شبكات سرّية ترتدي زيّ الدولة.. ماذا وراء تفاقم ظاهرة انتحال الصفات الرسمية في العراق؟

انفوبلس/ تقرير
لا تتوقف في العراق عمليات اعتقال أشخاص يَقدِمون على انتحال صفات، أبرزها صفات لضباط جيش أو عناصر شرطة أو مستشارين حكوميين أو أطباء أو محامين، وأحياناً موظفين لدى مكاتب مسؤولين حكوميين، ويسلط تقرير شبكة "انفوبلس" الضوء على هذه الظاهرة المنتشرة بكثرة والعقوبات التي وردت بالقانون العراقي.
لم يعد انتحال الصفة في العراق حالة فردية معزولة، بل تحوّل إلى ظاهرة تتّسع رقعتها داخل المجتمع، وسط مخاوف من تأثيرها على ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، بحسب خبراء.
وبين الحين والآخر، تعلن القوات الأمنية العراقية عن اعتقال متهمين بانتحال صفات رسمية، تشمل رتباً عسكرية، ومناصب إدارية وطبية وحكومية، بهدف تنفيذ عمليات نصب واحتيال بحق المواطنين.
ولم تقتصر جريمة انتحال الصفات والوظائف في العراق على أداء دور الرجل فقط، بل شملت المرأة أيضا عبر ممارسة ارتكاب تلك الجريمة، فقد كشفت الأجهزة الأمنية والقضائية في أوقات عديدة متفاوتة، عن قيام نساء عراقيات بارتكاب جرائم انتحال الصفات والوظائف، في مؤسسات الدولة المختلفة ودوائرها.
آخر الاعتقالات
يوم الخميس الماضي، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على شخص انتحل صفة ضابط شرطة برتبة ملازم شرق العاصمة بغداد، بحسب مصدر أمني تحدث لشبكة "انفوبلس". وذكر أن "رجلاً يُدعى (م.ر) دخل إلى مركز شرطة القناة مرتدياً زياً عسكرياً ويحمل رتبة ملازم، مدّعياً أنه منتسب إلى مديرية شؤون أمن الأفراد، وجاء بهدف التدقيق في سجلات المركز وتنفيذ عملية تعداد".
إلا أن الشكوك راودت الضباط المكلفين بالخدمة، وبعد التحقق من هويته وبياناته تبين أنه ليس منتسباً لأي جهة أمنية رسمية، وأنه منتحل لصفة ضابط، بحسب المصدر الذي أكد اعتقال الشخص فوراً، واتخاذ بحقه الإجراءات القانونية اللازمة، حيث جرى إيداعه التوقيف تمهيداً لعرضه على القضاء.
أما في محافظة النجف، نفّذت قوة أمنية عملية ضبط داخل عيادة تجميل، أفضت إلى اعتقال رجل ينتحل صفة طبيب، برفقة امرأة كانت تؤدي دور "مساعدة طبية" دون مؤهلات، وضُبطت بحوزتهما أدوية ومواد طبية.
مسؤول بوزارة الداخلية يؤكد أن "ظاهرة انتحال الشخصية الأمنية ازدهرت خلال السنوات الأخيرة في العراق، وذلك مع كثرة استقطاب وزارتي الداخلية والدفاع للمنتسبين الجدد، وولادة التشكيلات العسكرية الجديدة. ولكن لا يمكن اعتبار الحالات الموجودة في البلاد بأنها ظاهرة غير مسيطر عليها أو كبيرة، بل إنها ظاهرة طبيعية، ونسبتها تتشابه مع ما يحدث في بلدان عربية أخرى". ويشير إلى أن "التحقيقات مع أغلبية المعتقلين بهذه الجريمة، تبيّن أن معظمهم ينتحلون صفة ضابط الأمن الوطني، كونه جهازا يعتمد على الضباط المدنيين، وغايتهم هي ابتزاز المواطنين والتجّار".
كما يقول ضابط في وزارة الداخلية إن "المشكلة لا تنحصر بمنتحلي الصفة، إذ هناك أقرباء لمسؤولين وضباط يمارسون أنشطة غير قانونية مستغلين أحياناً صلة القربى بالمسؤولين، وهذه الحالة نجدها في البرلمان وليس في الحكومة". لافتاً إلى أن خسائر الضحايا مادية. وتسببت عمليات انتحال الصفة بمشاكل أمنية. في هذا الإطار، وجه وزير الداخلية عبد الأمير الشمري جميع أجهزة الشرطة في المحافظات لمتابعة الظاهرة والتعامل معها بجدية أكبر.
ويقول الناشط السياسي العراقي أيوب سامان، إن "جريمة انتحال الشخصية أو الصفة تعد إحدى أخطر الجرائم التي تؤثر على الثقة بين الناس"، لافتاً إلى أنها تزداد على الرغم من إعلان السلطات الأمنية مراراً عن اعتقال هؤلاء. ويوضح "هناك أنواعا كثيرة لمثل هذا الاحتيال، أبرزها انتحال الصفات الأمنية والحكومية للنصب على الراغبين بالتعيينات في مقابل الحصول على مبالغ مالية، وكذلك صفات اجتماعية مثل المصلحين الاجتماعيين ووجهاء العشائر الذين عادة ما يتدخلون بين أسرتين متنازعتين ويحصلون على المال في مقابل حل المشكلة، وسرعان ما يختفون بعد الحصول على المال".
ويضيف سامان، إن "ازدياد هذه الحالات يُشير إلى ضعف القانون والاستخفاف به، بدليل أن مثل هذه الحالات تحدث داخل دوائر ومؤسسات الدولة، مثل المستشفيات ومديريات المرور، ولا مبالغة في القول إن بعض هؤلاء يتواجدون داخل المنطقة الخضراء (الحكومية)، ويمارسون النصب والاحتيال على موظفين ومراجعين"، مشيراً إلى أن "بعض الذين يمارسون انتحال الصفات اختاروا تلك الحساسة مثل مستشارون في رئاسة الحكومة والبرلمان والسلطات القضائية".
ومع توسع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، بات البعض ينتحل صفات مسؤولين أو شخصيات عامة من خلال حسابات مزيفة، يستدرجون عبرها ضحايا بعروض وهمية للتوظيف أو العلاج أو المساعدات وغيرها من الأنشطة.
كما أن تصاعد ظاهرة انتحال الصفات في العراق مثّل تحدياً آخر للأجهزة الأمنية في رصد وتفكيك حالات الانتحال، التي لم تعد تقتصر على أفراد بسطاء، بل بدأت تأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وتشابكاً، تصل في بعض الأحيان إلى داخل مؤسسات الدولة ذاتها. ويحذّر عاملون في المجال الأمني من أن بعض المنتحلين باتوا يتحركون بثقة داخل بيئات حساسة، مستخدمين وثائق مزيفة وعلاقات شخصية، ما يعيق اكتشافهم في وقت مبكر ويمنحهم فرصة التمادي.
إذ يقول ضابط آخر في وزارة الداخلية، إن "العديد من حالات انتحال الصفة التي تم ضبطها خلال الأشهر الأخيرة كانت تجري داخل مؤسسات حساسة"، مشيراً إلى أن "منتحلي الصفات لا يكتفون بانتحال الرتب أو المسميات، بل يقدمون أنفسهم كمستشارين في مكاتب وزارية أو رئاسية، مستغلين ثغرات إدارية وغياب إجراءات التدقيق السريع".
ويبين الضابط، الذي طلب حجب اسمه، أن "بعض هذه الحالات لم تكن فردية، بل جرى التعامل معها كملفات أمنية تتعلق بشبكات صغيرة تعمل على إعداد هويات رسمية مزورة وأختام مطابقة للأصل، وتبيعها لقاء مبالغ مالية، أحياناً تصل إلى آلاف الدولارات". ويلفت إلى أن "التحقيقات أثبتت أن بعض أفراد هذه الشبكات يمتلكون صلات داخل مؤسسات رسمية تساعدهم على تمرير الأوراق أو الدخول إلى بعض المواقع الحساسة دون اعتراض".
بدورها، ترى الناشطة الحقوقية أنوار الخفاجي، أن "ظاهرة انتحال الصفة باتت تهدد الثقة المجتمعية بالقانون ومؤسسات الدولة، خصوصاً في ظل تكرار الحالات داخل بيئات رسمية يُفترض أن تكون محصّنة، مثل المستشفيات ومراكز الشرطة والدوائر الحكومية".
وتضيف الخفاجي أن "السكوت عن بعض هذه الممارسات أو التهاون في معاقبة مرتكبيها يفتح الباب أمام مزيد من الوقائع المشابهة، ويجعل من الجريمة سلوكاً مكرراً قد لا يُنظر إليه بجدية في بعض الأوساط المعنية". وتشير إلى أن "بعض المنتحلين يستغلون ظروف الناس، خصوصاً النساء أو العاطلين عن العمل، عبر تقديم وعود زائفة بالتوظيف أو الوساطة، ما يعرّض الضحايا للابتزاز والاستغلال"، داعية إلى "تفعيل الرقابة داخل المؤسسات الحكومية، وإطلاق حملات توعية تشرح للناس كيفية التحقق من هوية من يدّعي الصفة الرسمية، وتشجّعهم على الإبلاغ دون خوف".
ويخشى مختصون من تحوّل ظاهرة انتحال الصفات في العراق إلى نمط عام يتداخل مع المؤسسات الرسمية ويهز ثقة المواطنين بها، خصوصاً مع تكرار الحوادث داخل دوائر حكومية حساسة مثل المستشفيات ومراكز الشرطة ومديريات المرور. ويؤكد هؤلاء أن تصاعد مثل هذه الحالات لا يشير فقط إلى ممارسات متقنة من قبل المنتحلين، بل يكشف أيضاً وجود بيئة إدارية رخوة تفتقر إلى أدوات تحقق، ما يسمح بمرور منتحلي الصفات دون تدقيق أو مساءلة فورية.
بينما يبين المحامي علي التميمي أن "القانون العراقي يتعامل مع انتحال الصفة على أنها جريمة مركبة، كونها تشمل الاحتيال والانتحال. بالتالي فإن العقوبة مشددة، وتزداد شدة في حالة انتحال الصفات الأمنية"، مؤكداً أن "القانون عاقب بالسجن 10 سنوات على جريمة انتحال الصفات، فيما اعتبر الانتفاع المادي من جراء ذلك ظرفاً مشدداً يجيز لمحكمة الجنايات تشديد العقوبة بالسجن والغرامة".
ويوضح التميمي أن "حالات انتحال الصفة لم تعد موجودة على أرض الواقع فقط، بل باتت مواقع التواصل الاجتماعي مساحة لمنتحلي الصفات"، مشيراً إلى أنه "يتوجب على المشرع العراقي أن يكون أكثر صرامة في التعامل مع هؤلاء، لأنهم يتسببون غالباً بفقدان الثقة بالسلطات والقوات الأمنية، ومن المهم جداً أن يكون العراقيون مساندين للأجهزة الأمنية للإبلاغ عن منتحلي الصفات".
من جهتها، تشير الناشطة المدنية حنين محمد إلى أن "هؤلاء يتاجرون باحتياجات الناس، وقد تعرضت فتيات للابتزاز العلني من قبل البعض، لا سيما حين يكنّ في حاجة إلى التعيين أو التخلص من مشكلة اجتماعية أو أمنية. وحين يرفضن الابتزاز، تمارس عليهن ضغوط". وترى أن "انتحال الصفات سهل جداً في العراق وهذا أمر مؤسف، لأن كثيراً من هؤلاء يستخفون بالمحاسبة القانونية، وخصوصاً أنه أفرج عن البعض بعد فترة قصيرة من سجنهم، كما خرج آخرون بكفالة مادية".