نفقات مرتفعة وإيرادات منخفضة.. ما سعر البرميل الذي يحتاجه العراق لتمر موازنته بدون عجز؟

انفوبلس..
يواجه العراق تحدياً اقتصادياً حاداً مع تصاعد نفقاته وتراجع إيراداته النفطية، ومع تذبذب الأسعار إلى ما دون 65 دولاراً للبرميل، يلوح خطر عجز مالي يصل إلى 60 تريليون دينار، وسط تحذيرات من أزمة اقتصادية خانقة ستتحقق بشكل حتمي إلا إذا تمكنت الحكومة من التصرف بطريقة ملائمة.
أزمة الإيرادات والنفقات
وقال الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي إن "سعر تعادل الموازنة في العراق 93 دولارا للبرميل وهو السعر الذي يجعل الموازنة بدون عجز"، مضيفاً: "ويحتاج الى سعر 80 دولارا مع الانضباط المالي لكي تنظم الموازنة بعجز مقبول،
ويحتاج الى سعر 75 دولارا لبرميل النفط لكي ينظم الموازنة بعجز قد يصل الى 20 ترليون دينار وذلك بافتراض أن العراق يصدّر 3.5 مليون برميل يومياً".
وأكد إن "المشكلة ان النفقات العامة في العراق تنمو بمعدل يفوق بكثير الايرادات العامة".
وقبل نحو شهر، أكد المرسومي إن "الإيرادات النفطية المتحققة لعام 2024 بلغت 90 مليار دولار، بينما تقدر الإيرادات غير النفطية بـ13 مليار دولار فقط، وهي بالكاد تكفي لتغطية مشتريات الحكومة من الكهرباء والغاز ومفردات البطاقة التموينية".
وأكد أن "المطالبات بتوزيع عائدات النفط على المواطنين تتجاهل الحقائق الاقتصادية، إذ إن تخصيص كامل الإيرادات النفطية سيستنزف الاحتياطي النقدي للبنك المركزي، مما سيجبر الحكومة على التمويل بالعجز، أو ما يعرف بـ"طبع النقود"، لدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين والحماية الاجتماعية التي تصل إلى 70 مليار دولار سنويًا، فضلاً عن النفقات التشغيلية والاستثمارية التي لا تقل عن 30 مليار دولار سنويًا. وأضاف المرسومي أن هذا النهج سيؤدي إلى تضخم جامح وانهيار سعر صرف الدينار العراقي بعد تعويمه، وبالتالي دخول البلاد في أزمة اقتصادية خانقة خلال عام واحد فقط. أما في حال توزيع نصف الإيرادات النفطية، فإن الانهيار سيحدث في غضون عامين، وفق المرسومي الذي ختم بتساؤل ساخر: “مو كافي تهريج؟”. ويأتي هذا التصريح وسط دعاوى قضائية رفعها عشرات العراقيين أمام محاكم الاستئناف، مستندين إلى المادة 111 من الدستور التي تنص على أن “النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات”.
عام آخر بلا موازنة
ويوم أمس، رجّح عضو اللجنة المالية النيابية، جمال كوجر، عدم وصول جداول الموازنة العامة للعام الحالي إلى مجلس النواب، مُرجعاً ذلك إلى تراجع أسعار النفط وتسجيل عجز متوقع يُقدّر بنحو 60 تريليون دينار.
وقال عضو اللجنة جمال كوجر إن "قانون الهيئة العامة لمراقبة الإيرادات موجود حالياً في مجلس النواب، وهناك توجّه لإجراء تعديل عليه بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة الراهنة"، مشيراً إلى أن "التعديلات ستشمل مراجعة الصلاحيات والآليات المعتمدة في أداء المهام الرقابية".
وأضاف أن "هناك العديد من النقاط في القانون الحالي بحاجة إلى تحديث، وقد طلب وزير التخطيط من اللجنة المالية النيابية مناقشة هذه التعديلات ومشاركتها مع الجهات ذات العلاقة"، لافتاً إلى أن "اللجنة لم تبدأ بعد بدراسة التعديلات بشكل رسمي".
وفي هذا الشأن كتب المرسومي: لا توجد في العراق موازنات عامة في السنوات 2014 و 2020 و 2022 منها سنتين حصلت فيهما انتخابات برلمانية والخشية أن لا يشهد العراق موازنة في 2025 وهي ايضا سنة انتخابية.
وتساءل في منشور آخر: هل سيشهد العراق عاما آخر من دون موازنة؟
وقال إنه "استنادا الى الموازنة الثلاثية تستطيع الحكومة اللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي وخصم الحوالات وإصدار السندات بما يزيد عن 47 ترليون دينار لتمويل فجوة العجز في الموازنة من دون الحاجة الى الرجوع الى البرلمان الذي خولها بالآتي:
- خصم حوالات من الاحتياطي النقدي للمصارف الحكومية بمبلغ 5 ترليونات دينار.
- الحصول على قروض من المصارف الحكومية بقيمة 3 ترليونات دينار.
- إصدار سندات وطنية بمبلغ 5 ترليونات دينار.
- خصم جوالات الخزينة بقيمة 20 ترليون دينار.
- الاقتراض الخارجي بمبلغ 14 ترليون دينار.
وتابع، "لذلك يمكن للحكومة ألّا تنظم جداول جديدة للموازنة لعام 2025 وتكتفي بجداول 2024 إذا لم يطرأ على الموازنة تغيير يتطلب تنظيم تلك الجداول خاصة وان هناك صعوبات عديدة تعترض تنظيم جداول جديدة للموازنة في مقدمتها انخفاض أسعار النفط والمطالبات البرلمانية بإدراج نفقات جديدة في الموازنة".
وفي سياق آخر، عزا الخبير المالي ومدير عام سابق في البنك المركزي العراقي محمود داغر، يوم الثلاثاء، العجز الحاصل بموازنة البلاد إلى اصدار وزارة المالية العراقية سندات بمبالغ كبيرة.
وقال داغر، إن "العجز الحاصل في الموازنة وراء سعي وزارة المالية لإصدار سندات بقيمة 3 ترليونات دينار، للحصول على سيولة نقدية لتغطية نفقاتها".
وأضاف، إنه "نظرا لصعوبة تسويق السندات على العامة فإنه جرى رفع الفائدة للسندات وتسويقها عن طريق المصارف هذه المرة لما تمتلكه الاخيرة من سيولة مالية وتفضيلها لأوراق مالية مربحة بلا مخاطر مثل السندات الحكومية".
وتوقع داغر، "تستقطب هذه الخطوة المصارف، نظراً لتقارب مستويات الفائدة المعروضة مع العوائد المحققة من الأنشطة الأخرى".
زلزال اقتصادي
ومع انخفاض أسعار النفط بنحو 10 دولارات للبرميل الواحد عمّا كان محدد له في الموازنة العراقية العامة الاتحادية الصادرة بموجب القانون رقم 13 لسنة 2023 المعدل (موازنة السنوات الثلاث)، يحذر مختصون من تسبب هذا الفارق السعري عجزاً غير محسوب "قد يصل إلى أكثر من 30% من النفقات الكلية".
فيما يُطمئن مستشار حكومي بأن الموازنة "ذات مرونة باتجاهين، في مسألة الحفاظ على مستويات الإنفاق العام، وبما يتفق ومواجهة دورة الأصول النفطية وقرارات الأوبك+".
وتشهد أسعار النفط هبوطاً حاداً خلال الأسبوعين الماضيين، بعد أن أثارت الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، اضطرابات في الأسواق العالمية، متسببة بتراجع خام برنت بنسبة 13% خلال شهر نيسان/ أبريل الجاري، وسط مخاوف من ركود اقتصادي قد يؤثر على الطلب العالمي على الطاقة.
وكان البرلمان العراقي قد صادق في منتصف عام 2023 على موازنة ثلاثية تمتد حتى عام 2025، بافتراض سعر 70 دولاراً للبرميل في موازنة 2023، مع إمكانية مراجعة الأسعار في السنوات اللاحقة، فيما يتداول خام برنت حالياً بأقل من 65 دولاراً للبرميل في بورصة لندن.
تطمينات حكومية
ويشكل هذا الانخفاض في الأسعار تحدياً كبيراً للاقتصاد العراقي المعتمد على النفط، الذي يحتاج إلى أسعار أعلى لدعم الإنفاق الحكومي، لكن المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، يطمئن بأن "الموازنة ذات مرونة باتجاهين، في مسألة الحفاظ على مستويات الإنفاق العام، وبما يتفق ومواجهة دورة الأصول النفطية وقرارات الأوبك+".
ويوضح صالح أن "الإنفاق بالحد الأعلى البالغ قرابة 200 تريليون دينار هو أمر ينسجم مع تصاعد معدلات أسعار النفط إلى مستويات تفوق السعر المعتمد في الموازنة البالغ 70 دولاراً للبرميل الواحد من النفط الخام المصدر مع طاقة تصدير هي بنحو 3.4 مليون برميل نفط خام يومياً".
ويتابع، "إضافة إلى التحوط بعجز افتراضي سنوي قدره 64 تريليون دينار تقريباً، وهو عجز تحوطي لمواجهة مفاجآت أسواق الطاقة غير المحسوبة والتي تتأثر بالعوامل الجيوسياسية حول العالم، وإن لم يتحقق إلا بالحد القليل وبشكل طارئ".
ويؤكد المستشار الحكومي، أن "في هكذا مستوى تكون الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية مضمونة مع كل أشكال الإنفاق الاستثماري، وبقدر عالي من التوسع".
وينوّه، إن حصل العكس وهبطت الأسعار بالمتوسط إلى نحو أقل من 70 دولاراً للبرميل الواحد من النفط الخام المصدر (بسبب الحرب التجارية الأمريكية الراهنة، ورفع الأوبك+ يدها عن تقييد إنتاج الدول الأعضاء عن تلك الحصص المحددة)، ما ولد هبوط سعري في أسعار النفط بأقل من السعر المعتمد في قانون الموازنة العامة الثلاثية.
فستبقى أولويات الإنفاق العام "ضامنة للرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية كأولوية أولى في الإنفاق الحكومي"، وفق صالح، وكذلك التعايش مع أسعار نفط منخفضة، والتوجه نحو انضباط أعلى في الكثير من النفقات غير الضرورية، مع الحرص على تنفيذ المشاريع الخدمية الضرورية ضمن رؤية البرنامج الحكومي.
ويبين، "عندها يمكن أن لا يتعدى سقف الموازنة 160 تريليون دينار مع تعزيز تمويل الصرف بشيء من الاقتراض الداخلي من الجهاز المصرفي المحلي، ويبقى الحفاظ على استدامة دفع الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية بشكل شهري منتظم أولوية أولى".
وبناءً على ما سبق، يطمئن المستشار الحكومي، أن "موازنة السنوات الثلاث وبمؤازرة قانون الإدارة المالية الاتحادي النافذ هما قد وفرا حيزاً مالياً جيداً في ترتيب المصروفات لمصلحة 8 ملايين من متسلمي تلك الرواتب والأجور والمعاشات والرعاية الاجتماعية".
ويوضح صالح، إذ يلحظ أنه بموجب قاعدة الإعالة الأسرية في بلادنا وهي (خمسة أفراد منتفع من كل راتب شهري من متسلمي الدخل الحكومي)، فإن الحرص على تنفيذ الموازنة الجارية في جانب الرواتب والأجور والمعاشات وغيرها تمس حياة 40 مليون مواطن عراقي بالأقل، وهو هدف سامي تحرص الحكومة على استدامته بأولوية أولى على الدوام.
تحديات الاقتصاد العراقي
وفي مقابل تلك التطمينات، تعلو مخاوف اقتصاديين خاصة في ظل اعتمادية شبه تامة على الإيرادات النفطية في تمويل الموازنة، وأنها "بُنيت على فرضية سعر نفطي 70 دولاراً للبرميل، وهو رقم بات بعيداً عن الواقع مع التراجع الحاد للأسعار إلى ما دون 60 دولاراً"، وفق أستاذ الاقتصاد الدولي، نوار السعدي.
ويخلق هذا الفرق السعري، بحسب السعدي، عجزاً غير محسوب "قد يصل إلى أكثر من 30% من النفقات الكلية، ما يضع الحكومة في موقف حرج من حيث قدرتها على الإيفاء بالالتزامات، خاصة ما يتعلق برواتب الموظفين التي تشكل النسبة الأعلى من الإنفاق الجاري".
لذلك يرجح السعدي، أن "يشهد العراق خلال هذا العام مزيداً من العجز المالي، ليس فقط على مستوى تمويل المشاريع الاستثمارية، بل حتى في الالتزامات الأساسية إن لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، ورغم أن الحكومة تصرّح أن الرواتب مؤمّنة ولا خطر عليها، إلا أن الواقع يعكس وجود ضغوط حقيقية على السيولة".
ويؤكد أستاذ الاقتصاد، أن "بقاء السياسة المالية العراقية مرهونة بأسعار النفط العالمية يعني أن أي أزمة في الأسواق الخارجية ستكون لها انعكاسات مباشرة داخلية، تبدأ بالعجز المالي، وقد لا تنتهي عند اضطرابات اجتماعية إذا ما تأثرت الرواتب أو الإعانات الاجتماعية".
ويوضح السعدي، أن "العراق لا يزال يفتقر إلى تنويع مصادر دخله، وهو ما يجعل كل تذبذب في السوق النفطية يُترجم فوراً إلى اهتزاز في الاستقرار المالي الداخلي، وهنا تبرز الحاجة لإصلاحات جدية وسريعة في إدارة الموارد، لأن الاستمرار بالاعتماد على النفط كمرتكز وحيد للإيرادات هو بمثابة السير على حبل مشدود وسط عواصف اقتصادية عالمية متقلبة".
وبالتالي، المطلوب الآن – وفق السعدي – هو "تعامل مرن وسريع مع الواقع الجديد، عبر إعادة تسعير النفط في الموازنة، وتقليل النفقات غير الضرورية، وتقليص الاعتماد على القروض المحلية والدولية، وتفعيل الجباية غير النفطية بطرق حديثة وعادلة".
ومن الإجراءات أيضاً، يدعو السعدي إلى تحفيز القطاعات غير النفطية، ومحاربة الهدر والفساد، ووضع رؤية اقتصادية متوسطة الأمد تُخرج العراق من دائرة الاعتمادية المطلقة على النفط، وإلا فالأزمات ستكون متكررة بل ومتفاقمة مستقبلاً.
عجز الموازنة
ويتفق الخبير النفطي، حمزة الجواهري، مع ما يدعو إليه السعدي حول أهمية مراجعة الموازنة وتقليص المصروفات، "وإلا سوف يقع العراق في مشكلة كبيرة خاصة وأن العجز وصل إلى 84 تريليون دينار، وهذه أرقام مهولة ليس من المفترض الوصول إليها".
ويشير الجواهري إلى أن "الموازنة تعاني من عجز نتيجة الانخفاض الكبير في أسعار النفط، ووصل الفارق إلى 10 دولارات للبرميل الواحد، ما يتطلب مراجعة الموازنة والمصروفات على المشاريع التي ينطبق عليها وصف (الوهمية) وهي معروفة والهدف منها هو سرقة المال العام، لذلك يجب ترشيق المشاريع والمصروفات لكي تكفي الإيرادات للرواتب والمصروفات الضرورية للتنمية".
وإلى جانب اعتماد الموازنة الاتحادية العامة على واردات النفط بنسبة 95%، ما يؤثر انخفاض الأسعار عليها بشكل كبير، "يلاحظ عدم وصول إيرادات الجمارك والضرائب التي تبلغ مجتمعة 20 مليار دولار إلى خزينة الدولة بشكل صحيح، بسبب التلكؤ في استحصال الضرائب والتهريب"، وفق الخبير الاقتصادي، كريم الحلو.
لكن رغم ذلك، يؤكد الحلو خلال حديث له تابعته "انفوبلس"، أن "صرف الرواتب مستمر، وهناك إنفاق كبير على المشاريع ويأتي هذا رغم عدم إقرار موازنة 2025 لغاية الآن، وإنما يتم الصرف من أموال الأمن الغذائي والتنمية".