شارع السعدون في بغداد بين الماضي والحاضر: قلب المدينة النابض الذي يرفض الاستسلام للزمن

انفوبلس/ تقرير
لا يحتاج شارع السعدون في قلب العاصمة بغداد إلى كثير من التعريف، فهو ليس مجرد طريق يربط أحياء المدينة، بل هو شاهد حي على تاريخها، ومرآة تعكس روح بغداد التي تأبى أن تندثر رغم تبدل الأزمنة وزحام الحياة. كل ما على رواده هو أن يتوقفوا قليلاً وسط صخب العاصمة، ليروا كيف أن هذه الأزقة، التي تشكل الشارع الرئيسي، كانت ولا تزال تحتفظ بروح المدن الأصيلة حتى حين يتغير كل شيء من حولها، ماذا نعرف عن تاريخه؟
شارع السعدون
يمثل شارع السعدون، الممتد من ساحة التحرير وصولاً إلى ساحة الفردوس، شرياناً حيوياً يجمع بين الماضي والحاضر. ففيه تتجاور المباني ذات الطراز المعماري القديم مع المحال التجارية الحديثة، وتتعايش فيه الأنشطة الاقتصادية المتنوعة التي لم تتوقف رغم التحديات.
وبحسب مواطنين تحدثوا لشبكة "انفوبلس"، فإنه في أركانه وشوارعه المتفرعة، يحكي السعدون قصصاً عن مقاهٍ تاريخية كانت ملتقى للمثقفين والفنانين، ودور سينما شهدت عصراً ذهبياً للسينما العراقية والعربية. وعلى الرغم من أن بعض هذه المعالم قد تغير أو اضمحل، إلا أن ذكراها لا تزال حاضرة في أذهان البغداديين، وتضفي على الشارع نكهة خاصة.
وأضافوا، أنه هو أحد تلك الأماكن التي تمشي فيها الذاكرة بهدوء، حاضرة، في الأرصفة، في النوافذ المفتوحة، في أسماء الفنادق والمقاهي والمكتبات التي تقاوم وحدها مرور الزمن.
يقع هذا الشارع في قلب بغداد، في الرصافة، ويمتد من ساحة التحرير حتى ساحة الفردوس، بموازاة نهر دجلة. عرفه العراقيون منذ بداية الدولة العراقية الحديثة.
وبدأ تطوير الشارع في ثلاثينيات القرن الماضي، ويعود تاريخ معظم منازله ومبانيه إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. خلال هذه الفترة، بدأ العمال ذوو الدخل المحدود والأسر ذات الدخل المرتفع بالانتقال إليه. سُمي الشارع تكريمًا لرئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد المحسن السعدون، الذي عُثر عليه ميتًا عام ١٩٢٩ في إحدى ساحاته، ولذلك بُني له تمثال برونزي.
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أصبح السعدون رمزًا للحياة المدنية الراقية، ووجهةً لمرتادي السينما والمكتبات والمقاهي الثقافية. البعض يراه وجهة ثقافية وسياحية، وفريق آخر يعتقد أنه يجسد ذاكرة المدينة، ويعده جزءًا لا يتجزأ من هوية المدينة البَصَرية.
والزحام البشري والمروري الذي يشهده الشارع يومياً، ورغم كونه سِمة من سمات العاصمة، فإنه لا يلغي الإحساس بـ"الروح" التي يتحدث عنها التقرير. فهنا، يلتقي الناس من مختلف الشرائح، وتتعالى أصوات الباعة، وتزدحم الأرصفة بالحياة، مما يمنح السعدون طابعه الفريد كمركز اجتماعي وتجاري لم يتوقف عن النبض.
وثيقة حية لعقود من التحول الاجتماعي والثقافي
الباحث والأكاديمي الدكتور ضياء الراوي، وهو أستاذ التاريخ الحديث في الجامعة العراقية، يعتقد: "أن شارع السعدون لا يمكن فهمه كمجرد طريق أو ممر تجاري، بل كـوثيقة حية لعقود من التحول الاجتماعي والثقافي في المدينة". مبينًا: "يمثل هذا الشارع نموذجًا متكاملاً لنمط الحياة المدنية في بغداد منتصف القرن العشرين، فهو يجمع بين الفن والطبابة والتسوق والقراءة، ما يجعله اليوم معلمًا فريدًا يستحق أن يُدرج ضمن المسارات السياحية والثقافية التي تعرّف الزائرين على هوية بغداد الحقيقية".
ويؤكد الراوي أن الحفاظ على حضور الشارع في الوعي السياحي مهم ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل لكونه "نافذة على ماضٍ مدنيّ غنيّ بالإرث والتنوع والانفتاح".
في سياق متصل، تشير المعمارية والباحثة في التراث البغدادي، بسمة الخطيب، إلى أنه لشارع السعدون قيمة بصرية وعمرانية نادرة، ومن يمرّ بشارع السعدون يلاحظ مباشرةً تدرّج الطراز المعماري فيه، من الفنادق ذات الواجهات الحديثة في الخمسينيات، إلى البنايات السكنية التي تعكس تطور الذوق البغدادي خلال القرن الماضي. هذا التنوع المعماري يُعدّ من العناصر المهمة في سردية بغداد، التي لم تفقد ذوقها حتى في أكثر اللحظات ازدحامًا.
وأوضحت: "أن الشارع لا يزال يحتفظ بإمكانات كبيرة لإحياء الفضاء المدني. وجود المكتبات والمقاهي والفراغات العامة فيه يتيح إمكانية تطويره ليكون وجهة ثقافية ومعمارية، دون المساس بروحه القديمة. وهذا ما يجعل منه نقطة انطلاق ممتازة في أي جولة سياحية ثقافية داخل العاصمة".
ولطالما كان شارع السعدون شاهداً على مراحل مهمة في تاريخ العراق الحديث، ففيه قامت دور سينما عريقة كانت وجهة للترفيه، ومقاهٍ ثقافية احتضنت نخبة الأدباء والفنانين. ورغم أن بعض هذه المعالم قد تغير أو تضاءل تأثيره، إلا أن "روح" السعدون لا تزال قائمة، متجسدة في النشاط المستمر والحياة اليومية التي لا تتوقف.
تقول الدكتورة هناء محسن، الباحثة في علم النفس الثقافي، إن شارع السعدون ليس مجرد مساحة حضرية، بل هو حقل ذاكرة جماعي تشكّل فيه وعي أجيال كاملة من العراقيين. "من يمشي في السعدون لا يمرّ على الأبنية وحسب، بل على ذكريات الطفولة، وصور الأفلام المعلّقة على دور السينما، والمكتبات التي كانت تفتح باب المعرفة أمام العابرين. هو مكان تتكوّن فيه الهوية الثقافية للمدينة".
وتضيف: "ما يميز شارع السعدون هو هذا التشابك بين الفضاء العام والوجدان الفردي. هناك أماكن تُرى، وأخرى تُحسّ، والسعدون ينتمي إلى النوع الثاني. إنه شارع يمشي داخلنا بقدر ما نمشي نحن فيه".
وترى محسن أن إعادة إحياء السعدون اليوم لا تعني ترميم البنايات فقط، بل استعادة الدور الرمزي لهذا المكان بوصفه "بيئة ثقافية حية يمكن أن تستوعب الشباب، وتعيد بناء العلاقة بين الناس والمدينة".
ويعد الباحث في التخطيط السياحي، د. حسين الطائي، شارع السعدون أكثر من طريق مزدحم في قلب بغداد؛ يمكن أن يُعاد تقديمه كـواجهة بغداد الداخلية"، مساحة تُشبه قلب المدينة النابض، لا من جهة الازدحام، بل من جهة الحيوية. "حين يُعاد النظر فيه كمنطقة جذب، لا كمجرى سير، سيصبح هذا الشارع أقرب إلى "رئة سياحية" مفتوحة. يمتلك ما لا تمتلكه المولات الحديثة: ذاكرة، ومشاة، ومفاجآت في الزوايا، وباعة يملكون قصصًا أكثر مما يملكون سلعًا".
ويرى الطائي أن الشارع إذا نُظر إليه كجزء من مشروع "سياحة الحارات" أو "الوجهات الحضرية المفتوحة"، فإنه يصلح لأن يكون ممرًا ثقافيًا حيًا، لا يختص بالسائحين الأجانب فقط، بل بالسكان أنفسهم، ممن يبحثون عن نسخة متجددة من مدينتهم. "كل ما نحتاجه هو أن نُبدّل عدسة النظر: أن نراه كمكانٍ يصلح للجلوس، لا للعبور فقط. كمكان للسرد، لا كامتداد للنسيان. فبعض الشوارع لا تُعبَر، بل تُزار".
والخلاصة، فإن شارع السعدون ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو جزء أصيل من الذاكرة الجماعية لبغداد، رمز لمدينتها التي تحتضن التغيير دون أن تفقد هويتها، وتستمر في استقطاب روادها الذين يبحثون عن عبق التاريخ ودفء الحاضر في آن واحد.
كما أن الزحام الذي يميز الشارع هو جزء لا يتجزأ من هويته، فهو يعكس حيوية المدينة وصخبها، لكنه لا يلغي القدرة على استشعار التاريخ الكامن في كل زاوية. إن السعدون ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو رمز لصمود بغداد وقدرتها على التجدد، والحفاظ على أصالتها وسط التحديات. إنه مكان يذكرك بأن بعض الأماكن، مثل الأرواح العظيمة، ترفض أن تموت، وتستمر في النبض مهما طال الزمن وتغيرت الظروف.