية بالسعي لاستغلال مشاريع القوانين الكبرى، ومنها مشروع استحداث المحافظات، لتحقيق مكاسب حزبية وانتخابية، بدلًا من التركيز على المصالح الوطنية. وتواجه هذه المحاولات انتقادات واسعة، لاسيما أن بعض المشاريع تستهدف إعادة ترسيم الحدود الإدارية بطريقة قد تُفسر بأنها خدمة لأجندات سياسية معينة.
طلبات عديدة
وقد تقدمت العديد من المناطق العراقية بطلبات رسمية لتحويل أقضيتها إلى محافظات مستقلة، وتشير مصادر برلمانية إلى أن الاستحقاقات الإدارية والديموغرافية لبعض المناطق أصبحت مكتملة إلى حد كبير، مما يجعل قبول طلباتها ممكنًا من الناحية القانونية.
غير أن العقبات الأساسية لا تزال قائمة، خصوصًا في ما يتعلق بالحصول على موافقات وزارة التخطيط والحكومات المحلية في المحافظات الأم، التي غالبًا ما تتحفظ على اقتطاع أجزاء من حدودها الجغرافية.
ومن بين المناطق التي شهدت تصاعدًا في المطالبات الشعبية خلال الأشهر الأخيرة، تبرز أقضية مثل تلعفر وطوزخورماتو وسهل نينوى والفلوجة.
وتفيد تقارير محلية بأن قضاء تلعفر وحده يبلغ عدد سكانه أكثر من 300 ألف نسمة، وهو ما يجعله مؤهلًا للتحويل إلى محافظة بموجب معايير وزارة التخطيط لسنة 2018.
التدخلات السياسية والصفقات المشبوهة
الجدل حول الموضوع لم يقتصر على قاعات البرلمان، بل انتقل بقوة إلى منصات التواصل الاجتماعي، فبينما اعتبر بعض الناشطين أن استحداث المحافظات "حق مشروع لتحقيق العدالة الإدارية"، دعا آخرون إلى ضرورة "تحصين العملية من التدخلات السياسية والصفقات المشبوهة"، مشددين على أن "إعادة ترسيم الحدود الإدارية يجب أن تبنى على أسس تنموية شاملة، لا على حساب وحدة البلاد".
وفي مقابل هذه الآراء المتفائلة، حذّر خبراء اقتصاديون من تداعيات مالية قد تترتب على إنشاء محافظات جديدة في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية.
فبحسب تقرير حديث لصندوق النقد الدولي صدر في نيسان 2025، يتوقع أن يتجاوز العجز في الموازنة العامة للعراق نسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يضع تحديات إضافية أمام قدرة الحكومة على تمويل إنشاء هياكل إدارية جديدة.
تحذير من الخطوات المتسرعة
مراقبون سياسيون شددوا بدورهم على أن نجاح أي مشروع لاستحداث محافظات جديدة مرهون بوضع خطط مدروسة، تشمل إعداد دراسات جدوى اقتصادية واجتماعية، وضمان توافر بنى تحتية قادرة على تلبية احتياجات المواطنين.
وحذر هؤلاء من أن أية خطوة متسرعة في هذا المجال قد تتحول إلى عبء إضافي على الدولة بدلًا من أن تكون مدخلًا لتحقيق التنمية والاستقرار.
وفي ظل هذه الأجواء، يواصل الشارع العراقي متابعة تطورات هذا الملف بحذر شديد، متأرجحًا بين الأمل في تحسين أوضاع المناطق المهمشة، والخوف من تفكك المنظومة الإدارية إذا ما تمت العملية دون رؤية استراتيجية واضحة وتوافق وطني شامل.
تحركات نيابية وتحفظات رسمية
يتواصل الجدل داخل أروقة البرلمان حول جدوى هذه مشاريع انشاء المحافظات، ومدى توافقها مع الواقع المالي والإداري الراهن للبلاد، في ظل ضغوط متزايدة لإعادة تنظيم الهيكل الإداري وتحسين مستوى الخدمات
ويواصل مجلس النواب مناقشة عدد من المشاريع المهمة، من بينها مقترحات متعلقة بتحويل بعض الأقضية إلى محافظات مستقلة، وسط توقعات بأن تؤثر الخلافات السياسية على فرص تمرير هذه القوانين.
وأكد عضو اللجنة القانونية النيابية، رائد المالكي، أن بعض الكتل السياسية قد تسعى لاستغلال مناقشات البرلمان لتحقيق مكاسب خاصة عبر المساومة على بعض المشاريع، مشيراً إلى أن تحويل المناطق إلى محافظات، رغم وجود تحركات بهذا الاتجاه، لا يزال يفتقر إلى نية فعلية للمضي قدماً به.
من جهته، أوضح نائب رئيس لجنة الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، جواد اليساري، أن اللجنة تسلمت عدة طلبات رسمية من مناطق تطالب بالتحول إلى محافظات جديدة، على غرار ما حدث مع حلبجة، التي استوفت جميع الشروط الإدارية والديموغرافية المطلوبة.
وبيّن اليساري أن هذه الطلبات تواجه عراقيل تتعلق بضرورة الحصول على موافقات وزارة التخطيط والمحافظات الأصلية، مما قد يؤدي إلى تأخير حسمها.
في هذا السياق، يتواصل الجدل داخل أروقة البرلمان حول جدوى هذه المشاريع، ومدى توافقها مع الواقع المالي والإداري الراهن للبلاد، في ظل ضغوط متزايدة لإعادة تنظيم الهيكل الإداري وتحسين مستوى الخدمات في المناطق التي تعاني من ضعف في التمثيل المحلي.
التصويت على استحداث محافظة "حلبجة"
وفي خطوة وُصفت بالمهمة، صوّت مجلس النواب العراقي، يوم الاثنين، على استحداث محافظة حلبجة، لتصبح المحافظة التاسعة عشرة في البلاد.
وجاء التصويت بأغلبية الحضور، في جلسة شهدت حضورًا لافتًا من النواب الداعمين لهذا المقترح، وسط ترحيب واسع من عدد من القوى السياسية.
وخلال مؤتمر صحفي عُقد داخل مبنى البرلمان عقب التصويت، جرى التأكيد على أن استحداث محافظة حلبجة يُعد إنصافًا لتاريخ هذه المنطقة وما عانته من مآسي، خصوصًا مع استخدام الأسلحة المحرمة ضد سكانها خلال حقبة النظام السابق.
في المقابل، أشار بعض النواب إلى أن بعض الكتل السياسية لم تحضر جلسة التصويت، ما عكس استمرار وجود تباين في المواقف تجاه قضايا إعادة رسم الحدود الإدارية.