الذئاب تدخل من الشباك: احتلال تركي ناعم وتمهيد لسيناريو إدلب في قلب نينوى

انفوبلس/..
في الجبال التي كانت يومًا محميات طبيعية وملاذًا آمنًا لرعاة كردستان، أصبحت السماء تمطر نارًا، والأرض تَئِنُّ تحت أقدام المحتلين الجدد. لا حديث في شمال العراق هذه الأيام إلا عن الانتهاكات التركية، لا سيما تلك التي تجاوزت حدود “محاربة الإرهاب” إلى حدود الغطرسة العسكرية، والتوسع السياسي، والاختراق الأمني العميق.
*قواعد بحجم دولة
ليس سراً أن تركيا اليوم تتصرف في شمال العراق كأنها في ولاية “وان” أو “هكّاري”. وفقًا للقيادي في تحالف الفتح، عدي عبد الهادي، فإن “أنقرة تمتلك أكثر من 80 موقعًا عسكريًا داخل الأراضي العراقية”، تتنوع بين قواعد ضخمة كـ”زليكان” ومواقع تجسس ورصد ومخازن أسلحة وتحركات عسكرية شبه يومية.
ما يحدث لم يعد مجرد “قصف محدود” أو “ملاحقة فلول”، بل توسُّع تدريجي يتم تحت صمت دولي، وتواطؤ سياسي محلي، وصفقات خفية بين بعض أطراف الإقليم وحكومة أنقرة.
الطائرات الحربية التركية لا تفرق بين شجرة زيتون أو بيت طيني. بحسب عبد الهادي، فإن “المزارع والبساتين تحوّلت إلى ساحات حرب”، والقرى الكردية تُهجر بصمت، والنزوح بات طقسًا موسميًا منسيًا لا تلتقطه عدسات الفضائيات.
ووسط هذا الخراب، تخرج دعوات “توثيق الانتهاكات” وكأنها اعتراف غير مباشر بالعجز الرسمي، فالحكومة حتى الآن لم تصدر تقريرًا دوليًا واحدًا موثقًا يُدين هذه الانتهاكات في مجلس الأمن أو في المحاكم الدولية.
*معسكرات الظل والتكرار المخيف
النائب وعد قدو، عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، رسم أخطر ملامح المشهد: “تركيا تحضّر لتكرار سيناريو إدلب في محافظة نينوى”. الجماعات التي درّبتها في زليكان أصبحت تملك دبابات ومدرعات وطائرات مسيّرة، وتتحرك كما تشاء في عمق العراق، دون أدنى اعتبار لسيادته أو أمنه القومي.
84 معسكرًا تركيًا داخل العراق، رقم لا يشبه إلا ما كانت تفعله أمريكا في ذروة احتلالها. وما يثير الشك أكثر أن بعض هذه المعسكرات تم بإشراف مباشر من شخصيات سياسية عراقية معروفة، تتصدر مشهد التبرير والتطبيع مع “الوجود التركي”.
*احتلال أم نفوذ؟
رفيق الصالحي، النائب عن كتلة صادقون، وصف الوجود التركي بأنه “احتلال متكامل”، مؤكداً أن “أنقرة تتعامل مع العراق كساحة خلفية لتصفية حساباتها”. لا حزب عمال كردستان ولا أي تهديد ميداني يبرر استمرار هذا التوغل، بل الحقيقة المرة أن تركيا تملك خطة لتوسيع حدودها بالسياسة أولاً، ثم بالبارود.
وفي وثيقة صادرة عن جهاز الأمن الوطني، ظهرت أسماء تنظيمات مدعومة تركيًا، مثل “الذئاب الرمادية” و”الفرسان الأتراك الأكراد”، وهي جماعات درّبتها أنقرة لتكون أذرعها الطويلة في العراق.
*أردوغان يمد يده حتى الموصل
من يراقب التصريحات التركية يرى نبرة متعالية، وكأنها تطالب بـ”إعادة ولاية الموصل”. الطموحات العثمانية لم تعد تُخفى، والاحتلال لم يعد يُدار من خلال المعسكرات فقط، بل من خلال مشاريع اقتصادية واستخباراتية وتعليمية. تركيا تدفع الأموال لإنشاء مدارس وجامعات تركية، وتبني تحالفات مع زعامات محلية في نينوى وكردستان.
السياسي الكردي جمعة كريم، وصف ما يجري بأنه “توسّع جغرافي تحت غطاء السلام”، مؤكداً أن القصف المستمر لم يتوقف رغم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق نار. الصمت الرسمي والدولي ـ حسب قوله ـ هو أخطر من الانتهاكات ذاتها، لأنه يعطي ضوءًا أخضر لأنقرة للتمادي أكثر.
*المشهد في بغداد: شجب وخوف
من بغداد، لا يزال الموقف الرسمي يتراوح بين “بيانات تنديد” و”تصريحات خجولة”، في وقت يتطلب تحركاً حقيقياً على مستوى الدبلوماسية الدولية. النائبة مديحة الموسوي، قالت إن “أنقرة تزداد وقاحة، لأنها لم تجد ردًا فعليًا”، مشيرة إلى أن تجاوزات تركيا ازدادت خلال الشهور الأخيرة بشكل ملحوظ.
أما عضو الاتحاد الوطني الكردستاني، برهان الشيخ رؤوف، فقالها بصراحة: “ما يجري ليس من مسؤولية الإقليم، بل الحكومة الاتحادية هي المعنية بحماية السيادة ومنع المجازر التركية”. الرسالة واضحة: لا تتركوا كركوك ودهوك وشنكال لوحدها في ساحة النار.
*هل نشهد إدلب جديدة؟
السيناريو المرعب، بحسب المراقبين، هو تحوّل نينوى إلى إدلب جديدة، تدار فيها المعارك بالوكالة، وتُنشأ فيها مناطق آمنة ـ حسب التسمية التركية ـ وتُدار عبر مليشيات محلية تدين بالولاء لأنقرة. مشهد يدق ناقوس الخطر في بغداد، التي تواجه تهديدًا استراتيجيًا على بوابة حدودها الشمالية.
وإذا لم تتحرك الدولة العراقية الآن، فإن أولادنا سيتعلمون في مدارس تركية، ويُلقّنون تاريخًا لا ينتمي لهم، وربما تُرفع الأعلام التركية في ساحات نينوى، كما رُفعت في جرابلس وعفرين.
*من يسكت عن الذل؟
من الواضح أن أنقرة اختارت سياسة “القضم البطيء”، مستغلةً هشاشة المواقف، وتباين المواقف داخل البيت السياسي العراقي.
وإذا استمرت الأمور على هذا النحو، فإن ما سنراه قريبًا ليس مجرد قصف أو قاعدة عسكرية، بل خارطة نفوذ حقيقية.