ذوو الإعاقة في العراق.. مناسبة عالمية تتكرر وواقع مرير لا يتغيّر
انفوبلس/ تقارير
كل عام يمرّ اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة في العراق محاطًا بالشعارات والأنشطة الاحتفالية والممارسات البروتوكولية، فيما يبقى الواقع الحقيقي لهذه الشريحة بعيدًا عن الضوء محاصرًا بتحديات تتراكم منذ سنوات دون حلول جذرية، ورغم ما يُرفع من لافتات تؤكد احترام حقوقهم، إلا أن حياتهم اليومية تكشف فجوة واسعة بين النصوص والتطبيق، وبين الوعود والاحتياجات الفعلية.
مناسبة احتفالية وحقوق غائبة
في المشهد العراقي، يعود الثالث من كانون الأول حاملًا الطابع ذاته: احتفاليات رسمية وتصريحات متكررة، لكن الباحثة الاجتماعية نضال الباوي تلخّص المفارقة بعبارة مكثفة: “هذه المناسبة لا يجب أن تكون بروتوكولًا، بل لحظة صادقة لقياس مدى احترام الدولة والمجتمع لحقوق فئة تمتلك طاقات هائلة لكنها لا تزال خارج دائرة الاهتمام الحقيقي”.
الباوي تشير في حديثها الذي تابعته شبكة انفوبلس، إلى أن التحديات التي تواجه ذوي الإعاقة ليست جديدة، لكنها تتعاظم بفعل الإهمال والسياقات الإدارية والسياسية غير المستقرة.
تبدأ المشكلة – كما تؤكد الباوي– من ضعف التشخيص المبكر للأطفال ذوي الحالات الخاصة، إذ تفتقر الأُسر في أغلب المحافظات إلى مراكز تشخيصية حديثة، أو كوادر مدربة قادرة على اكتشاف الإعاقات في مراحل مبكرة، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الحالات أو تأخر التدخلات العلاجية.
وتتسع دائرة المعاناة مع ندرة المراكز التأهيلية والخدمات الطبية المتخصصة، وهو ما يكشف خللًا في البنية الصحية العامة.
وتوضح الباوي أن العراق ما زال يفتقر إلى شبكة متكاملة من المؤسسات التي تُعنى بالتأهيل الحركي، والعلاج الطبيعي، والدعم النفسي، إضافة إلى البرامج التعليمية المخصصة للأطفال ذوي الاحتياجات المعقدة.
ولا تتوقف المشكلات عند الجانب الصحي، إذ تنتقل إلى قطاعي التعليم والعمل، حيث يعاني آلاف الطلبة من غياب المدارس المهيأة لاستقبالهم، وتفتقر الجامعات إلى بنى تحتية تضمن دمجهم. أما في سوق العمل، ففرص التوظيف محدودة للغاية، وغالبًا ما ينتهي الأمر بذوي الإعاقة في هامش المشهد الاقتصادي.
ورغم الإطار التشريعي الذي يحكم حقوق هذه الشريحة، وعلى رأسه قانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنة 2013، إلا أن الباوي ترى أن “الفجوة بين النص والتطبيق ما تزال كبيرة”، فالقانون يضع مبادئ عامة، لكنه لا يجد طريقه إلى التنفيذ الكافي لغياب الإرادة الحكومية والرؤية طويلة الأمد التي تضع الإنسان في مركز الاهتمام.
وتضيف الباحثة أن العراق يمتلك الإمكانات المالية والبشرية والمعرفية التي تتيح إنشاء منظومة حقيقية لتمكين ذوي الإعاقة، لكن ما ينقص هو ترتيب الأولويات السياسية واستثمار جاد بالإمكانات البشرية.
وتصرّ الباوي على أن ذوي الإعاقة ليسوا عبئًا اجتماعيًا أو اقتصاديًا كما يُصوَّر أحيانًا، بل هم “ركيزة مهمشة” تحتاج فقط إلى بيئة مناسبة، وبنى تحتية مهيأة، ومدارس قادرة على دمجهم، وفرص وظيفية تتيح لهم الكشف عن قدراتهم.
وتختم بالقول: “الدافع لدعمهم ليس إنسانيًا فقط، بل تنمويًا. فلا تنمية شاملة في بلد يترك جزءًا من شعبه خلف الركب”.
قانون عاجز وإعانة لا تكفي أسبوعًا
وفي قراءة أخرى أكثر تفصيلًا لواقع المعاناة اليومية، يقدّم ستار محسن كريم البدري، عضو لجنة متابعة شؤون ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في محافظة ذي قار، سردية تكشف عمق الأزمة.
البدري يوضح في حديث له تابعته شبكة انفوبلس، أن شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة في العراق تشمل طيفًا واسعًا من الفئات: المصابون بالأمراض الخبيثة، أمراض الدم، والثلاسيميا، إضافة إلى المصابين بالشلل الدماغي، والإعاقات الحركية، والمكفوفين، والصم والبكم، وغيرهم ممن تتطلب حالاتهم دعما دائمًا.
ويشير البدري إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في التشريع ذاته، إذ يرى أن قانون حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة “ليس منصفًا” ولا يضمن حياة كريمة لهذه الشريحة، فبدل توفير راتب ثابت يتناسب مع ظروف الإعاقة واحتياجاتها، وضع القانون المستفيدين في إطار “الإعانات المالية المحدودة”.
ويصف البدري مبلغ الإعانة الحالي – 125 ألف دينار فقط – بأنه لا يغطي “حتى جزءًا بسيطًا” من النفقات الضرورية.
ويتساءل بمرارة: “كيف يمكن لمبلغ بهذا الحجم أن يغطي المأكل والملبس والعلاج والمستلزمات الطبية لشخص عاجز أو مصاب بالشلل الرباعي؟”.
ويضيف أن اللجنة تتلقى يوميًا مئات المناشدات من عائلات تعجز عن تغطية كلفة الأدوية والفحوصات الأساسية، فضلًا عن الأجهزة الطبية والمساند الحركية التي قد تصل أسعارها إلى مستويات لا تقوى عليها حتى الأسر المتوسطة الدخل.
صحة منهارة وأسر أمام خيارات قاسية
ويكشف البدري جانبًا أشدّ قسوة يتعلق بالمنظومة الصحية نفسها، إذ يفتقر العراق – بحسب قوله – إلى مراكز طبية حديثة تلائم احتياجات المصابين بالشلل الدماغي، والإعاقات الحركية، أو التوحد.
ويؤكد أن هناك محافظات كاملة لا تضم مركزًا متخصصًا واحدًا يمكنه استقبال الحالات أو التعامل معها ببرامج علاجية مستمرة.
وتسببت هذه الفجوات في دفع الكثير من الأسر إلى اتخاذ قرارات مؤلمة، وصلت لدى البعض إلى بيع منازلهم لتأمين تكاليف العلاج داخل العراق أو خارجه.
ويوضح البدري أن غياب منظومة صحية متخصصة يُثقِل كاهل العائلات ويضعها أمام خيارات قاسية، خاصة حين يتعلق الأمر بالأطفال الذين يحتاجون إلى جلسات علاج متواصلة.
كما يعاني ذوو الإعاقة من ضعف الخدمات التأهيلية والعلاج الطبيعي، وندرة الأطباء المتخصصين، ما يدفع العائلات للاعتماد على علاجات أهلية مرتفعة الكلفة وغير مضمونة النتائج.
ويشير البدري إلى أن بعض هذه العلاجات تسببت في تدهور حالات عدة، لغياب الرقابة أو المعايير المهنية.
ذوو الإعاقة في القانون.. تعريفات حاضرة وتطبيق غائب
وبحسب التعديل الأول لقانون حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم (38) لسنة 2013، فإن “ذو الإعاقة هو الشخص الذي يعاني من عاهات طويلة الأجل سواء كانت بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسية تمنعه من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين”.
كما يُعرّف القانون “ذو الاحتياج الخاص” بأنه الشخص الذي لديه قصور في القيام بدوره ومهامه مقارنة بنظرائه في السن والبيئة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، بما في ذلك القدرة على التعليم أو الرياضة أو التكوين المهني أو العلاقات العائلية. ويُعد قصار القامة ضمن هذه الفئة.
ورغم وضوح هذه التعريفات، إلا أن التطبيق العملي على الأرض يعاني من تعثر واضح، وتفتقر المؤسسات المعنية إلى رؤية شاملة تربط بين الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية ضمن استراتيجية وطنية موحّدة.
في النهاية، تكشف الشهادات الواردة من العاملين في هذا الملف، ومن الباحثين الاجتماعيين، ومن الأسر نفسها، أن العراق ما زال بعيدًا عن توفير بيئة عادلة تضمن لذوي الإعاقة حياة كريمة ومنصفة، فبين الاحتفالات الرسمية والواقع اليومي مساحة واسعة من الإهمال، تحتاج إلى إرادة سياسية، وتخطيط استراتيجي، وتمويل ثابت، ونظام متكامل للرعاية والتأهيل والدمج.
وحتى يتحقق ذلك، سيظل اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة مناسبة تعكس المفارقة العراقية: شعارات كبيرة.. وحقوق مؤجلة.

