انفوبلس تذكّر بحرب السودان المنسية.. تقرير شامل يشرح خارطة الصراع ويكشف عن كوارث متعددة الأوجه

انفوبلس/ تقارير
أكثر من 18 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد منهم أكثر من 222 ألف طفل يواجهون خطر الموت جوعا، السلاح لم يقتصر على البنادق وحدها، باتت جرائم "الاغتصاب" والاستعباد الجنسي هي السائدة! حياة 25 مليونا على المحك، وكوارث لا يحتملها أحد، حيث حرب السودان المنسية التي سلّطت شبكة انفوبلس الضوء عليها عبر تقرير شامل تناولها منذ بدايتها عام 2023 حتى الآن.
كوارث متعددة الأوجه
على مدار أشهر الحرب التي اقتربت من العامين، تسابقت المنظمات الإغاثية والأممية في إصدار تحذيراتها حول فداحة الأوضاع الإنسانية في السودان.
وبهذا الصدد، تقول لجنة الإنقاذ الدولية، إن عدد القتلى جراء الحرب وصل إلى 150 ألف شخص حتى أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو رقم أعلى من الحصيلة المعلنة للأمم المتحدة التي تتراوح حول 20 ألف قتيل فقط.
في السياق ذاته، أصدرت كلية لندن للصحة العامة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تقريرا كشف عن وفاة أكثر من 61 ألف شخص في الخرطوم وحدها منذ بداية الصراع في السودان وحتى يونيو/حزيران الماضي بزيادة بلغت نحو 50% عن معدل الوفيات قبل الحرب، من هؤلاء 26 ألف حالة وفاة نتيجة عنف مباشر متعلق بالحرب.
وبالإضافة إلى ذلك، قدرت لجنة الإنقاذ أن هناك 18 مليون سوداني يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، منهم أكثر من 222 ألف طفل يواجهون خطر الموت جوعا خلال الأشهر المقبلة، وهي أرقام لا توافق عليها الحكومة وتشكك فيها.
وفي مستهل ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن نصف عدد السكان في السودان، أي حوالي 25 مليون شخص، يواجهون خطر "الجوع الحاد".
كما أعلن رئيس المجلس النرويجي للاجئين أن الأزمة الإنسانية في السودان أسوأ من الأزمات في أوكرانيا وغزة والصومال مجتمعة، وأن حياة 24 مليون شخص باتت على المحك.
الاغتصاب والاستبعاد الجنسي حاضران
في سبتمبر/أيلول الماضي، عقد مدير منظمة الصحة العالمية "تيدروس أدهانوم غيبريسوس" مؤتمرا صحافيا من بورتسودان (العاصمة الإدارية المؤقتة للبلاد) أعلن خلاله أن النظام الصحي المتداعي في السودان "وصل إلى مرحلة الانهيار"، موضحا أن ما بين 70-80% من المؤسسات والمرافق الصحية توقفت عن العمل تماما.
كما ظهر استخدام العنف الجنسي والاغتصاب كسلاح حرب في السودان منذ بداية الصراع خاصة من قبل قوات الدعم السريع المدعومة إماراتيا، حيث ذكر تقرير أممي صدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن هذه القوات مسؤولة عن ارتكاب عنف جنسي على نطاق واسع في المناطق التي تسيطر عليها، بما في ذلك الاغتصاب الجماعي وخطف واحتجاز ضحايا في ظروف ترقى إلى مستوى الاستعباد الجنسي.
وبهذا الشأن، تحدث "محمد شاندي عثمان" رئيس بعثة تقصي الحقائق بالتقرير قائلا: "لقد أذهلنا النطاق المهول للعنف الجنسي الذي نقوم بتوثيقه في السودان".
بدورها، صرحت مديرة وحدة العنف ضد المرأة والطفل "سليمى إسحاق" أن عدم توفر الخدمات الصحية يجعل من الصعب جدا تحديد أرقام دقيقة لحالات الاغتصاب والعنف، مشيرة إلى أن عدد الحالات الموثقة منذ بداية الحرب بلغ 309 حالات.
كما تحدثت منظمات حقوقية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن انتحار عدد من النساء في قرى ولاية الجزيرة بعد حملة اغتصاب جماعي ارتكبتها قوات الدعم السريع التي احتلت الولاية لما يقارب العام.
انتهاكات لا مثيل لها
إلى جانب الاغتصاب والعنف الجنسي، برزت ممارسات الحصار والتجويع والتعذيب كأسلحة يُعتقد على نطاق واسع أن قوات الدعم السريع استخدمتها بشكل ممنهج في الصراع، كما وُثِّق في منطقتي "الفاشر" و"نيالا" وفي مدينة الجنينة -عاصمة ولاية غرب دارفور- حيث وقعت مذبحة "أردامتا" عندما قامت قوات الدعم السريع بعد سيطرتها على المدينة بقتل أكثر من ألف شخص من قبيلة "المساليت" في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
هذا فضلا عن مشاهد الإذلال والإهانة التي مارسها عناصر الدعم السريع بحق المواطنين، مثل الفيديو المنتشر للقائد الميداني "عمر شارون" وهو يشد لحية بيضاء لشيخ سوداني طاعن في السن أثناء اجتياح قرية السريحة بولاية الجزيرة وسط السودان.
ولم تنجُ قاعات التعليم من الحرب الدائرة، حيث أصبح أكثر من 10 ملايين طالب خارج مقاعد الدراسة، كما تم تدمير أو نهب أو إلحاق أضرار جسيمة بأكثر من 100 منشأة جامعية، وتحولت مئات المدارس في المناطق الآمنة إلى معسكرات تؤوي الفارين من القتال.
ويهدد الدمار المتاحف والمواقع التراثية، بما في ذلك الحرم الجامعي الرئيسي لجامعة الخرطوم، وهو تحفة معمارية تضمنت مختبرا أنشأه قطب صناعة الأدوية "السير هنري ويلكوم" في بداية القرن العشرين.
إضافة إلى ذلك، يبرز انهيار الاقتصاد السوداني بوصفه أحد التداعيات الكارثية للحرب، حيث تجاوزت خسائر الاقتصاد بفعل الحرب 200 مليار دولار، تشمل دمارا كبيرا في البنية التحتية التي تضم المباني والمنشآت، فضلا عن شبكات المياه والكهرباء والطرق والجسور وغيرها من المرافق الحيوية، ناهيك عن نهب وإغلاق أكثر من 100 بنك و400 منشأة صناعية، وفق الإحصاءات التي يُعتقد أنها أقل بكثير من الواقع.
اقتصاد السودان إلى الهاوية
نتيجة لذلك، من المتوقع أن ينكمش اقتصاد السودان بنسبة تتراوح بين 12-18% خلال العام الحالي بحسب صندوق النقد والبنك الدولي، وقد توقع وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم أن يصل الانكماش في الاقتصاد السوداني إلى حوالي 28% في عام 2024.
أما معدل التضخم فقد ارتفع إلى 218% في أغسطس/آب 2024 مقارنة بـ83% قبل الحرب، كما سجل الجنيه السوداني تراجعا كبيرا في قيمته، حيث يتم تداول الدولار الواحد حاليا بأكثر من ألف جنيه في السوق الموازي، ما يعني فقدان العملة لنصف قيمتها تقريبا.
هذا إلى جانب خسارة معظم الأسر السودانية مصدر دخلها لترتفع معدلات الفقر إلى أكثر من 60% وسط شح في السلع الغذائية، بسبب الضرر الجسيم الذي أصاب قطاعات حيوية للاقتصاد السوداني مثل القطاع الزراعي الذي يُسهم بنسبة 40% في الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل به 58% من القوى العاملة، والذي يعتقد أنه تم تدمير ثلثي مقدراته على أقل تقدير.
أما القطاع الصناعي الذي يسهم القطاع بنسبة 17% من الناتج المحلي الإجمالي في السودان وفقا لبيانات وزارة الصناعة، ونتيجة لتركز معظم المصانع في العاصمة "الخرطوم"، فإن حجم الضرر على هذا القطاع كبير للغاية، إذ ترتب على الصراع تدمير حوالي 80% من البنية التحتية للقطاع، والتي تقدر خسائرها بحوالي 50 مليار دولار، حيث دمرت الحرب حوالي 550 مصنعا في الخرطوم وأم درمان، وترتب على ذلك تشريد حوالي 250 ألف عامل.
وبحسب بيانات وزارة الصناعة، تسببت الحرب في توقف خط تصدير النفط الرئيسي من حقول جنوب السودان، وهو ما أفقد الخرطوم عائدات دولارية مهمة وتسبب في أزمة اقتصادية طاحنة في جوبا.
خارطة توازنات القوى في المشهد السوداني
يقودنا كل ذلك للحديث عن خارطة توازنات القوى في المشهد السوداني التي ترسم واقع الصراع الحالي ومستقبله.
وتتميز هذه الخارطة بالتعقيد الشديد، ويشوبها التداخل بين أطراف خارجية دولية وإقليمية وحركات مسلحة متباينة التوجهات، وتحكمها تفاعلات ذات طابع اثني وقبلي أحيانا وسياسي وتنموي في أحيان أخرى.
فالسودان بلد يتمتع بأهمية جيواستراتيجية كبيرة، حيث يعتبر بوابة لأمن القرن الأفريقي والبحر الأحمر، كما أن له حدود مع 7 دول أفريقية، وهو بلد غني بالثروات الزراعية والمعدنية، ما يجعله حلبة صراع للعديد من القوى الدولية والإقليمية سواء بصورة مباشرة أو بالوكالة.
كما أن السودان بلد مترامي الأطراف، وهو يحتل المرتبة الثالثة في قارة أفريقيا من حيث المساحة (كان يحتل المرتبة الأولى حتى انفصال الجنوب عام 2011). وتتميز التركيبة السكانية السودانية بالتنوع، وهي تضم طيفا واسعا من القبائل والقوميات العرقية تصل إلى 57 قومية عرقية تتوزع على امتداد جغرافيا البلاد وعبر حدودها إلى الدول المجاورة في بعض الأحيان، إلى جانب عشرات اللغات واللهجات المحلية.
كما تتعدد التكوينات العسكرية في السودان نتيجة الحروب الأهلية الممتدة منذ الاستقلال عام 1956، حيث تشير عدة مصادر صحفية إلى وجود أكثر من 87 حركة مسلحة في عموم البلاد، 84 منها تنشط في منطقة دارفور وحدها. وتتنوع تلك التكوينات العسكرية بين مؤسسة رسمية من ناحية وفصائل مسلحة غير نظامية وميليشيات من ناحية أخرى، بعضها أُنشئ بواسطة السلطات الحاكمة عبر فترات مختلفة.
ولفهم أبعاد الأزمة الحالية في السودان وتعقد ديناميكيات الصراع فيها، نتناول أبرز هذه التكوينات العسكرية السودانية، وفي مقدمتها الجيش السوداني بقيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي (رئيس الدولة) وهو جيش الدولة الرسمي ويمتد تاريخه لنحو مائة عام، وهناك قوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول "محمد حمدان دقلو" الشهير بـ"حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السابق؛ الذي يُتهم من قبل الجيش بالتمرد على الدولة وشن الحرب في أبريل/نيسان 2023، لكنه ينفي ذلك ويتهم الجيش بإشعالها.
الجيش السوداني والدعم السريع
بموجب دستور البلاد، تُعد القوات المسلحة السودانية هي المؤسسة العسكرية الرسمية في الدولة.
ويحتل الجيش السوداني المرتبة الـ74 عالميا في قائمة أقوى جيوش العالم، من بين 145 دولة حسب المراجعة السنوية لـ"قوة النيران العالمية (Global fire power)" لعام 2024، وجاءت "القوات المسلحة السودانية" في المرتبة الـ10 على مستوى القارة الأفريقية.
أما بخصوص القدرات البشرية والقتالية، يصل عدد أفراد الجيش السوداني إلى 194 ألف جندي، منهم حوالي 92 ألف جندي فاعل، إضافة إلى 85 ألف جندي في قوات الاحتياط، و17 ألف جندي قوات شبه نظامية. وتضم القوات الجوية السودانية 170 طائرة حربية، من بينها 45 مقاتلة، ويمتلك السودان 32 طائرة هجومية، و14 طائرة شحن عسكري، إضافة إلى 15 طائرة تدريب.
فيما يصل إجمالي المروحيات العسكرية التي يمتلكها الجيش السوداني إلى 64 مروحية، من بينها 35 مروحية هجومية، ولديه 67 مطارا صالحا للاستخدام العسكري.
ويمتلك الجيش السوداني 233 دبابة، و343 مركبة لإطلاق الصواريخ، و75 مدفعا ذاتي الحركة، و125 مركبة سحب يدوي، وأكثر من 3,600 مركبة عسكرية متنوعة، إلى جانب أسطول بحري صغير يتراوح بين 10-12 قطعة، ويقود القوات المسلحة السودانية الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الحالي.
في عام 2018، أصبح البرهان قائدا للقوات البرية السودانية، وبعد ذلك بعام أصدر الرئيس السابق عمر البشير قرارا بتولي البرهان منصب المفتش العام للجيش وترقيته إلى رتبة فريق أول، وفي أعقاب الإطاحة بالبشير في أبريل/نيسان أصبح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي، ثم رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وهو المنصب الذي يشغله حتى اليوم.
على الجهة المقابلة، يقدر قوام قوات الدعم السريع بحوالي 100 ألف مقاتل، ولديها قواعد في كل ولايات السودان تقريبا، وتعد تطورا لميلشيا الجنجويد التي ظهرت كقوة رديفة للجيش خلال حرب دارفور الأولى عام 2003 لمواجهة الحركات المسلحة التي كانت تمردت بدعوى التهميش السياسي والتنموي، وكانت هذه الحركات قوامها الأساسي من القبائل الأفريقية مثل الزغاوة والفور، بينما تم تشكيل الجنجويد بشكل أساسي من القبائل العربية بقيادة موسى هلال (ابن عم حميدتي) زعيم قبيلة الرزيقات، التي تنقسم إلى ثلاثة فروع رئيسية، هي المحاميد والماهرية والنوايبة.
استمرت حرب دارفور الأولى حتى عام 2008، وخلفت 300 ألف قتيل ومليوني نازح حسب ما تقول الأمم المتحدة في حين تقول حكومة البشير السابقة إن العدد 10 آلاف. وقد اتهم ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية مسؤولين حكوميين وقادة الجنجويد بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب خلالها، وعلى إثر ذلك أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق الرئيس البشير عامي 2009 و2010.
وعندما اندلعت حرب دارفور الثانية عام 2013، تغير اسم ميليشيا "الجنجويد" إلى "قوات الدعم السريع" بعد أن تم إضفاء الشرعية عليها، وأصبح "حميدتي" قائدا لهذه القوات ورُقّي إثر ذلك إلى رتبة لواء وهو لم يبلغ بعد 40 عاما ولم يكمل تعليمه الأساسي.
قاد "حميدتي" خلال حرب دارفور الثانية حملتي "الصيف الحاسم 1″ و"الصيف الحاسم 2" عامي 2014 و2015، حيث ارتكبت قواته جرائم حرب شملت القتل والتعذيب والاغتصاب والإخفاء القسري، فضلا عن سلب ونهب الممتلكات.
وبحلول عام 2017، تصاعد الخلاف بين "البشير" و"هلال" ليقوم الأول بالإطاحة بالثاني واعتقاله بمعاونة "حميدتي"، وفي نفس العام صدر قانون ينص على تبعية قوات الدعم السريع للقوات المسلحة وأن تأتمر بأمر القائد الأعلى "البشير" الذي أصبح حميدتي من المقربين منه.
وجدير بالذكر أن "البرهان" أطلق سراح موسى هلال في مارس/آذار 2021 في خطوة وُصفت بأنها كانت بداية نشوب الخلاف بين قائد قوات الدعم السريع ورئيس مجلس السيادة، لاحقا وبعد اندلاع القتال في أبريل/نيسان 2023 أعلن "هلال" وقوفه إلى جانب الجيش في الصراع.
بفضل ثقة البشير، والمكانة الكبيرة التي حصدتها قوات الدعم السريع في نظامه، أصبح حميدتي المتحكم الأوحد في مناجم الذهب في دارفور، وبات يتربح منها من خلال شركة "الجنيد للأنشطة المتعددة" المسؤولة عن إدارة المنظومة المالية للدعم السريع ولحميدتي، بينما يمتلكها رسميا ولداه الاثنان إضافة إلى أخيه "عبد الرحيم دقلو"، في حين أن نائب قائد قوات الدعم السريع السابق "عبد الرحمن البكري" هو المدير العام للشركة.
كيف ازداد نفوذ وثراء حميدتي؟
يمثل الذهب أحد أهم مصادر دخل في البلاد، حيث بلغت صادراته عام 2021 حوالي 3 مليار دولار، ما جعل السودان يحتل المركز 28 على مستوى العالم. في غضون ذلك اتسعت مهام "قوات الدعم السريع" خارج حدود البلاد، حيث شاركت بفاعلية في حرب اليمن عام 2015، كما قاتلت أيضا في ليبيا إلى جانب اللواء "خليفة حفتر" في شرق البلاد.
نتيجة لكل ذلك، ازداد ثراء ونفوذ حميدتي، وكبر معه حجم وتسليح "قوات الدعم السريع"، وعندما دفع "حميدتي" أكثر من مليار دولار لـ"بنك السودان المركزي" لمساندة الدولة -حسب زعمه- بعد الإطاحة بالبشير وسئل عن مصدر الأموال، قال نصا "يسأل الناس من أين نأتي -نحن قوات الدعم السريع- بهذه الأموال، نحن لدينا رواتب جنودنا الذين يقاتلون في الخارج وأموالنا من الذهب والاستثمارات".
في عام 2019، وبعد أن شارك حميدتي في الإطاحة بالبشير، عين نائبا لرئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان الذي رقّاه إلى رتبة "فريق أول" قبل أن تندلع الحرب في 15 أبريل/ نيسان العام الماضي، ليقوم البرهان بعد ذلك بشهر واحد بإعفاء حميدتي رسميا من منصبه.
الحركات المسلحة في دارفور
بعيدا عن الجيش وقوات الدعم السريع، هناك عشرات الحركات والميليشيات المسلحة العاملة في السودان موجود معظمها في إقليم دارفور الذي غذت قضيته عدة عوامل تباينت بين الإثني والديني والسياسي.
وإقليم دارفور له أهمية جيواستراتيجية بفضل غناه بالموارد المهمة، خاصة الذهب الذي أضاف بعدا مهما للصراع، هذا فضلا عن موقعه الكائن غربي البلاد في بؤرة اشتباك إقليمي واسع، حيث يحده إلى الشمال الغربي" ليبيا"، وإلى الغرب "تشاد"، ومن الجنوب الغربي "أفريقيا الوسطى"، ومن الجنوب دولة "جنوب السودان".
وينقسم الإقليم إداريا إلى 5 ولايات، هي "شمال دارفور" وعاصمتها "الفاشر"، وولاية "غرب دارفور" وعاصمتها "الجنينة"، وولاية "وسط دارفور" وعاصمتها "زالنجي"، وولاية "شرق دارفور" وعاصمتها "الضعين"، وولاية "جنوب دارفور" وعاصمتها "نيالا"؛ ويقدر عدد سكان الإقليم بحوالي 10 ملايين نسمة.
ويجمع إقليم دارفور خليطا معقدا من المجموعات العرقية، وأبرزها في منطقة شمال دارفور: القبائل الأفريقية مثل "الفور" التي أعطت للإقليم اسمه، و"الزغاوة" المنحدرة من تشاد وتنتمي إليها عائلة الرئيس "إدريس ديبي"، والقبائل العربية مثل "الزيادية" و"الرزيقات".
أما منطقة "غرب دارفور" فتستوطنها قبائل أفريقية أبرزها "المساليت" و"التاما" و"الزغاوة"، بجانب قبائل عربية مثل "التعايشة" و"البني هلبة" و"السلامات"، ما يسلط الضوء على التوازن العرقي الهش في الإقليم.
هذا المزيج من التاريخ المعقد والأهمية الاستراتيجية والتباين الواسع حوّل الإقليم إلى مرتع للحركات المسلحة متعددة الأهداف والتوجهات. إحدى أقدم هذه الحركات هي حركة تحرير السودان التي أسسها "عبد الواحد محمد نور" في عام 2002 باسم "جبهة تحرير دارفور" قبيل حرب دارفور الأولى، وكان قوامها الأساسي من قبائل "الفور" التي ينتمي إليها "نور". وفي عام 2003 تم تغيير اسم الحركة إلى "حركة تحرير السودان" بعد انفتاح الحركة على القبائل الأفريقية الأخرى في الإقليم مثل "الزغاوة" و"المساليت".
الحركات المسلحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق
بعيدا عن الغرب، يبرز الجنوب السوداني بوصفه مركزا آخر للحركات المسلحة الفاعلة في السودان. تعود جذور معظم هذه الحركات إلى حرب جنوب السودان الثانية التي أشعلها العقيد يساري التوجه "جون قرنق" في عام 1983، والذي أسس "الجبهة الشعبية لتحرير السودان" وجناحها العسكري المسمى "الجيش الشعبي" للمطالبة بانفصال الجنوب بسبب ما اعتبره تهميشا من قبل الحكومات المركزية في الخرطوم.
انضم لتمرد قرنق أبناء جبال النوبة وجنوب كردفان والنيل الأزرق ضمن الفرقتين التاسعة والعاشرة، وقاتلت مختلف فرق "الجيش الشعبي" لأكثر من عقدين قوات "الجيش السوداني"، إلى جانب ميليشيا "المراحيل" التي شكلتها حكومة الصادق المهدي في منتصف الثمانينات، وقوات الدفاع الشعبي، وهي قوات شبه عسكرية أسسها البشير، كما شارك الجنجويد أيضا.
وبعد توقيع اتفاق نيفاشا للسلام عام 2005 الذي مهّد لانفصال الجنوب عام 2011، تم تجاهل مطالب الفرقتين "التاسعة" و"العاشرة"، فما كان منهما إلا الانشقاق وتأسيس ما عرف بـ"الجبهة الشعبية لتحرير السودان-قطاع الشمال" بقيادة "مالك عقار" ونائبه "عبد العزيز الحلو" والسياسي الذي كان مقربا من جون قرنق "ياسر عرمان".
في عام 2017 انقسمت الحركة مجددا إلى جناحين: "الجبهة الشعبية لتحرير السودان شمال-جناح عبد العزيز الحلو"، و"الجبهة الشعبية لتحرير السودان شمال-جناح مالك عقار) والذي انضم إليه ياسر عرمان. وفي أغسطس/آب 2022 انشق جناح "مالك عقار" مجددا وخرج نائبه "ياسر عرمان" الذي شغل منصب المستشار السياسي لحكومة عبد الله حمدوك مكونا "الحركة الشعبية لتحرير السودان-التيار الثوري الديمقراطي"، هذا وتتركز القوات العسكرية التابعة لمالك عقار في إقليم النيل الأزرق.
بعد انضمام "عقار" لاتفاق جوبا للسلام عُيّن عضوا بمجلس السيادة الانتقالي، وفي أعقاب اندلاع الحرب الحالية جرى ترفيعه ليصبح نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وتزامنا مع ذلك أعلنت حركة عقار خروجها من الحياد الذي اختارته في أول الصراع والقتال إلى جانب قوات الجيش السوداني قبل عام تقريبا.
أما جناح "عبد العزيز الحلو"، والذي تتركز قواته في جبال النوبة/جنوب كردفان، فقد رفض الانضمام لاتفاق جوبا للسلام، وفي عام 2021 تم التوقيع على "إعلان مبادئ" بين "البرهان" و"الحلو" برعاية رئيس دولة جنوب السودان "سلفاكير ميارديت".
وقد التزمت "الحركة الشعبية لتحرير السودان-جناح عبد العزيز الحلو" الحياد في بداية الصراع، ولكن بعد حوالي شهرين قامت الحركة باستهداف معسكرات للجيش السوداني في مدينة "كادوقلي" عاصمة ولاية "جنوب كردفان" وإن توقفت بعد ذلك، مع العلم أن "الحلو" ينحدر من قبيلة "المساليت" التي تمتلك خلافات تاريخية مع قبيلة "الرزيقات"، القبيلة الأم التي ينتمي إليها حميدتي.
في الختام، كانت الحركات المسلحة تاريخيا عاملا فاعلا في المشهد السوداني، وأصبحت رقما مهما في معادلة القوة في البلاد، وشكّل تحالف بعضها مع الجيش السوداني، مثل حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وجيش تحرير السودان بقيادة ميني أركو مناوي؛ تحولا مهما في ديناميات الصراع، وقيمة مضافة كبيرة كان لها أثر فعال في تحولات المشهد الميداني لصالح القوات المسلحة في الأشهر الأخيرة.