فيديو العثور على ذهب في الرميلة يثير الجدل.. والتحقيقات تكشف الحقيقة

ذهب الرميلة.. حقيقة أم خدعة؟
انفوبلس/..
في الأيام القليلة الماضية تداولت صفحات وحسابات محلية على فيسبوك وإنستغرام مقاطع فيديو يُزعم فيها أن مجموعة من العمال يرتدون بدلات زرقاء قد عثروا على "قطع ذهبي" أثناء عملية ضخ النفط من بئر في حقل الرميلة النفطي بمحافظة البصرة.
وأظهرت اللقطات عمالاً يجمعون صخوراً لامعة، من داخل معدات الحفر ويحتفلون بحماس ظننوا معه أنهم اكتشفوا "كنزاً دفيناً" يضاف إلى ثروات الحقل العملاق، بيد أن سرعان ما انتشرت أسئلة بين رواد التواصل الاجتماعي عن مدى صحة تلك الادعاءات، وما إذا كانت هذه المشاهد تمثل حدثاً استثنائياً فعلاً أم أنكراً علمياً روتينياً يطال بقايا الشوائب المعدنية المصاحبة لصخور الطبقات الأرضية.
تعود جذور تلك المقاطع إلى ما قبل 22 أبريل/نيسان 2025، عندما نشرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو تحت عنوان “اكتشاف ذهب في حقل الرميلة أثناء استخراج النفط"، ومع أن الحقل يُشغِّله تحالف حكومي مع شركتي "بي بي" البريطانية و"سي إن بي سي" الصينية، لم يصدر أي بيان رسمي يؤكد أو ينفي تلك المزاعم بشكل قاطع، مكتفياً بالتأكيد على التزام معايير السلامة والجودة في العمليات الهندسية والحفر العميق.
وأشار خبراء جيولوجيون وحفّارون عاملون في جنوب العراق إلى أن ما يظهر في الفيديوهات عادةً "فتات صخريّ يحتوي على معادن كبريتيدية" تعرف باسم Pyrite، وهو شائع الظهور ضمن رواسب الطبقات الرسوبية المصاحبة للنفط.
هذا النوع من الرواسب يتخذ لوناً معدنياً براقاً يخدع الشبكية، لكن دراساته الجيولوجية تؤكد خلوه من الذهب الخالص وأهميته الاقتصادية تكاد تكون معدومة في هذا السياق، من هنا، تبدو الفيديوهات أقرب إلى ترويج |مفاجأة وهمية| تستغل الغموض الفني للمشاهد العادية في فهم طبيعة المواد المستخرجة من أعماق الأرض.
المادة ليست ذهباً
تصوير الفيديو المذكور عبر "هاتف محمول أدخله أحد العمال خلسة إلى الموقع"، مما يشكل خرقًا واضحًا للبروتوكولات المتبعة، وسيخضع للمساءلة ضمن تحقيق داخلي
وجاءت نتائج التحري والتقصي، لتكشف الكثير من الملابسات المحيطة بالفيديو المنتشر، وتضع الأمور في نصابها العلمي والمهني، فبعد التواصل مع مسؤولين ميدانيين في الحقل، ومختصين في مجال الجيولوجيا وهندسة التعدين، تبين أن المادة التي ظهرت في المقطع المتداول ليست ذهباً بأي حال من الأحوال، بل تعود إما لمخلفات عمليات الحفر أو إلى معدن معروف بصفاته البصرية المشابهة للذهب.
مصادر عاملة في حقل الرميلة أكدت أن عملية التصوير بحد ذاتها تخالف الإجراءات المعتمدة داخل الحقول النفطية، إذ يُمنع تمامًا إدخال الهواتف الذكية أو أي أجهزة إلكترونية إلى مواقع الحفر، وذلك لأسباب تتعلق بالسلامة الصناعية، خصوصًا أن بعض المعدات، مثل جهاز AX، يُصنّف من ضمن الأدوات القابلة للاشتعال والانفجار.
وقد تم تصوير الفيديو المذكور، حسب مسؤول في الحقل، عبر "هاتف محمول أدخله أحد العمال خلسة إلى الموقع"، مما يشكل خرقًا واضحًا للبروتوكولات المتبعة، وسيخضع للمساءلة ضمن تحقيق داخلي.
الذهب الكاذب (البايرايت)
وبشأن المادة التي ظهرت في المقطع، أوضح أحد المسؤولين في الحقل، طالبًا عدم الكشف عن اسمه، أن القطع اللامعة ربما تعود لأجزاء من شفرات الحفر التي تنكسر أحيانًا أثناء اختراق طبقات الأرض، وهي غالبًا ما تأتي بلون معدني ذهبي لامع.
إلا أن الاحتمال الأكثر ترجيحًا، بحسب المختصين الجيولوجيين، هو أن تلك المادة هي "البايرايت" أو ما يعرف علميًا بـ Pyrite، والذي يُطلق عليه شعبيًا "الذهب الكاذب"، نظرًا لتشابهه الكبير مع الذهب في الشكل واللون والبريق.
ويعد معدن البايرايت (FeS₂) من أكثر معادن الكبريتيد انتشارًا على سطح الأرض، ويتواجد بكثرة في التكوينات الرسوبية المصاحبة للنفط والغاز، خاصةً في الصخور الطينية والشيستية. ويمتاز بلونه الأصفر المعدني ونظامه البلوري المكعب، ما يجعله من أكثر المعادن خداعًا في الطبيعة.
وغالبًا ما يُستخدم كحجر زينة في المجوهرات الرخيصة، لكنه لا يحمل أي قيمة اقتصادية تذكر مقارنة بالذهب الحقيقي، بسبب هشاشته ومحتواه المعدني.
وتشير دراسات حديثة في الجيولوجيا البترولية إلى أن وجود البايرايت في تشكيلات صخرية عميقة قد يكون مؤشرًا جيولوجيًا حيويًا يدل على بعض خصائص الخزانات النفطية، إلا أن أهميته تبقى محصورة في السياق العلمي وليس الاقتصادي المباشر.
تضليل الرأي العام
إثارة قضية "الذهب في الرميلة" تؤكد مجددًا أهمية الالتزام بمعايير الشفافية والمهنية في توثيق وقائع النشاطات الصناعية، كما تدعو إلى ضرورة ضبط آليات النشر والتداول الإلكتروني للمحتوى المتعلق بالثروات الوطنية
مقارنات بصرية أجراها مختصون بين صور البايرايت ولقطات الفيديو المتداول أظهرت تطابقًا واضحًا في الشكل واللون والملمس، ما يعزز من فرضية أن القطع الظاهرة ليست ذهبًا بأي شكل من الأشكال.
وتجدر الإشارة إلى أن تداول مثل هذه الفيديوهات دون تحقق يساهم في تضليل الرأي العام وإثارة الجدل غير المبرر، لا سيما في قطاع حيوي وحساس مثل قطاع الطاقة.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى تعزيز الوعي المجتمعي بمفاهيم الجيولوجيا الصناعية، والتأكيد على دور الإعلام في نقل الحقائق من مصادرها الموثوقة، لا من منصات التواصل التي قد تقدم مواد مثيرة لكنها تفتقر للمصداقية العلمية.
إثارة قضية "الذهب في الرميلة" تؤكد مجددًا أهمية الالتزام بمعايير الشفافية والمهنية في توثيق وقائع النشاطات الصناعية، كما تدعو إلى ضرورة ضبط آليات النشر والتداول الإلكتروني للمحتوى المتعلق بالثروات الوطنية، في ظل واقع معقد تشوبه الكثير من المغالطات البصرية والتقنية.