من لا يفهم التاريخ لا يعرف الجغرافيا
من هنا تبدو الصراعات الدائرة حالياً في غرب آسيا، في المناطق الممتدة من البحر إلى الخليج، مجرد فصل من فصول الزمن، الذي لا يعيد تكرار نفسه بقدر ما يشبه بعضه، وهو ما يذكرنا بالكثير من النزاعات، التي خلقت زعامات وقتية وسلطات مكانية سرعان ما تغيرت وانهارت
كتب / سلام عادل
يجري الحديث كثيراً عن (شرق أوسط جديد)، وهو كلام يعاد تكراره في آخر عشرين سنة تحت عناوين متغيرة، يراد منها تسويق الفكرة لتصل إلى مرحلة المقبولية، ومنها عنوان (صفقة القرن)، أو (السلام الشامل)، وكذلك (اللقاء الإبراهيمي)، ويشمل ذلك (دمقرطة المنطقة)، أو حتى (الربيع العربي)، وهي جميعها من مخرجات العقل السياسي الغربي، الذي صاغ قبل 100 سنة (حدود سايكس بيكو)، لتتحول فيما بعد إلى معتقلات دولية.
ولا شك من كون تجزئة المنطقة إلى أوطان، كان يراد منها تفكيك القوة الحضارية في الشرق الأوسط، والحضارة في هذه المنطقة موروث يعود لثمانية آلاف سنة، استمرت على مدار أجيال وسلالات متعددة، ابتدأت من العهد السومري ووصولاً إلى الحقب الإسلامية المتأخرة، وهي حضارة انصهرت فيها الألسن والأعراق والديانات، في حالة ليس لها مثيل في أي مكان آخر من العالم، الذي شهد في نفس الوقت انبثاق حضارات هنا وهناك، لكنها ظلت حضارات مبنية على أساس العرق الواحد أو الدين الواحد.
ومن هنا تبدو الصراعات الدائرة حالياً في غرب آسيا، في المناطق الممتدة من البحر إلى الخليج، مجرد فصل من فصول الزمن، الذي لا يعيد تكرار نفسه بقدر ما يشبه بعضه، وهو ما يذكرنا بالكثير من النزاعات، التي خلقت زعامات وقتية وسلطات مكانية سرعان ما تغيرت وانهارت، مما يجعل الثابت الوحيد ليس التاريخ وإنما الجغرافيا، التي ترتبط ببعضها وتتأثر ببعضها، مما يجعل ما يجري في سوريا له علاقة بما حصل في لبنان، وستكون له تداعيات تستهدف العراق، ولو بعيد حين قريب أو متوسط أو بعيد.
ولعل قراءات آخر الزمان المروية في بعض الكتب تشرح بالتلميح الواضح هذا الترابط الجغرافي في صياغة مسار المستقبل، وهو التاريخ الذي سيولد لاحقاً مع ظهور قادة يقودون معارك كبرى تقع أحداثها بين عواصم الشرق، لتحسم مآلات الشرق، بعد أن يتعرض لعبث العابثين للدرجة القصوى، التي ينعدم فيها التعايش وتنتهي فيها الحلول العاقلة، وهي مرحلة باتت ملامحها ملموسة ومحسوسة وتقترب لتكون واقعاً مُعاشاً.
وفي كل الاحوال سبق أن جرّب غزاة كُثر الاستيلاء على بلاد الرافدين وبلاد الشام في أكثر من مرة، وأسسوا إمبراطوريات سادت ردحاً من العقود والقرون، إلا أنها انتهت وتلاشت واختفت من الجغرافيا، ولم يبق لها أثر غير مرويات في التاريخ يسعون اليوم من خلالها الحصول على شرعية جديدة لوجودهم، وهو ما سيكون دافعاً جديداً لقلعهم على يد الأجيال الجدد.
وعموماً .. البلاد الممتدة من البحر إلى الخليج ليست حصاناً قابلاً للترويض، ولن يخضع لمشتهيات إعادة تدوير التاريخ، التي يفكر بها الأتراك أو الإنجليز أو الفرنسيين، لكونها جغرافيا مترابطة بدوافع حضارية تعرف أهلها جيداً مثلما تعرف الدخلاء والغرباء والغزاة، وما يحصل فيها اليوم مخاض لتصحيح التاريخ على أساس الواقع الجغرافي.