"نعاوي من وادي السلام".. سردية الحزن الشيعي الممتدة من القبر إلى القلب

انفوبلس/..
"يا بعد هلي.. يا بعد روحي.. كلبي طك عليك!"، صوت امرأة يملأ فضاء مقبرة وادي السلام، لا يُعرف إن كانت تبكي ولدها الذي دُفن البارحة، أو جدّها الذي مات قبل خمسين سنة، أو ربما تبكي الحسين "ع".. فالدمعة في النجف لا تفرّق بين ميت وميت، لأنّ الوجع واحد، والمظلومية وحدة شعور.
في مقبرة وادي السلام، لا أحد يأتي ليبكي على شخص فقط. الزائرون يأتون محمّلين بتاريخ الطائفة، بمآسيها، بثاراتها المؤجلة، وبكل حزنها المتراكم منذ الطف. هذا المكان لا يُشبه المقابر الأخرى، فهو ليس مستقرًا للموتى، بل منبر للأحياء.
*صوت النعاوي أعلى من صوت الصمت
في نهاية كل نهار، حين تميل الشمس وتبرد الأرض، تصعد النعاوي من أركان المقبرة. صوت نساء يبكين، بصوت متهدّج، تخالطه نبرات اللطم، وضرب على الفخذ، وندب على الرأس: "يمّه يا يمّه، چا انا ربيتك أريدك تشيلني، مو أنا أشيلك!.. ما گضيت وياك، خلّيتني وحدي بلمّتنا!”.
ليست هذه مجرّد مشاعر أمومة، بل لغة كاملة اسمها “لغة الحزن الشيعي”. كل كلمة تُقال في وادي السلام تحمل تاريخًا من الدم والعزاء، وكل تنهيدة تُشبه من حيث لا تدري، تنهيدة زينب على جسد الحسين عليهما السلام.
*الموت في وادي السلام لا يطوي الصفحة
“الميّت هنا ما يغيب، تظل روحه تحوم ويانه”، يقول الحاج أبو كرار، حفّار قبور في المقبرة منذ ثلاثين عامًا. يُضيف وهو ينفض التراب عن ملابسه: “هواي من النسوان يجن يومية، يبچن، يحچن ويا قبور أولادهن، وكأنهم يسمعوهن. صدگني القبر هنا مو سكوت.. القبر هنا يحچي”.
وادي السلام أكبر مقبرة في العالم، لكنه أيضًا أكبر معرضٍ يوميّ للحزن. المشهد لا ينتهي: نساء بعباءات سود، يحملن زهورًا وكيس دهن الورد، يفرشن سفرة صغيرة بجانب القبر، ويبدأن بالنعاوي.
*حزن متوارث لا يُنسى
منذ الطفولة، يتشرّب أبناء الطائفة الشيعية معنى الحزن. لا كمشاعر عابرة، بل كجزء من التكوين. من لا يعرف الحسين لا يعرف كيف يبكي. ومن لا يحفظ نعاوي أمهاته، لا يعرف كيف يعزّي.
“يبچون على الحسين بكل جنازة، حتى لو كان الميت غريب عنهم”، تقول أم حسن، التي تزور قبر ابنها كل يوم خميس. تضيف وهي تمسح الغبار عن شاهدة القبر: “لما أصيح يمه، مو بس لابني، أصيح عن كل مظلوم، أصيح عن الزهراء، عن السبايا..”.
*طقوس الحزن في حضرة الأموات
لا توجد موسمية في حزن وادي السلام. هنا، كل يوم هو عاشوراء، وكل قبر هو امتداد لقبر كربلاء. “الحزن هنا طقس مقدّس”، يقول الشيخ جاسم المياحي، رجل مسن جاء لزيارة المقبرة: “تتجوّل بالمقبرة، وتسمع دعاء، ونعاوي، وبكاء، ومجلس حسيني مصغّر.. حتى الأحياء يرجعون من المقبرة وهم يحملون حزنًا جديدًا”.
*حين تصبح المقبرة مرآة
في وادي السلام، لا ينظر الناس إلى القبور كأنها نهاية، بل كأنها مرآة. كل شاهد قبر يُشبهك، كل اسم محفور يمكن أن يكون اسمك، وكل نعاوي تُقال، يمكن أن تخرج من قلبك.
مع كل نسمة ليل تمرّ فوق المقبرة، ترتفع أصوات:
– “أريد أروح وياك، خذوني وياكم!”
– “يمه ليش ما چنت آني الميت؟”
– “چنت عمود البيت.. وانهدم!”
الحزن الشيعي لا يُفهم من الكتب، ولا من التقارير الرسمية. يُفهم فقط إذا مشيت في وادي السلام، وسمعت صوت امرأة تنادي ولدها، وبكيت معها حتى وإن لم تكن تعرف اسم المتوفّى. حينها فقط، تدرك أن الحزن في هذه المقبرة لا يُدفن.. بل يُورث.
مقبرة وادي السلام واحدة من أشهر المقابر في العالم. استقبلت تلك المقبرة جثامين الملايين من البشر على مدار ما يزيد عن الأربعة عشر قرناً. ولها مكانة خاصة لدى الشيعة في العراق وخارجه. وهي مذكورة في أحاديث النبي والأئمة.
تقع مقبرة وادي السلام في محافظة النجف الأشرف في الجنوب الغربي من العاصمة العراقية بغداد. وهي تمتد على مساحة واسعة تزيد عن ستة كيلومترات، يحدها من الجنوب ضريح الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
دُفنت جثامين الملايين من البشر في وادي السلام. واحتوت على أشكال متنوعة من المدافن. منها السراديب الموجودة تحت الأرض. ومنها المقابر الحجرية والمصنوعة من الطوب. تحتوي المقبرة أيضاً على بعض المراقد المشهورة المنسوبة للأنبياء، مثل هود وصالح.
في سنة 2011م، تم تسجيل مقبرة وادي السلام في القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونيسكو. وجاء في التقرير الخاص بالمقبرة: "تعتبر مقبرة وادي السلام روح المدينة لأنه يزورها ملايين المسلمين من مختلف أنحاء العالم.. وهي من أكبر المقابر في العالم.. وهي المقبرة الوحيدة في العالم التي لا تزال عملية الدفن مستمرة فيها حتى يومنا هذا منذ أكثر من 1400 عام".
وبحسب التقرير، بدأ دفن الموتى في المقبرة في عهد الساسانيين والبارثيين قبل ظهور الإسلام. وتذكر بعض المصادر أن عدداً من ملوك مملكة الحيرة القديمة دُفنوا بها في القرن السادس الميلادي.